غداة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ومع تحول الجبهة اللبنانية إلى جبهة مساندة للمقاومين في غزة، روّجت “إسرائيل” لتعديل القرار 1701 وتحديداً لإبعاد حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، أي ما يزيد عن أربعين كيلومتراً عن الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة. وشهد لبنان زحمة مبعوثين دوليين (و”الخير لقدام” حسب المثل العامي) تبنوا الموقف “الإسرائيلي” في يد وعصا التهديد في يد أخرى، محذرين من عواقب عدم التجاوب مع الرغبة “الإسرائيلية”. من هنا تطرح العديد من التساؤلات، هل ماتت مفاعيل هذا القرار؟ وهل بالامكان تعديله؟
أول من أثار موضوع مفاعيل هذا القرار هو الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عندما تساءل في أحد خطابيه خلال حرب “طوفان الأقصى”، لماذا تنتشر قوات “اليونيفيل” فقط على الجانب اللبناني من الحدود؟ وقد حمل سؤاله إشارة كانت بمثابة رد على مخاوف المستوطنين على الحدود مع لبنان من العودة إلى المستوطنات الشمالية من دون معالجة وجود حزب الله “تحت النوافذ” عندهم، بحسب أحد رؤساء بلديات المستوطنات.
ويتم حالياً تسليط الضوء على الفقرة التي تُجيز لقوات “اليونيفيل” مراقبة ومنع وجود سلاح غير السلاح الشرعي اللبناني (جيش وأجهزة أمنية لبنانية رسمية بحسب التفسير الأمريكي/”الإسرائيلي” الضمني) في منطقة عملياتها الممتدة من نهر الليطاني شمالاً إلى الحدود مع فلسطين المحتلة جنوباً، ومساعدة الدولة اللبنانية على تعزيز وجودها في هذه المنطقة وحماية الأمن والاستقرار فيها عبر التأكد من أن طرفي الصراع لا يخرقان خط الإنسحاب “الإسرائيلي” الذي رسّمته الأمم المتحدة عام 2000 وسُمي بـ”الخط الأزرق”. لكن ما حصل منذ بدء تنفيذ هذا القرار قبل 17 عاماً أن “إسرائيل” تعاملت مع قوات “اليونيفيل” بوصفها جزءاً لا يتجزأ من قوتها العسكرية الإستطلاعية في جنوب لبنان، إذ أنها واظبت على خرق السيادة اللبنانية (الخط الأزرق) على نحو يومي، براً وبحراً وجواً، وتجاهلت كل الشكاوى اللبنانية والأممية من دون أن يرف لها جفن، فيما كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها إن خُرِقَ “الخط الأزرق” من الجانب اللبناني سواء براع أفلت منه قطيعه هنا أو بمزارع يعمل في أرضه هناك، أو في أقصى الأحوال إذا تعرّض مستوطنوها للرشق بالحجارة من بضعة صبية قرب الشريط الشائك.
لننتظر مجريات حرب غزة. إن تمكنت المقاومة من فرض وقف لإطلاق النار وإجبار العدو على التفاوض بشأن تبادل الأسرى العسكريين، فهذا مكسب كبير للمقاومة في لبنان سيترجم بتعديلات على القرار 1701 لمصلحة لبنان، وعدم كسب المقاومة الفلسطينية للحرب سيجعل لبنان أكثر تشدداً في اجراء تعديلات لمصلحته
ودأبت قوات “اليونيفيل” منذ العام 2006 على تشغيل عدّاد الخروقات “الإسرائيلية” وتُقدر بعشرات الآلاف طوال الفترة السابقة، حتى أنها كانت تتعرض لمضايقات من الجيش “الإسرائيلي” بلغت حد قتل جندي دولي يحمل الجنسية الإسبانية بقصف من دبابة “إسرائيلية” على موقعه عند أطراف بلدة العباسية على الحدود اللبنانية قبل أكثر من عشر سنوات من دون أن تتم محاكمة أي أحد في الجانب “الإسرائيلي”، لا بل خضعت “اليونيفيل” لهذا الأمر من دون الحد الأدنى الذي يحمي حق الجندي الإسباني القتيل، أما عندما قتل جندي دولي من الجنسية الإيرلندية في حادث فردي مع مجموعة شبان قبل عام تقريباً في منطقة العاقبية التي تقع على بعد عشرة كيلومترات شمال منطقة عمليات “اليونيفيل”، وفي طريق غير معتادة لسلوك قواتها ومن دون ابلاغ الجيش اللبناني عن حركتها على تلك الطريق، فقد لاحقت “اليونيفيل” الموضوع إلى أن تم إلقاء القبض على الشاب الذي اتهم بارتكاب الحادث وتم سجنه قبل أن يُخلى سبيله بسند كفال قبل شهر تقريباً بسبب وضعه الصحي المتدهور، أي أنه ما يزال يخضع للمحاكمة ولو أنه خارج السجن.
هناك الكثير من الأمثلة على محاولات الولايات المتحدة الأمريكية تحويل “اليونيفيل” إلى قوات استطلاع عسكرية دولية في جنوب لبنان، ولعل أبرزها المحاولة التي جرت قبل ثلاثة أعوام لنشر كاميرات متطورة وحديثة على أسوار مواقع “اليونيفيل” بذريعة التحسب من أية هجمات، (خلال 17 عاماً من تنفيذ القرار 1701 لم يتعرض أي موقع لقوات “اليونيفيل” لهجوم من الجانب اللبناني)، وقد رُصدت لهذه الكاميرات موازنة معتبرة بملايين الدولارات، وكان يُفترض أن تخضع لغرفة عمليات داخل مقر قيادة “اليونيفيل” في الناقورة ومن هناك تتم السيطرة عليها بالتحكم عن بعد، وبامكانها ان تتحرك بزاوية 360 درجة وعندها القدرة على الرؤية الليلية والحرارية، وقد اسقطت الحكومة اللبنانية هذه المحاولة عندما رفضت نشر الكاميرات بالرغم من الإلحاح الأمريكي والغربي.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تمكن أهالي قرى جنوبية أكثر من مرة من الامساك ببعض جنود “اليونيفيل”، وهم يقومون بتصوير بعض الأماكن الحسّاسة، ومنها بيوت قادة في المقاومة وسياراتهم، وتم العثور على صور لهذه الأماكن في ذاكرة كاميراتهم.
من خلال كل ما سبق، بالإمكان الملاحظة أن تطبيق القرار 1701 ومنذ اللحظة الأولى لإعلانه كان يخضع للاستنسابية بصورة أساسية عند القوات الدولية والدول ذات النفوذ والى منطق صيف وشتاء تحت سقف واحد، أما موضوع السلاح الشرعي اللبناني، فقد خضع تفسيره أيضاً للإستنسابية، ففي حين انحاز التفسير الدولي لفكرة أن سلاح المقاومة هو سلاح غير شرعي، فإن كل الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ العام 2006 أسقطت أي تأويل أو تفسير بشأن شرعية سلاح المقاومة وأسبغت الشرعية على هذا السلاح من خلال ثلاثية “الشعب والجيش والمقاومة” كقاعدة لحماية لبنان تضمنتها معظم البيانات الوزارية وكانت تنال الحكومات ثقة البرلمان اللبناني على أساسها، كما أنها أصرت على حق الدولة اللبنانية في إبقاء حركة قوات “اليونيفيل” في جنوب لبنان تحت عيون الجيش اللبناني برغم محاولات أمريكية وغربية عديدة في مجلس الأمن لتحرير “اليونيفيل” من هذه المراقبة عبر ضغوطاتها في مجلس الأمن الدولي للتوصل في العام الماضي إلى صيغة “حرية حركة اليونيفيل مع أو من دون الجيش اللبناني” التي سارع قائد “اليونيفيل” اللواء أرولدو أثارو إلى تجاوزها قبل أن يجف حبر البيان الدولي بإصدار بيان يؤكد فيه أن قواته لن تتحرك من دون تنسيق مع الجيش اللبناني، وعاد مجلس الأمن الدولي هذه السنة خلال التجديد لقوات “اليونيفيل” إلى اعتماد صيغة “حرية حركة اليونيفيل مع أو من دون الجيش اللبناني.. ولكن بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية”.
بناء على ما سبق، فإن العدو “الإسرائيلي” مدعوماً من الولايات المتحدة قتل القرار 1701 منذ اللحظة التي عمل فيها على تحويله إلى مجرد أداة لمحاصرة المقاومة وشل حركتها في الدفاع عن لبنان، فيما هو يواصل استباحة السيادة اللبنانية، براً وبحراً وجواً. كما أن فكرته عن إبعاد حزب الله إلى شمال الليطاني ليست بجديدة، إذ حاول تمريرها خلال العدوان على لبنان عام 2006 لكنه فشل، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن دعم هذه الفكرة من بعض الدول الغربية ينم عن جهل مطبق في التركيبة الاجتماعية لحزب الله وتتعامل معه وكأنه جيش قادم من المريخ وليس جزءاً من نسيج البيئة الإجتماعية التي يتكون منها الجنوب اللبناني، فعناصر هذا الحزب هم المزارع والفلاح والمُدرّس وصاحب الدكان في القرى الواقعة جنوب نهر الليطاني.
أما عن السؤال الثاني، هل بالإمكان تعديل هذا القرار؟ بالتأكيد، هناك امكانية لتعديله مثله مثل أي قرار يصدر عن مجلس الأمن وتعديله حكماً يتم في اجتماعات هذا المجلس فقط وبأكثرية أصوات أعضاء المجلس، ما لم تُمارس إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية حق “الفيتو” (النقض) على القرار. ولكن الاتجاه الذي يتم العمل على تعديله نحوه هو ما يُحدد توفر فرصة التوافق عليه من عدمها. وبطبيعة الحال فإن موازين القوى على الأرض هي ما يُحدّد امكانية فرض تعديل ما لمصلحة هذا الفريق أو ذاك، وبما أن الوضع على الحدود اللبنانية الجنوبية راهناً بات مرتبطاً بالوضع في قطاع غزة كونه جبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية قد تتطور لما هو أكثر من إشغال، من السابق لأوانه الكلام عن أي تعديل للقرار 1701 في إنتظار أن تنجلي الصورة الميدانية في غزة. وقد كان المبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين واقعياً بقوله لنائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب في دبي خلال الأسبوع الماضي “من السابق لأوانه الكلام عن تعديل القرار 1701، إذ لا يمكن أن يحصل ذلك في ظل استمرار الأوضاع على ما هي عليه في غزة”.
موازين القوى على الأرض هي ما يُحدّد امكانية فرض تعديل ما لمصلحة هذا الفريق أو ذاك، وبما أن الوضع على الحدود اللبنانية الجنوبية راهناً بات مرتبطاً بالوضع في قطاع غزة كونه جبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية قد تتطور لما هو أكثر من إشغال، من السابق لأوانه الكلام عن أي تعديل للقرار 1701 في إنتظار أن تنجلي الصورة الميدانية في غزة
أما عن الإتجاه الذي يُمكن أن يسلكه أي تعديل للقرار 1701 ربطاً بالأوضاع التي سيرسي عليها العدوان الصهيوني على قطاع غزة، فإن فشل العدو في تحقيق هدفيه الرئيسيين من العدوان (سحق حركة حماس واستعادة أسراه من دون مفاوضات) هو بمثابة إنجاز للمقاومة الفلسطينية في غزة على الرغم من الدمار الهائل والخسائر البشرية الكبيرة في المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ. وبالتالي فإن عدم قدرة العدو على فرض شروطه في حربه على أرض غزة تجعله عاجزاً عن فرض أي تعديل للقرار 1701 لمصلحته، أما إذا نجح في تحقيق هدفيه المذكورين في غزة، وثمة مؤشرات تشي بالعكس، فإنه سيجد نفسه أمام معضلة استخدام القوة العسكرية ضد المقاومة في لبنان لفرض شروطه في تعديل القرار 1701، ولعل القاصي قبل الداني يعرف أن أي حرب تشنها “إسرائيل” ضد المقاومة في لبنان ستكون أقسى بكثير من تلك التي تخوضها على أرض غزة، إذ أن القدرات النارية للمقاومة في لبنان تتجاوز بكثير قدرات المقاومة الفلسطينية وهامش المناورة الجغرافية لديها أوسع بكثير.. وهذا أمر يُمكن الخوض فيه أكثر في مقالات لاحقة.
لننتظر مجريات حرب غزة. إن تمكنت المقاومة من فرض وقف لإطلاق النار وإجبار العدو على التفاوض بشأن تبادل الأسرى العسكريين، فهذا مكسب كبير للمقاومة في لبنان سيترجم بتعديلات على القرار 1701 لمصلحة لبنان، وعدم كسب المقاومة الفلسطينية للحرب سيجعل لبنان أكثر تشدداً في اجراء تعديلات لمصلحته.