ليس خافياً أن “محور المقاومة”، ومنذ بداية العدوان على غزة وفتح جبهات المشاغلة في جنوب لبنان والعراق ولاحقاً في اليمن، حدّد مطلبه الأساس بالدعوة إلى وقف الحرب على غزة “فوراً”، ذلك أن وقف النار من دون أن تحقق “إسرائيل” أهدافها المعلنة للعدوان يعتبر هزيمة لها، وقد لخّص رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو هذه الأهداف منذ بدء الهجوم على غزة بثلاثة أمور أساسية: سحق “حماس”، إستعادة الأسرى “الاسرائيليين” من دون تفاوض، و”ضمان أنّ غزة لن تعود لتشكّل تهديدًا لإسرائيل في المستقبل”، على حد تعبير نتنياهو.
هل أغضب ميقاتي بموقفه الأخير الولايات المتحدة الأمريكية؟
ليس ميقاتي من ربط الحرب في جنوب لبنان بالحرب على غزة، بل هو واقع قام من دون التشاور معه أساساً، وهذا الواقع الناري مستمر أيضاً من دون التشاور معه، وبالتالي فإن هذا الربط الذي أعلنه ميقاتي هو قراءة موضوعية للواقع القائم، ولأنه كذلك فإن الخطورة الناجمة عن تداخل الجبهات وتعدّدها من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان مع قطاع غزة يُثير قلق الإدارة الأمريكية كونه يُهدّد بتدحرج الموقف إلى حرب إقليمية نتيجة اي ضربة غير محسوبة أو حسابات خاطئة وسوء تقدير من الطرف الآخر، وهذا الأمر لا تُريده واشنطن، ويُشكّل جوهر خلافها مع حكومة نتنياهو الذي يريد توسيع دائرة الحرب وجر واشنطن للانخراط فيها فقط لأن في ذلك مصلحة شخصية وحزبية له وتغطية لفشله في تحقيق الأهداف الثلاثة التي حدّدها منذ بدء العدوان على غزة. بهذا المعنى، فإن موقف ميقاتي لا يتعارض مع جوهر موقف الولايات المتحدة المرتبط بمصالحها السياسية والاقتصادية في المنطقة، وخير دليل على ذلك ما نقلته شبكة “إن بي سي” عن مسؤولين أمريكيين أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أبلغ نتيناهو أن لا حل عسكرياً مع “حماس” وعلى إسرائيل الإعتراف بذلك، وذكر المسؤولون أن إدارة جو بايدن “تتطلع إلى ما بعد نتنياهو لتحقيق أهدافها في المنطقة”.
تصدر ميقاتي، ومن موقعه كرئيس حكومة تلعب مجتمعة ايضا دور رئيس الجمهورية، المواقف الداعية لوقف العدوان على غزة يجعله يتصدر موقف الجمهور السني بلا منازع
وبماذا يختلف موقف ميقاتي عن موقف المملكة العربية السعودية؟
في تصريحات علنية لمسؤولين سعوديين، بينهم وزير الخارجية فيصل بن فرحان، دعا هؤلاء إلى وقف الهجوم الدموي والهمجي على غزة، وجاءت تطورات الاشتباك الأمريكي البريطاني مع “حركة أنصار الله” اليمنية لتزيد من رفع السقف السياسي السعودي في وجه واشنطن، إذ رفضت السعودية المشاركة في “تحالف حماية الإزدهار” الذي أنشأه الأمريكيون بهدف “حماية الملاحة الدولية في البحر الأحمر وباب المندب”، كما علّق بن فرحان على الغارات الأمريكية البريطانية على اليمن بدعوة جميع الأطراف “إلى ضبط النفس”.
السعودية تراقب كيف أن هذه الهجمات الغربية حوّلت الحوثيين إلى لاعب إقليمي أساسي في المنطقة.. وبطبيعة الحال فإن الموقف السعودي يُعبر عن رؤية لمصالح المملكة إزاء ما يجري في المنطقة، إذ أنها وبوساطة صينية توصلت في العام الماضي إلى مصالحة تاريخية مع إيران ترجمت بوقف إطلاق النار مع الحوثيين في اليمن بعد ثماني سنوات من الحرب الضروس. ولأن السعودية تُدرك أن مشاعر اليمنيين في جنوب اليمن لا تقل تضامناً مع فلسطين ومقاومتها عن مشاعر جمهور الشمال، ناهيك بالتحول الحاصل في الشارع السعودي (نموذج مقاطعة المطاعم والشركات الأجنبية الداعمة إسرائيل) فإن موقفها يسعى إلى تخفيف حالات الاستقطاب الجماهيري التي يُحقّقها الحوثيون في المناطق الجنوبية، كما أن السعودية تعرف أكثر من غيرها أن ليس هناك أي افق للهجمات الأمريكية والبريطانية على اليمن، فقد جرّبت هي نفسها هذا الأمر في السنوات الماضية من حربها هناك ومع وجود جنودها على أرض اليمن ولم تحقق شيئاً، ناهيك عن تجارب سابقة للمملكة ودول أخرى مُنيت أيضاً بالفشل.
أرضى ميقاتي ضميره وقناعاته وحتماً أرضى “الثنائي الشيعي” ولا سيما حزب الله، وفي الوقت نفسه، لم يغضب الولايات المتحدة الأمريكية، وبقي تحت سقف الموقف السعودي عربي
ما هي الإصابات التي حقّقها ميقاتي بموقفه؟
لم يصطد ميقاتي فقط ثلاثة عصافير بحجر واحد بل سرباً كاملاً من العصافير؛ فقد نال تقدير حزب الله الذي لا بد أن يكون بلغه عبر قنوات مختلفة، وفي هذا السياق، اصطاد أيضاً دعماً اكبر في مواجهته المفتوحة مع التيار الوطني الحر وزعيمه جبران باسيل في ما يخص مقاربة الوضع الحكومي، أضف إلى ذلك أنه بموقفه هذا شكل علامة فارقة في نادي رؤساء الحكومات لم يسبقه إليها إلا الرئيس الدكتور سليم الحص والرئيس الراحل رفيق الحريري. أما عن موقف قوى المعارضة منه، وفي مقدمتهم “القوات اللبنانية” فهم اختاروا أن يبتعدوا عنه منذ تشكيل الحكومة عندما رفضوا المشاركة فيها، ومضوا في خيارهم المعارض له منذ ذلك الحين. أما على المستوى الشعبي، فإن ميقاتي يعرف أن نبض الشارع الإسلامي اللبناني بصورة عامة والسني بصورة خاصة هو في صلب دعم المقاومة في فلسطين. وكانت دار الفتوى قد أصدرت أكثر من بيان في هذا الاتجاه، وبالتالي فإن تصدر ميقاتي، ومن موقعه كرئيس حكومة تلعب مجتمعة ايضا دور رئيس الجمهورية، المواقف الداعية لوقف العدوان على غزة يجعله يتصدر موقف الجمهور السني بلا منازع. وفي طرابلس، مسقط رأسه، هناك حالة من التعاطف الواسعة مع المقاومة الفسطينية، لذلك فان موقفه في موضوع وقف اطلاق النار في غزة هو تعبير صادق عن إرادة شارع لبناني عريض وخاصة في عاصمة الشمال.
وكي لا يبدو الأمر وكأن ميقاتي قد خطّط في موقفه لاصطياد هذا السرب الكبير من العصافير لا بد أن يُعطي الرجل حقه المرتبط بقناعاته الشخصية، اذ وعلى ذمة أناس مقربين منه جداً، فإنه “رجل مؤمن بإسلامه حتى العظم ومؤمن بعروبته حتى النخاع وتعيش فلسطين في وجدانه بصورة جدية، وعلى الرغم من كونه يعمل في التجارة، فإن أمرين لا يمكن أن يتاجر بهما نجيب ميقاتي هما قناعاته العروبية والإسلامية وخير دليل عندما كان يتمنى أن يضع أي مسؤول لبناني توقيعه على اتفاق ترسيم الحدود البحرية.. ما عداه”.
في المحصلة، أرضى ميقاتي ضميره وقناعاته وحتماً أرضى “الثنائي الشيعي” ولا سيما حزب الله، وفي الوقت نفسه، لم يغضب الولايات المتحدة الأمريكية، وبقي تحت سقف الموقف السعودي عربياً.