باب المندب.. ممر العبور إلى الحريق الإقليمي؟ 

أزمة باب المندب المتصاعدة على نار غزة، معضلة أخرى تنفجر في وجه الرئيس جو بايدن وتُعقّد سياسته الخارجية، وتضعه أمام خيارات صعبة: غض الطرف عن هجمات الحوثيين أو اللجوء إلى رد تكتيكي لا يثير صداماً مع طهران، أو الذهاب أبعد في الردع حتى ولو أدى إلى صدام مباشر مع إيران، وهذا الخيار الأخير سعى البيت الأبيض إلى تجنبه منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

شاء وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أن يُمسك العصا من المنتصف، فأعلن في 18 كانون الأول/أكتوبر الجاري عن تحالف بحري من 20 دولة تحت الإسم الرمزي “عملية حارس الإزدهار”، لضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر وصد هجمات الحوثيين. لكن 8 دول من الدول العشرين التي أعلن عنها أوستن لم تؤكد مشاركتها في التحالف، الذي تقوده أميركا بينما أعلنت دول أخرى أنها سترسل سفناً لكن من دون وضعها تحت الأمرة الأميركية، على غرار فرنسا مثلاً. وبقيت السعودية والإمارات خارج التحالف، واقتصرت المشاركة العربية والخليجية على دولة البحرين. ويرمي هذا التحالف إلى الردع أكثر منه الدخول في مواجهة مع الحوثيين. مواجهة كهذه قد تزيد التأزم في الشرق الأوسط، وتؤدي إلى تصعيد مع إيران ومع القوى المتحالفة مع إيران في كل من العراق وسوريا ولبنان.

***

للوضع المستجد في باب المندب ترددات عالمية لا يُمكن تجاهلها. وثمة فزع يدبُّ في الأسواق العالمية نتيجة عزوف كبريات الشركات العالمية عن المرور في باب المندب، وبالتالي، سيكون العالم مهدداً بأزمة في سلاسل الإمداد تفضي إلى موجة ثانية من التضخم، فضلاً عن أضرار اقتصادية فادحة للشركات التي سيتعين عليها سلوك طرق بحرية أطول للوصول إلى المحيط الهندي من أوروبا وبالعكس. كما أن شركات التأمين ستزيد أقساطها، مقابل المخاطر التي تواجه الملاحة. الهند، بحسب مجلة “الإيكونوميست” البريطانية بدأت تفكر في بدائل منها اعتماد ميناء تشابهار الإيراني. زدْ على ذلك أن قناة السويس ستنخفض عائداتها نتيجة عزوف المزيد من السفن عن اجتيازها، في وقت تواجه مصر نقصاً حاداً في العملات الصعبة!

***

إنشاء التحالف البحري هو خطوة نحو تدويل الأزمة الناشئة، في وقت لم تعدم الولايات المتحدة بعد الوسائل الديبلوماسية لإقناع الحوثيين بخفض التصعيد، وتحركت القناة العُمانية لهذا الغرض. ومنطق الأمور يفرض الإستنتاج بأن باب المندب ليس بعيداً عن دائرة الاتصالات القطرية-الإيرانية، التي تركز على غزة أساساً وعلى إزالة العقبات من أمام التوصل إلى وقف لإطلاق النار في القطاع، علماً أن وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان كشف أن واشنطن طلبت من بلاده حث “أنصار الله” على وقف عملياتهم ضد إسرائيل والمصالح الأميركية في المنطقة “إلا أننا أبلغنا واشنطن أن أنصار الله لا تتلقى أوامرها من طهران”، وقال إن الحوثيين يُقررون خطواتهم وفق مصالحهم.

أكثر من أي يوم مضى، يتضح أن تفادي الحريق الأوسع في الشرق الأوسط يمر بوقف الحرب في غزة في أقرب وقت. حتى الآن لا شيء يشي بأن بايدن قد حزم أمره في هذا الشأن. وأكبر دليل على ذلك “الفيتو” الأميركي الأخير على الاقتراح الروسي تضمين مشروع القرار الإماراتي أمام مجلس الأمن فقرة تدعو إلى “تعليق عاجل للأعمال العدائية” في غزة

وكانت الولايات المتحدة قد أضفت بعداً إيرانياً على التوتر، مع إصدار مجلس الأمن القومي الأميركي بياناً جاء فيه :”نعلم أن إيران ضالعة بشدة في التخطيط للعمليات ضد سفن تجارية في البحر الأحمر.. ليس لدينا أي سبب للاعتقاد بأن إيران تحاول ثني الحوثيين عن هذا السلوك المتهور”.

***

وفي سباقه مع الوقت، يتعرض جو بايدن لضغوط من “الصقور” في الولايات المتحدة، للجوء إلى رد ولو محدود على الحوثيين. هم يعتبرون أن مثل هذا الرد هو السبيل الأنجع لوقف الهجمات على السفن التجارية ورسالة ردع تحول دون صراع أوسع مستقبلاً. لكن ماذا لو أدى ذلك إلى رد حوثي أوقع خسائر في الجانب الأميركي؟ من المؤكد أن الولايات المتحدة ستجد نفسها في مثل هذه الحالة قد انجرّت إلى صراع لا تريده.

ومنذ 17 تشرين الأول/أكتوبر، تعرضت القوات الأميركية في العراق وسوريا لعشرات الهجمات بالصواريخ والمسيّرات من دون أن تتسبب بسقوط قتلى أميركيين، باستثناء ارتجاجات في الدماغ لبعض الجنود. وردّت الولايات المتحدة على هذه الهجمات بطريقة متناسبة، تجنبت معها اشتعالاً أوسع بين إيران من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة ثانية، برغم استعار حرب غزة.

ومنذ إندلاع “طوفان الأقصى”، ساد توازن دقيق وتفاهم غير معلن بين واشنطن وطهران. من جهة، إحتوت الولايات المتحدة الرسائل النارية الإيرانية في المنطقة، ومن جهة مقابلة، لم تذهب إيران نحو تصعيد يثير صداماً مباشراً مع الولايات المتحدة. مع الوقت، تبدّى حرص الجانبين على عدم زج الشرق الأوسط في آتون حرب شاملة لا مصلحة للطرفين في اندلاعها.

***

ما الذي تغير حتى تصاعد الوضع في باب المندب وبات يهدد بتفجير واسع؟

يرتبط هذا الأمر مباشرة بطول أمد الحرب الإسرائيلية على غزة. لم يكن يدر في خلد الولايات المتحدة وإسرائيل أن الحسم في غزة سيستغرق وقتاً. المسؤولون الإسرائيليون الذين باغتهم هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، يتفاجأون الآن بقدرة “حماس” على القتال كل هذا الوقت. فقد جرفت إسرائيل قطاع غزة بحيث لم يعد صالحاً للسكن، لكنها لم تعثر بعد على “صورة النصر” التي تُنزلها عن الشجرة، وإدارة بايدن تُمدّد فترة السماح الممنوحة لتل أبيب. وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت اعترف صراحة لمستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان خلال زيارة الأخير لتل أبيب قبل أسبوع أن “ليس من السهل تدمير حماس.. سأطلب بضعة أشهر أخرى من الوقت”.

فترة السماح الأميركية لإسرائيل بحثاً عن “النصر” في غزة أو نضوج تسوية إقليمية، تنطوي على مجازفات إقليمية، على غرار ما هو حاصل في باب المندب أو ذاك الحاصل في جنوب لبنان.. وفي أحيان كثيرة، يصير الانفجار الإقليمي أقصر من مسافة صاروخ قد يُلحق ضرراً كبيراً بناقلة حاويات أو يصيب بارجة من بوارج التحالف الدولي

وفي تلخيص للمأزق، قال مايكل ميلشتاين من مركز موشي دايان في جامعة تل أبيب، الذي درس ظاهرة حركات المقاومة في الشرق الأوسط، بما فيها الفلسطينية، في مقابلة مع صحيفة “الغارديان” البريطانية إنه “كان من الخطأ اعتبار حماس كقوة دولة تقليدية سيكون انهيارها مؤكداً ونهائياً”. وأضاف: “منذ شهر ونحن نتحدث عن وصول حماس إلى نقطة الانكسار التي يبدأ فيها الانهيار الفعلي. إن هذا مصطلح مفيد عندما تكون في مواجهة جيوش تقليدية، ويمكنك أن تجد مثل هذه النقطة، لكن في ما يتعلق بحماس، فإنها ليست حتى جيشاً صافياً من العصابات.. يمكنك تسميتها بكيان مرن يمزج مزايا الحزب الحاكم ومنظمة سرية وجمعية خيرية، إنها ليست من النوع الذي في حال قتلت القائد الأعلى، فإن بقية الهيكل سيتقوض.. وعوض ذلك، هي منظمة إيديولوجية حيث سيقاتل الكثيرون فيها حتى النهاية”.

إقرأ على موقع 180  عن دولة عظمى.. لكن بتقارير صغرى!

***

أميركا تواجه مأزقاً. فقد دعمت إسرائيل عسكرياً وغطّتها ديبلوماسياً أمام تصاعد التنديد العالمي وانفضاض الحشد الغربي الذي تبدى خلف إسرائيل في بداية الحرب، وها هي الآن تجد نفسها مضطرة مجدداً إلى منح إسرائيل المزيد من الوقت. يحدث ذلك على حساب تدني التأييد الشعبي الأميركي لسياسة بايدن في الشرق الأوسط و”مخاطر” خسارته في الانتخابات الرئاسية قي تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وفق ما تحذر مجلة “نيوزويك” الأميركية.

غير أن فترة السماح الأميركية لإسرائيل بحثاً عن “النصر” في غزة أو نضوج تسوية إقليمية، تنطوي على مجازفات إقليمية، على غرار ما هو حاصل في باب المندب أو ذاك الحاصل في جنوب لبنان.. وفي أحيان كثيرة، يصير الانفجار الإقليمي أقصر من مسافة صاروخ قد يُلحق ضرراً كبيراً بناقلة حاويات أو يصيب بارجة من بوارج التحالف الدولي!

في هذا السياق، يتساءل المسؤولون الأميركيون كيف أن الصين، وهي معنية بممر باب المندب لأن تجارتها سيلحق بها الأذى إذا أغلق هذا الممر الحيوي لـ30 في المئة من سفن الحاويات و12 في المئة من إجمالي التجارة العالمية، لا تُحرّك ساكناً فتسارع إلى الحديث مع إيران للضغط على الحوثيين لخفض التصعيد، وتالياً نزع فتيل هذا الصاعق الإقليمي. جزء من الجواب على التساؤل الأميركي يكمن في أن الصين، صحيح أنها تعي الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الغليان في البحر الأحمر، لكنها في الوقت نفسه لماذا سيتعين عليها إنقاذ السياسة الخارجية لبايدن “المحكومة بالهلاك” من غزة إلى أوكرانيا إلى تايوان وبحر الصين الجنوبي، بحسب وصف المعلق في صحيفة “وول ستريت جورنال” والتر راسل ميد.

أكثر من أي يوم مضى، يتضح أن تفادي الحريق الأوسع في الشرق الأوسط يمر بوقف الحرب في غزة في أقرب وقت. حتى الآن لا شيء يشي بأن بايدن قد حزم أمره في هذا الشأن. وأكبر دليل على ذلك “الفيتو” الأميركي الأخير يوم الجمعة الماضي على الاقتراح الروسي تضمين مشروع القرار الإماراتي أمام مجلس الأمن فقرة تدعو إلى “تعليق عاجل للأعمال العدائية” في غزة.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  عن يوتوبيا العروبة.. وإنكار الهزيمة!