فلسطين مركز الشرعية.. هكذا يحكم العلم

بات من الراسخ في المجتمع العلمي أن تقدّم العلوم إنما يُعزى إلى ربطها القوي بالتجربة بحيث يمكننا القول إن هناك ثنائية معرفية في العلوم هي ثنائية النظرية والتجربة. من أين ينطلق هذا الإستنتاج؟

قد تُغالي الأفكار أو النظريات أو النماذج النظرية في جموحها إلى حد الميتافيزيقا إلى أن تتجسد في أرض الواقع من خلال تجربة تؤكدها أو تهذبها وتكبح جماحها. على سبيل المثال، كانت فيزياء ما قبل نيوتن وجاليليو كثيرة الاختلاط بالميتافيزيقا أو أفكار ما وراء الطبيعة، وربما كان هذا سبب توجس العرب المسلمين منها، ولكن مع عصر النهضة وربطها بالتجربة، أي بالواقع وحده، تمت تنقيتها من كل الأفكار الميتافيزيقية تلك ومن هنا جاء التقدم فيها سريعاً والنتائج عظيمة بالقدر الذي نشهده الآن.

إن لتلك الثنائية المعرفية في العلوم تناظراً في الروافد المعرفية الأخرى. فالفلسفة الالهية مثلاً اعتمدت الاثنينية (الصورة والهيولى) كعنصرين متمايزين لتفسير الوجود.

كذلك ذهبت الأديان السماوية إلى التأكيد على ان الوجود الانساني نتاج امتزاج الجسد بالروح. بل حتى على مستوى علوم اللغة، شبّه البعض العلاقة بين اللفظ والمعنى كالعلاقة بين الجسد والروح؛ فقال الجاحظ “اللفظ للمعنى جسد والمعنى للفظ روح”. كأن هناك اثنينية معرفية تفرض نفسها في كل روافد المعرفة بمختلف صورها ديناً، فلسفةً، علماً أو لغةً. وأصل ذلك في الغالب هو أن هناك مبادئ وقوانين عليا هي التي تحكم الوجود كله وتتكشف أمام كل محاولة تأمل جادة ومخلصة أياً كان ميدان التأمل.

ومع الإكتشافات الحديثة ومنها الطاقة، زادت قيمة منطقتنا إستراتيجياً لتحكُّمها بخطوط إمداد العالم التجارية وكونها تُشكّل كنزاً استراتيجياً لمصادر الطاقة، بما تعنيه من وقود للحضارة الغربية. لذا، كان لا بد من ضرب أي امكانية اتحاد بين أجزاء تلك المنطقة

لقد كان القرن الماضي هو قرن العلم بلا منازع، بدءاً بالفيزياء التي كشفت أغوار الذرّة وما دونها واقتحمت الفضاء وتوشك أن تجعلنا نستمع إلى نبضات الكون في لحظاته الأولى.. مروراً بالبيولوجيا الجزيئية التي أماطت اللثام عن المادة الوراثية ووصلت إلى حد هندستها معملياً. ثم جاء عصر النانوتكنولوجي، وصولاً إلى عصر الذكاء الاصطناعي الذي يفتح الآن آفاقاً خيالية من التقدم ورعباً كذلك يُهدّد بتغيير البنى الإجتماعية بل الوجود الإنساني كله.

وأمام نجاحات بهذا القدر، فإن العلم قد فرض نفسه كأفضل أداة للكشف عن تلك المبادئ العليا. وفي هذا المقال وما سيليه، نُحاول اسقاط مفاهيم ومبادئ العلوم الطبيعية تحديداً على العلوم الإنسانية كمحاولة لإعادة معايرة الأخيرة، ظناً منا أنه من خلال ذلك نستطيع تعميق فهمنا لها وتعزيزها بقدرة أقوى على التنبؤ.

إسقاط الإثنينية المعرفية على العلوم الإنسانية 

ولا ندّعي أن ذلك المسعى الجديد مبتكرٌ، فقد حاولته عقول كبيرة في السابق نذكر منها ايمانويل كانط في كتابه “نقد العقل المحض” وجوستاف لوبون في كتابه “فلسفة التاريخ”. ولكن العلم قد تطوّر وتضخّم إلى حد لم يتخيله كلا الرجلين وأصبح متخماً بحقائق لم يعرفاها وأقرب للعلوم الإنسانية الآن من أي وقت مضى، مما يجعلنا نأمل أن تكون لتلك الخطوات إضافة ما على طريق هم بدأوه. وكمحاولة أولى نبدأ باسقاط فكرة “الاثنينية المعرفية” على العلوم الإنسانية ونختبرها مثلاً من خلال قدرتها على تفسير أحد أهم القضايا التي تشغلنا الآن وهي المسألة الفلسطينية.. وما ينتظرها مستقبلاً.

سرعان ما نلاحظ أن الإقتران بين علمي الإجتماع والتاريخ أشبه ما يكون بالاثنينية المعرفية التي تُميّز تلك العلوم الإنسانية. فالتاريخ أشبه بالمعمل الذي يستمد منه علم الإجتماع بياناته ويعكف عليها درساً وتنقيحاً إلى أن يصل إلى القوانين والمبادئ التي تحكم حياة البشر ونشأة الدول ونهاياتها. وليس غريباً بعد ذلك أن نُدرك كيف أن علم الإجتماع إنما نشأ أصلاً عن الحاجة إلى فهم التاريخ وضبط قصصه. فأول لبنة في هذا العلم إنما وضعها إبن خلدون وكانت “مقدمته” لفهم التاريخ فهماً صحيحاً واستخراج عبره ودروسه. ثم توالى البناء على أيدي رجال كبار مثل هيجل وكارل ماركس وماكس فيبر وأوجست كونت وكلهم أقاموا نماذجهم على استقراء التاريخ وتحليله.

دارت عجلة التاريخ دورتها الثانية وإذ بالدولة الأيوبية تشيخ وينقلب أفرادها على بعضهم البعض حتى وصل بهم الأمر إلى بيع فلسطين إلى المحتل الغربي مقابل احتكار دعمه لصالح هذا أو ذاك في سياق منافساتهم التدميرية

تطبيق على المسألة الفلسطينية

لذا يمكننا الإدعاء أنّ فهم الواقع واستشراف المستقبل يعتمد بشكل كبير على مراجعة التاريخ من خلال عدسة علم الإجتماع. وعندما نرجع إلى تاريخ فلسطين والمنطقة العربية نجد نمطاً متكرراً يقترح بقوة اقتران شرعية الحكم في هذه المنطقة من العالم على حالة بلاد الشام عموماً وفلسطين خصوصاً. فعلى امتداد التاريخ منذ عهد الفراعنة إلى الاحتلال الانجليزي، كانت تلك المنطقة خاضعة في الغالب لحكم واحد. لا نقول أنّ هناك علاقة سببية بين حالة فلسطين والنظم المحيطة بها، بل علاقة اقتران أو بلغة العلم (Corelation not Causality). بمعنى أنّ تأزم فلسطين من الإشارات الكبرى على اقتراب التغيير الشامل. فقبل الإسلام كانت تلك البقعة الصغيرة ميدان تنافس وصراع بين أكبر قوتين في ذلك الوقت؛ الفرس والروم. ولم تترسخ دولة العرب إلا بطرد كلا القوتين منها.

بعد ذلك، دارت عجلة التاريخ زمناً طويلاً يقارب الأربعة قرون وإذ بالحملات الصليبية تبدأ محاولاتها لإنتزاع فلسطين، وسقطت فلسطين في النهاية فريسة تلك الحملات.

كانت فلسطين في تلك الفترة خاضعة للفاطميين كما كانت الشام كلها ومصر والحجاز وشمال إفريقيا. ومع سقوط فلسطين، سقطت الدولة الفاطمية أو على الأقل سقطت سقوطاً سياسياً إلى أن تهيأ بديلها. وكأن شرعية الحكم كانت متكئة على السيطرة على الشام. وما يؤكد خصوصية فلسطين بين بلاد الشام أن الدولة التي حلّت محل الدولة الفاطمية إنما استمدت شرعيتها من الدفاع عن فلسطين، وأقصد هنا الدولة الأيوبية.

إقرأ على موقع 180  لنُفكّر بالبديل بدل الإستسلام للجهل والعصبيات!

دارت عجلة التاريخ دورتها الثانية وإذ بالدولة الأيوبية تشيخ وينقلب أفرادها على بعضهم البعض حتى وصل بهم الأمر إلى بيع فلسطين إلى المحتل الغربي مقابل احتكار دعمه لصالح هذا أو ذاك في سياق منافساتهم التدميرية!

تبع ذلك سقوط شرعية الدولة الأيوبية هي الأخرى. حلّت محلها دولة المماليك التي استمدت شرعيتها كسابقتيها من الدول من استرداد بلاد الشام وطرد التتار. ثم دارت عجلة التاريخ دورتها الثالثة، وتلك المرة نقف على أعتاب تاريخنا المعاصر؛ نكبة العام 1948. فماذا حدث؟ إنه نفس ما حدث في المرات السابقة، صراع وتنافس إقليمي وضيع، خيانة واستقواء بالمحتل ضد بعضهم البعض، التخلي عن فلسطين وسقوطها، سقوط كل النظم الإقليمية تباعاً!

يكشف لنا التاريخ نمطاً متكرراً وهو ارتباط شرعية الدول في المنطقة بموقفها من القضية الفلسطينية. فمن خذلها سقط وسقطت دولته، ومن نصرها انتصر وقامت دولته. والذاكرة العربية لا تذكر من الدولة الأيوبية إلا صلاح الدين، ويسري ذلك على الدولة المملوكية التي لا يُذكر منها إلا السلطان المملوكي سيف الدين قطز الذي حكمها لسنة واحدة.

يُفسّر علم الإجتماع لنا ذلك النمط. كيف؟

تُشكّل فلسطين والشام عموماً وثالثتهما مصر مناطق التقاء القارتين (آسيا وإفريقيا) اللتين امتدت عبرهما الامبراطوريات القديمة. وتعني السيطرة على تلك المناطق بالذات شلّ الامبراطورية أياً كانت وانقطاع الاتصال بين أجزائها.

ولفلسطين خاصيتين تجعلان منها ميزان شرعية النظم: الضعف والقداسة. فهي جامعة لأقدس مقدسات المسلمين والمسيحيين معاً. وهي صغيرة الرقعة قليلة السكان. وليس غريباً على الإنسان أن يجبن، ولكّن هناك مواضع يصبح الجبن فيها فقداً للإنسانية فتستحيل معه الحياة. تلك المواضع غالباً ما تدور حول انتهاك المقدسات والتنكيل بالضعفاء. لذا، عندما تنتهك تلك الرموز ولا يُحرّك أحد ساكناً يكون ذلك الخذلان أشبه باعلان وفاة رسمي. فيمكن أن تقع تلك الانتهاكات، ولكن الذي لا يمكن أن يقع هو أن تمر مرور الكرام. لأن تلك الانتهاكات لا بد لها من نتيجة. تلك النتيجة هي ايقاظ الضمير. وباستيقاظ الضمير تقوى العزائم، ومن هنا يأتي التغيير، فتسقط شرعية فاسدة جبانة لتحل محلها شرعية حرة قادرة.

القصص الديني يُعلّمنا أنّ إحياء الموتى لا يكون إلا بالتضحية بموت مماثل. وشرط تلك الأضحية أن تكون طاهرة ونقية. فالكبش الذي افتدى اسماعيل وصفه القرآن بـ”ذبح عظيم”. وما كان إحياء موسى لغدير بني إسرائيل ليتم إلا بمعجزة كان رمزها التضحية بـ”البقرة الصفراء” التي تسر الناظرين. وقد لبث المسيح زمناً في قومه ما استجاب له إلا قليل إلى أن فجع الجميع بحادثة الصلب الشنيعة فتيقظت ضمائرهم لما وهنت الدنيا في عيونهم. وسواء كان الصليب عيسى نفسه “كما يعتقد المسيحيون” أو أحد الحواريين “كما يعتقد المسلمون” فالنتيجة واحدة: روح طاهرة نقية بموتها تحرّر شعباً كاملاً من ذل العبودية والاستبداد. كذلك فان إحياء الشعوب الموات لا بد له من موت مقابل، على أن يكون ذلك الموت من أطهر وأنقى الأنفس ولذا كان ذلك لفلسطين قدر كما كان قدر اسماعيل وعيسى من قبل.

كان أول المُحرضّين على ضرب مصر عام 1956 نوري السعيد رئيس وزراء العراق آنذاك الذي بادر رئيس الوزراء الإنجليزي أنطوني إيدن، وكان ضيفه ليلة إعلان قرار التأميم: “سيدي رئيس الوزراء اضربه الآن.. واضربه بقوة”

ما أشبه اليوم بالبارحة!

ومع الإكتشافات الحديثة ومنها الطاقة، زادت قيمة منطقتنا إستراتيجياً لتحكُّمها بخطوط إمداد العالم التجارية وكونها تُشكّل كنزاً استراتيجياً لمصادر الطاقة، بما تعنيه من وقود للحضارة الغربية. لذا، كان لا بد من ضرب أي امكانية اتحاد بين أجزاء تلك المنطقة. وليس غريباً أن نعرف الآن أن إنشاء ذلك الكيان الغريب في منطقتنا عام 1948 إنما جاء رداً على إنشاء جامعة الدول العربية، حتى تظل تلك الجامعة جامعة للقصور، بمعنيي الكلمة الأخيرة.. هذا الكيان ـ الأداة وجّه ضربته عام 1956 لقتل الطموح الثوري الذي بدأ يدّب في المنطقة آنذاك، ومن خلاله تم القضاء على ما أسمي “المد الناصري” عام 1967. وما كان ذلك ليتم بهذا الكيان وحده لولا توافر الخيانة العربية المألوفة منذ الدولة الأيوبية. فكان أول المُحرضّين على ضرب مصر عام 1956 نوري السعيد رئيس وزراء العراق آنذاك الذي بادر رئيس الوزراء الإنجليزي أنطوني إيدن، وكان ضيفه ليلة إعلان قرار التأميم: “سيدي رئيس الوزراء اضربه الآن.. واضربه بقوة”. وكانت ضربة 1967 بمباركة بعض الدول العربية بل وبتحريض ملوكها. وتكرّر ذلك مع العراق الذي بِيع قبل ربع قرن بقرار من جامعة الدول العربية!

والأكيد أن بيننا الآن من يقوم بدور الملوك القدامى ونوري السعيد وأحفاد صلاح الدين. كما أنّ الأكيد أيضا أن من بين أظهرنا الآن يتشكل صلاح الدين وقطز وجمال عبدالناصر.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": أشباح لبنان 1982 تتكرر في غزة 2023!