“طوفان غزة”.. إعادة كتابة تاريخ الشعب الفلسطيني (2/2)

في الجزء الأول من هذه المقالة، لخّصت سيرة شعب تم اقتلاعه من أرضه حتى يحل محله شعب مستورد من الخارج، وخلصت إلى السؤال الآتي: هل كان لمثل هذه السياسات، طوال قرن من الزمن إلا أن تنتج خيارًا مثل 7 تشرين/أكتوبر؟ أما في الجزء الثاني والأخير، فأحاول وضع "طوفان الأقصى" في سياقه التاريخي.. والراهن.

لا يمكن للسياسات الإسرائيلية الإرهابية العنصرية سواء في إسرائيل أو القدس أو الضفة الغربية أو غزة أو مع فلسطينيي الشتات، إلّا أن تولّد انفجاراً، كما حصل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهو ما عبّر عنه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس حين قال إن عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر “لم تأتِ من فراغ”.

أتت عملية “طوفان الأقصى” تعبيراً عن انسداد الكثير من الآفاق أمام القضية الفلسطينية وعن تعرضها لعدوان إسرائيلي متدحرج يقضم شيئًا فشيئًا أرض الشعب الفلسطيني وحقوقه على نحوٍ يقضي مع الوقت على أي فرصة لاستعادة هذا الشعب ولو جزءًا من حقوقه، ولم يبقَ أمامه إلا خيار المقاومة لاستعادة حقوقه.

لقد أنشئ الكيان الصهيوني بوظيفة عسكرية وسياسية إقليمية في قلب الوطن العربي في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، وهي حماية المصالح الغربية في المنطقة وتشكيل نموذج “حضاري ديموقراطي” يجتذب الشباب العربي، ويُزيّن فكرة القومية الدينية لتفتيت الكيانات العربية المفتتة أساساً إلى كيانات تشبه الكيان الصهيوني وترفض الآخر.

وكانت قوة إسرائيل المزعومة يُراد لها أن تبني وعي الجيل الجديد على فكرة الهزيمة والاستسلام وبالتالي حتمية التطبيع، والتنازل عن فلسطين التاريخية، وفي أحسن الأحوال الحصول على شبه دولة في ما تبقى منها بعد الاحتلال والاستيطان عبر ما يسمّى حلّ الدولتين.

عملية “طوفان الأقصى” كانت نتيجة لعقود من الظلم والقمع والحصار والتجويع. وقد عرّت إرهاب الكيان الغاصب ومن يسانده، وكشفت زيف ادّعاءاتهم بأن صراعهم مع العرب قائم على أساس “حضاري”، بناء على مفهوم “صراع الحضارات” الذي تحدث عنه صموئيل هنتغتون في مقاله صيف 1993. بل إن بنيامين نتنياهو سبقه في نيسان/أبريل من العام نفسه بنشر كتاب تحت عنوان “مكانة تحت الشمس” عرض فيه رؤيته للمشروع الصهيوني في إطار منظومة صراع الحضارات، معتبراً أن هذا المشروع هو جزء من الحضارة الغربية التي تعيش في صراع حضاري مع الحضارة العربية والإسلامية. وهذا جزء من الغزو الإيديولوجي الذي يعمل على كيّ الوعي لدى الشباب العربي وايهامه أن النصر مستحيل، ويقدّم الصهيونية بوصفها مشروعاً تحديثياً، ويُنظّر للصراع مع الفلسطينيين والعرب بوصفه صراعاً حضارياً محضاً. وبالتالي نزع أي إنسانية عن الفلسطينيين، ووصفهم بأنهم “وحوش بشرية”، و”حيوانات” يستحقون القتل!

على كلٍ، لم يخطئ نتنياهو في نسبة وحشية الأعمال التي قام بها الكيان الذي ينتمي إليه إلى الحضارة الغربية التي على النقيض من ادّعائها الحداثة ومن التنوير، هي منبع الشرّ والإجرام، من إبادة السكان الأصليين في أميركا وأستراليا، واستعباد الشعوب الإفريقية، واستخدام القنابل النووية، وقتلها الأطفال ودعم المنظمات الإرهابية وسرقة ثروات الشعوب إلى ما لا يعدّ ويحصى. لذلك، هم يصفقون للمجازر الوحشية التي يرتكبها الصهاينة في غزة ويصفونها بالدفاع عن النفس.

أما كان من الأجدى الاعتراف بحقوق العرب في فلسطين (ولو منقوصة)، وتخفيف الحصار ووقف انتهاكات المسجد الأقصى وتحرير الأسرى والعمل لحلّ سلمي يُخفّف من التوتر ومن الشحن النفسي لدى الفلسطينيين؟ كان لا بد لهذا الصلف الإسرائيلي أن يؤدّي إلى تمسك العرب بهويتهم وحقوقهم، وإلى بذلهم الدماء والأرواح في مواجهة القهر والتدمير والتهجير والإذلال. هذا الشعب الحي الثائر واثق أنه على حق، وواثق أن قوة الأعداء لا تعني أنهم على حق، كما كان يُردّد الكاتب اللبناني الراحل جوزيف سماحة. إن العقوبات والحصار وعدم الإعتراف بالحقوق، لا يؤثرون على ما تقاوم من أجله، ولا يؤثر في شرعية أن تقاوم. إن الهزيمة ليست قدراً، والإنتصار ممكن شرط توفر الهمة والإرادة.

لقد أعاد هذا “الطوفان” إحياء القضية الفلسطينية بعد أن طمستها اتفاقيات الاستسلام والتطبيع، وجولات الهزيمة المرّة. فخلال ساعات قليلة فقط تحوّل الكيان الصهيوني، ذراع الإمبريالية الغربية الضاربة والمتقدمة، إلى مجرد هيكل، بلا فكرة ولا وظيفة، إلى درجة استوجبت تدخلًا أمريكيًا وغربيًا مباشرًا وشاملًا للحدّ من الخسائر

لقد شكّل “طوفان الأقصى” زلزالاً هائلاً بمفاعيله بعيدة المدى على المستويين الإقليمي والعالمي، وهو طوفان على المستويات العسكرية والسياسية والجيوسياسية. كذلك شكّل “طوفان الأقصى” مُحفّزاً للوعي العربي بأن الثورة ممكنة والحق لا يموت طالما وراءه مطالب، وأن التحرير لا يكون من دون دماء.

لقد أعاد هذا “الطوفان” إحياء القضية الفلسطينية بعد أن طمستها اتفاقيات الاستسلام والتطبيع، وجولات الهزيمة المرّة. فخلال ساعات قليلة فقط تحوّل الكيان الصهيوني، ذراع الإمبريالية الغربية الضاربة والمتقدمة، إلى مجرد هيكل، بلا فكرة ولا وظيفة، إلى درجة استوجبت تدخلًا أمريكيًا وغربيًا مباشرًا وشاملًا للحدّ من الخسائر، بلغ حد حضور الرئيس الأمريكي جو بايدن اجتماع الحكومة الصهيونية وإشرافه على قراراتها، ومشاركة وزير خارجيته أنتوني بلينكن في اجتماع مجلس الحرب الصهيوني لأكثر من سبع ساعات.

إقرأ على موقع 180  شركات الأسلحة الأميركية والإسرائيلية تعيش على الدماء

وبالفعل، كان هذا “الطوفان” تعبيراً عن تحول كبير على يد مقاومة شعبية، تُكافح من أجل فك الحصار عن شعبها ومن أجل تحرير أرضها المحتلة منذ أكثر من سبعة عقود، وتمتلك أسلحةً، بعضها بدائي والبعض الآخر صناعة يدوية، لكنها تمتلك إرادة القتال لأنها صاحبة حق وإرادة، تجتمع عليها أقوى جيوش الأرض دفاعًا عن غاصب محتل.

التحول طال بشكل أساسي صورة إسرائيل ووظيفتها، وكسر هيبتها. فلم تعد تلك الدولة القوية القادرة على الدفاع عن نفسها وحماية مواطنيها، ولم تعد ذلك المكان الآمن للمهاجرين اليهود، كما تشوّه دورها باعتبارها القلعة الحصينة المنيعة التي تحمي مصالح الغرب الإمبريالي في منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي ما حدث في عملية “طوفان الأقصى” مثَّل تهديدًا وجوديًا لهذا الكيان ووظيفته في المنطقة. وهذا ما دفع الولايات المتحدة إلى المجيء إلى «إسرائيل» بآلاف الأطنان من الأسلحة والقنابل ذات القدرات الاختراقية والتفجيرية الهائلة، وبمئات لا بل آلاف الجنود والضباط ذوي الخبرة في حروب المنطقة كالحرب في العراق، وفي أسلحة الدفاع الجوي، مثلما جاءت بحاملات طائراتها وبوارجها الحربية، لقيادة المعركة بنفسها ضد غزة وكل من يتدخل لنصرتها.

إن الردّ الإسرائيلي على قطاع غزة تجاوز أقصى الحدود، وأخرجت إسرائيل من جعبتها كل النزعة العنصرية التي تحكم الرؤية الصهيونية للعرب والمسلمين. ما يحصل لا يمكن توصيفه بمعركة حربية بل هو ردّ انتقامي وحشي غير مسبوق ضدّ المدنيين باستخدام الأسلحة المحرمة دولياً وبارتكاب جرائم ضد الإنسانية عديدة منها التهجير القسري وقصف البيوت المدنية والمؤسسات والمستشفيات وقتل الأطفال والنساء وقطع المياه ومنع الدواء والطعام والوقود والكهرباء عن القطاع وصولاً إلى جريمة الإبادة الجماعية لسكان القطاع. هي بالتأكيد إبادة جماعية حيث يجري القتل الجماعي دون ذنب بل بسبب أنهم فلسطينيون، للقضاء نهائياً على وجودهم في القطاع. وقد صرّح الإسرائيليون أن “الخطيئة الأصلية” تتمثل في أنهم لم يطردوا كل العرب من فلسطين. وهم يعاملونهم وكأنهم لا يستحقون إلا الاحتقار والمهانة. كل هذا مع مساندة الولايات المتحدة والعديد من الدول لإسرائيل في ارتكاب جرائم الحرب هذه، ومع سردية تقوم على الأكاذيب لخداع الرأي العام العالمي حول حقيقة جريمة العصر هذه.

لا شك أن عملية “طوفان الأقصى” ستعيد كتابة تاريخ شعب يعاني منذ سبعة عقود وسيعيد تقويم الوعي العربي والفلسطيني باتجاه مفهوم المقاومة طريقاً لاسترداد الحقوق.

(*) راجع الجزء الأول من هذه المقالة: “طوفان غزة”.. له أسبابه ومساراته

Print Friendly, PDF & Email
هالة أبو حمدان

أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  منتدی التعاون الإيراني ـ الخليجي.. مشروع طموح ولكن!