تواصل الإدارة الأميركية، بإشراف مباشر من الرئيس جو بايدن، حتى بعد أسبوع على بدء العملية البرية في قطاع غزة، توفير الدعم لإسرائيل. يُكرّر الرئيس الأميركي ومسؤولون آخرون في إدارته أن إسرائيل تملك الحق والواجب لحماية مواطنيها. كما أن البيت الأبيض يتفق بصورة عامة مع أهداف الحرب التي وضعتها إسرائيل: هزيمة حركة “حماس”. لقد عاد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى تكرار ذلك في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع وزراء الخارجية العرب في 4 تشرين الثاني/أكتوبر. كما أن هناك حواراً شاملاً ومتواصلاً يدور بين القيادة الإسرائيلية والولايات المتحدة، وعلى ما يبدو، فهو يتمحور حول القضايا التالية:
المساعدات الإنسانية لقطاع غزة:
يبدو أن إسرائيل كيّفت سياساتها وفق مطالب الإدارة الأميركية، وأن الحديث يتركز الآن على مطالبة الإدارة بالسماح بهدنة إنسانية، وذلك بصورة أساسية، بهدف إتاحة المجال لإطلاق سراح المختطفين، على الرغم من أنه لم يتم حتى الآن، وفقاً للتصريحات العلنية، التوصل إلى تفاهمات. وفي أي حال، فإن الإدارة الأميركية تركز على أن المقصود ليس وقفاً لإطلاق النار ترى أنه سيخدم مصلحة حركة “حماس”.
الالتزام الصارم بقوانين الحرب:
التمييز بين العدو والمدنيين، ومحاولة تجنُّب التسبب بالأذى للمدنيين، بقدر الإمكان. لقد طالبت الإدارة بإدراج هذه الاعتبارات في الخطط العملياتية الميدانية، ويبدو أن الإجراءات الإسرائيلية الآن، وخصوصاً فيما يتعلق بالفصل بين شمال قطاع غزة وجنوبه، فضلاً عن تحديد “مناطق آمنة” للسكان المدنيين، كافية لتلبية التوقعات الأميركية.
الاهتمام بمسألة اليوم التالي للحرب:
في هذا الشأن، تبرز الفجوة بين الرئيس بايدن وإدارته، وبين إسرائيل. في هذا السياق، قال بلينكن بعد لقائه رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله: “في اليوم التالي، وإزاء كل ما يتعلق بمستقبل قطاع غزة والضفة الغربية، فإن رؤى وأصوات ومطامح الفلسطينيين يجب أن تكون في قلب الاهتمام”. ليس من الواضح كم ستؤثر هذه الفجوات في طول نفَس الإدارة الأميركية تجاه إسرائيل، على الرغم من أنه من الواضح أن انعدام الرغبة الإسرائيلية في مناقشة هذه القضية قد يؤثر سلباً في الصبر الأميركي على استمرار الأعمال القتالية، وتفاقُم شكوك الولايات المتحدة في مخططات إسرائيل بشأن “اليوم التالي للحرب”.
دوافع الإسناد الأميركي
إن الدعم العاطفي الذي قدمه الرئيس بايدن لإسرائيل، والانطباع المؤلم الذي تركته هجمة “حماس” على الرئيس، حسبما كان واضحاً في خطاباته التي ألقاها، تضامناً مع إسرائيل، تشهد على أن ما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر ليس مجرد جولة أُخرى من القتال، في رأيه، بل هو حدث كبير، لم يتسبب بإعادة تشكيل الهوية الإسرائيلية فقط، بل أيضاً ستشمل آثاره الساحتين الإقليمية والدولية أعواماً طويلة في المستقبل. ويعود ذلك إلى تداعيات الحرب على الصراع العالمي بين “الأخيار” و”الأشرار”: “محور الشر” الجديد الذي يشمل، في نظر الرئيس بايدن، الصين وروسيا وإيران، والجهات التي تدعمها هذه الدول.
وعملياً، إن إبداء الالتزام تجاه الحليفة إسرائيل، هو عملياً ونظرياً، موقف مشتق من موقف الرئيس بايدن الذي يقول إن على الولايات المتحدة الدفاع عن حلفائها، على غرار موقف الإدارة في دعمها لأوكرانيا منذ بداية حربها مع روسيا.
علاوةً على ما تقدّم، ترى الإدارة الأميركية في هذه الحرب فرصة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط من جديد. لقد صرّح بايدن فعلاً بأنه لا يجب العودة إلى “حالة الوضع الذي كان قائماً قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر”. ومن وجهة نظره، إن هزيمة “حماس” ستساهم في تعزيز منظوره القاضي بتقوية الدول المعتدلة في الإقليم، والدفع قدماً في اتجاه حل سياسي للقضية الفلسطينية، وتعزيز العلاقات التطبيعية بين إسرائيل والدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. وفي المقابل، من الواضح لإدارة بايدن أن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها في القتال ضد حركة “حماس”، سيعزز دوافع إيران وحزب الله إلى تحدّي إسرائيل، وفي الوقت نفسه، فإن الأمر سيؤثر في مكانة الولايات المتحدة في الإقليم وخارجه.
لموقف الإدارة المذكور آنفاً، معانٍ فيما يتعلق بالساحة الأميركية الداخلية: فعلى الرغم من تصاعُد الأصوات المعارِضة للحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، وتأثير ذلك، بالتالي، في الدعم الأميركي لإسرائيل، فإن سلوك الرئيس يعزز صورته كزعيم قوي، وخصوصاً على عتبات افتتاح السنة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة.
إن موقف إدارة بايدن هو الذي سيحسم طول النفَس، الذي يتيح الدفع قدماً في اتجاه تحقيق أهداف الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد “حماس”. وبناءً عليه، يجب على إسرائيل تركيز جهودها، بصورة لا تقل عن جهودها المبذولة عسكرياً، في ضمان استمرار الدعم الأميركي على امتداد الفترة التي تحتاج إليها لتحقيق أهدافها العسكرية
أما الاعتبارات التي تؤثر في الإدارة الأميركية فهي الآتية:
سَير العملية العسكرية:
الإدارة الأميركية معنية بنجاح الحملة العسكرية. فهناك مسؤولون أميركيون قدّموا (ويقدمون) النصح لإسرائيل، لكن يبدو أنهم لا يملكون في أيديهم خطة عسكرية بديلة وناجعة، تضمن نجاح الحملة. إن “مراوحة الجيش الإسرائيلي مكانه” من دون وجود تقييم، مفاده أنه جرى تقدُّم نحو تحقيق هدف هزيمة “حماس”، قد يقلل من رغبة الإدارة في الاستمرار في منح إسرائيل الوقت. من المحتمل أنه يوجد أيضاً فارق بين الوقت اللازم لتحقيق الأهداف العسكرية، بحسب التصريحات الإسرائيلية (أشهر، وربما أكثر)، وبين مطالب الإدارة (بضعة أسابيع، كحد أقصى). ويجب التأكيد هنا أن الإدارة لا تخوض نقاشاً علنياً مع إسرائيل في الجوانب العسكرية للحرب، على الرغم من أن وسائل الإعلام الأميركية نشرت أخباراً عن انتقادات معينة وجّهتها الإدارة إلى إسرائيل في هذا الشأن.
الحالة الإنسانية السائدة في قطاع غزة:
بصورة أساسية، تبذل الإدارة الأميركية، الآن، جهوداً تهدف إلى إبراز أهمية ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ويشمل ذلك الجهود المبذولة للتوصل إلى “هدنة إنسانية”، تقول الإدارة أنها ستساهم في جهود إطلاق سراح المختطفين، وتساعد سكان القطاع، ولا تؤذي الجهد الحربي الإسرائيلي ضد حركة “حماس”. في هذه الأثناء، تعارض الإدارة وقف إطلاق النار، لكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن وقوع حادثة يسقط فيها عدد كبير من المدنيين (على غرار ضرب مستشفى مثلاً)، أو أزمة إنسانية خطِرة [تفشّي وباء)، سيدفع الإدارة إلى المطالبة بوقف إطلاق النار.
تدهور إقليمي:
تبذل الإدارة جهوداً كبيرة للحؤول دون وقوع تدهور إقليمي. لقد جرى تشخيص مثل هذا الخطر فور تنفيذ هجمة “حماس” في النقب الغربي، وتم إطلاق رسائل رادعة إلى إيران وحلفائها، للحؤول دون توسيع نطاق المعركة، إذ جرى تمرير هذه الرسائل عبر عدة وسائل. يبدو أن الخوف من نشوب حرب إقليمية، ذات آثار عالمية إشكالية، هو ما يوجّه الإدارة في الوقت الحالي إلى احتواء هجمات حلفاء إيران على أهداف أميركية في العراق وسورية. ومع ذلك، فإن التصعيد في المواجهة بين إسرائيل وحزب الله، أو العمليات الموجهة ضد أهداف أميركية في العراق وسورية (وخصوصاً إذا أسفرت عن وقوع عدد كبير من الضحايا)، ستجبر الإدارة الأميركية على الرد.
سلوك الحكومة الإسرائيلية:
المنطق الذي يطرحه بايدن كأساس لدعم العمل العسكري الإسرائيلي، هو أن نجاحه سيفتح الباب أمام عملية تسوية سياسية إسرائيلية – فلسطينية، تخدم رؤية “دولتين لشعبين”. وحتى لو لم يكن واضحاً ما إذا كان مثل هذا الهدف قابلاً للتحقق، فمن المهم، بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، أن تتصرف الحكومة الإسرائيلية بمسؤولية، وتمتنع من اتخاذ إجراءات في الضفة الغربية، من شأنها إعاقة تحقيق هذه الرؤية. يطلق الناطقون باسم الإدارة تصريحاتهم الصارمة ضد عنف المستوطنين الذي يستهدف السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، خوفاً من أن تؤدي هذه الظاهرة إلى تآكل القدرة الأميركية على تقديم الدعم لإسرائيل، على المستويَين اللوجستي والمعنوي. وعلاوةً على ما تقدم، من المحتمل أن الإدارة تعمل استناداً إلى الافتراض القائل إن الواقع السياسي الداخلي في إسرائيل سيتغير بعد الحملة العسكرية، وهذا ما سيتيح ترويج تحرُّك سياسي- دبلوماسي. إن إدراك الإدارة الأميركية أن إسرائيل ليست مستعدة لهذا الأمر، وأنها تتصرف بصورة واعية ضد منطق التسوية السياسية في اليوم التالي للحرب، سيجعل من الصعب على الإدارة تقديم الدعم لها في المراحل المقبلة من الحملة العسكرية.
قضايا أميركية داخلية:
حتى لو لم تبدِ الإدارة الأميركية، حالياً، قلقاً بشأن عواقب سياساتها على مكانة الرئيس السياسية، عشية انطلاق سنة الانتخابات الرئاسية، فمن الواضح فعلاً أن الإدارة الأميركية الحالية ستواجه، مع ازدياد أعداد الضحايا المدنيين والدمار في القطاع، انتقادات متصاعدة للدعم الذي توفره لإسرائيل، وخصوصاً من جانب فئات محسوبة، تقليدياً، على الحزب الديمقراطي. إن استطلاعات الرأي التي تُجرى في الولايات المتحدة، تشير إلى ازدياد الانتقادات في أوساط الناخبين الديمقراطيين من فئة الشباب، إلى جانب خسارة الدعم المبدئي للإدارة في أوساط الناخبين المسلمين، وخصوصاً في ولايات مثل ميتشيغِن (يمثل المسلمون 3% من سكانها)، الأمر الذي قد يقلب الموازين في الانتخابات الرئاسية 2024. يُذكر أن وسائل إعلام أفادت بوجود “تمرّد” متنامٍ في وزارة الخارجية الأميركية، تقوده جهات تنتقد سياسات إدارة بايدن.
رؤى وتوصيات:
بعكس ما حدث في جولات المواجهات الإسرائيلية – الفلسطينية السابقة (وخصوصاً بين إسرائيل وحركة “حماس”)، حين كانت الفجوة بين وسائل الإعلام والرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة الانتقادية تجاه إسرائيل تؤثر في مواقف قيادات هذه الدول، وتقلص دعمها لإسرائيل بسرعة، فقد ظلت قيادات هذه الدول متمسكة بدعم إسرائيل طوال الأسابيع التي مرّت منذ بدء الحرب ضد “حماس”، على الرغم من تصاعُد الانتقادات الشعبية واتساعها. من الواضح أن الرئيس بايدن وإدارته يقودان هذا التوجه باقتدار وعزم، علناً على الأقل، (إذا ما استثنينا الخلافات المتعلقة بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة). لا توجد هنا فوارق كبرى في المواقف بين الإدارة الأميركية وأغلبية القيادات الأوروبية، وإسرائيل.
من الناحية الإسرائيلية، إن موقف إدارة بايدن هو الذي سيحسم طول النفَس، الذي يتيح الدفع قدماً في اتجاه تحقيق أهداف الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد “حماس”. وبناءً عليه، يجب على إسرائيل تركيز جهودها، بصورة لا تقل عن جهودها المبذولة عسكرياً، في ضمان استمرار الدعم الأميركي على امتداد الفترة التي تحتاج إليها لتحقيق أهدافها العسكرية في مواجهة حركة “حماس”، وفي الوقت نفسه، الاستمرار في ردع حزب الله عن الدفع في اتجاه تصعيد سيؤدي إلى نشوب حرب واسعة النطاق على الجبهة الشمالية.
يتمثل الهدف المباشر في الحؤول دون تصاعُد الدعوات المنادية بوقف إطلاق النار في قطاع غزة. من الواضح للإدارة الأميركية، حتى الآن على الأقل، أن وقف إطلاق نار (بعكس الهدن الإنسانية القصيرة الأمد)، قد يزيد في الضغوط الداعية إلى وقف الأعمال القتالية وإتاحة المجال أمام حركة “حماس” للتعافي، واستعادة جزء من قدراتها الإدارية والعسكرية، وهو ما ترفضه الإدارة. صحيح أن إسرائيل لا تملك القدرة على التأثير بصورة مباشرة في جزء من الأطراف التي تفرض مواقف الإدارة الأميركية، لكن على إسرائيل استمرار تسليط الضوء على جهدها المتمثل في الالتزام بمبادئ المساعدات الإنسانية وحياة المدنيين في قطاع غزة، ما دامت أهداف القتال معروضة بوضوح، وبمصطلحات واقعية، وتثبت أنها قابلة للتنفيذ، الأمر الذي يزيد في فرص استناد الإدارة الأميركية إليها للمحافظة على دعمها لإسرائيل.
وحتى في ظل هذا الواقع السياسي الإشكالي الذي تعيشه إسرائيل، فلا بد من تقديم مخطط سياسي واقعي، يضع في الاعتبار المصالح والأفكار الأميركية. في هذا السياق، يتوجب على الناطقين الرسميين الإسرائيليين، على وجه الخصوص، الامتناع من إطلاق التصريحات التي تشكل وقوداً لمعارضي إسرائيل، وأسباباً داعية إلى التراجع عن دعمها. من المهم للغاية التفكير بصورة ملموسة في مسألة “اليوم التالي للحرب”، مع تجنُّب إطلاق التصريحات الضارة (وغير الواقعية)، على غرار “احتلال القطاع”، أو “تهجير الفلسطينيين”.
(*) المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية