منذ عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها حركة حماس ضد إسرائيل، في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والعملية العسكرية الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ ذلك الحين، بلغ التوتر في مختلف أنحاء الشرق الأوسط ذروته. ووسط الأزمة الإقليمية المعقدة هذه، لا ينبغي أن يكون مفاجئاً أن تعيد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن النظر في أولوياتها العسكرية في المنطقة.
ومع ذلك، تثير “إعادة النظر” هذه قلقاً كبيراً من أن تؤدي إلى انسحاب كامل للقوات الأميركية من سوريا. القرار النهائي بالمغادرة لم يُتخذ بعد، لكن أربعة مصادر من داخل وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين أكدت أن البيت الأبيض لم يعد مهتماً بمواصلة “المهمة” في سوريا وبات يرى أنها غير ضرورية. وتجري الآن مناقشات داخلية نشطة لتحديد كيف ومتى يمكن أن يتم الإنسحاب.
الإنسحاب المرتقب سيخلف تأثيراً كارثياً على نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها في إدارة الأزمة السورية والمتقلبة بشكل حاد والتي لم تُحل بشكل نهائي بعد. كما سيكون بمثابة “هدية ثمينة” لتنظيم الدولة الإسلامية (“داعش”). فهذا التنظيم الإرهابي، وبرغم أنه ضعف بشكل كبير، مهيأ لينشط من جديد في سوريا، إذا ما أُتيحت له الفرصة والمساحة لذلك.
كان التدخل الدولي غير المسبوق الذي قادته أميركا مع أكثر من 80 دولة أخرى، في عام 2014، من أجل هزيمة “داعش” ناجحاً بشكل ملحوظ، مع تحرير آخر جيب من الأراضي السورية في أوائل عام 2019.
في العراق أيضاً، لم يعد لـ”داعش” أي وجود تقريباً، وضعفت قواه إلى حد أنه في عام 2023 كان متوسط عدد الهجمات التي شنَّها تسعة هجمات فقط في الشهر الواحد، مقارنة مع حوالي 850 هجوماً في الشهر عام 2014.
نوعية الهجمات تؤكد أن تنظيم “داعش” ما يزال يحتفظ بقدرات مقلقة، والكثير من الثقة، وشعور جديد بالزخم. إن الحرب في غزة والأزمة الإقليمية المتصاعدة تصب الوقود فوق نيران تنظيم “داعش” وتخلق له فرصاً “ذهبية” لاستغلال الوضع لمصلحته الخاصة
لكن الوضع في سوريا أكثر تعقيداً. ومع وجود ما يقرب من 900 جندي أميركي على الأرض، تلعب الولايات المتحدة، جنباً إلى جنب مع شركائها المحليين، قوات سوريا الديموقراطية (“قسد”)، دوراً فعَّالاً في احتواء وتثبيط تمرد “داعش” المستمر في شمال شرق سوريا.
ومع ذلك فإن التهديد الذي يشكله “داعش” لا يزال قائماً. ففي وقت مبكر من يوم 16 كانون الثاني/يناير، شنَّ مقاتلوه هجوماً صاروخياً على سجن تديره “قسد” في محاولة لتهريب نحو 5 آلاف سجين من “داعش”. وفي حين تم إحباط هذه العملية في نهاية المطاف، فإن الانتشار الأميركي أيضاً يلعب دوراً حيوياً في تحقيق الاستقرار لهذه المنطقة التي يُحتجز فيها نحو 10 آلاف من مقاتلي “داعش” المتمرسين في القتال داخل 20 سجناً مؤقتاً. كما يتم احتجاز 50 ألفاً من النساء والأطفال المرتبطين بهؤلاء المساجين في معسكرات آمنة. وكما حذرت القيادة المركزية الأميركية، مراراً وتكراراً، فإن إبقاء “داعش” في حالة “استنفار دائم” وضمان “أجياله المتعاقبة” هو مصلحة أمنية وطنية حيوية للولايات المتحدة.
وفي حين تمكنت القوات الأميركية وشركاؤها في “قسد” من احتواء تعافي “داعش” في شمال شرق سوريا، فإن الوضع على الجانب الآخر من نهر الفرات، حيث يسيطر النظام السوري، هو ما يثير قلق الغرب أكثر.
ففي هذه المساحة الشاسعة من الصحراء، انخرط “داعش” في انتعاش بطيء ولكن منهجي، مستغلاً لامبالاة النظام وعجزه عن تحدي التمرد المتقلب القائم في الصحراء. وفي السنوات القليلة الماضية، أعاد التنظيم أيضاً تأسيس وجود عملياتي له في مناطق درعا التي يسيطر عليها النظام في جنوب سوريا، ووسع بشكل ملحوظ حجم ونطاق عملياته في جميع أنحاء الصحراء الوسطى، حيث استولى مؤقتاً على الأراضي المأهولة بالسكان، واستولى على آبار الغاز ومنشآت البترول، واستغلها أحسن استغلال، بالإضافة إلى أنه فرض حصاراً مشدداً حول مدينة تدمر الاستراتيجية ومارس ضغوطاً كبيرة على سكانها.
في شرق سوريا ووسطها، عاد نفوذ “داعش”. أعادت المجموعة تأسيس عملية ابتزاز معقدة، حيث انتزعت ما يسمى بالضرائب من الجميع، من الأطباء وأصحاب المتاجر إلى المزارعين وسائقي الشاحنات. وبتكرار متزايد، يصدر التنظيم لهم طلبات ابتزاز مخصصة بناءً على المعرفة المكتسبة بتدفقات إيرادات الأعمال المحلية. وفي بعض الحالات، يتم إصدار إيصالات تحمل علامة “داعش” عند الحاجة، ويتم إرسال التهديدات إلى الهواتف المحمولة والأقارب.
وفي حين أن جزءاً كبيراً من نشاط التنظيم تركز في البداية على الريف السوري، إلا أنه أصبح الآن يطال أيضاً المناطق الحضرية. وفي كثير من المناطق الريفية، يتم الاعتراف بـ”داعش” بشكل متزايد باعتباره “سلطة ظل”.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، تعمد “داعش” إخفاء مستوى عملياته في سوريا، واختار باستمرار عدم إعلان مسؤوليته عن الهجمات التي كان ينفذها. ولكن، بفِعل الحرب في غزة، بدأ، وللمرة الأولى، في الكشف عن مدى تعافيه في سوريا ليراه الجميع. فهذا التنظيم الإرهابي يتغذى على الفوضى وعدم اليقين، وهذان العنصران هما أكثر ما يطغى على الشرق الأوسط في هذه الأيام.
كجزء من الحملة العالمية التي يقودها “اقتلوهم حيثما وجدتموهم”، نفذ التنظيم، في الأيام العشرة الأولى من عام 2024، نحو 100 هجوم في جميع أنحاء العالم، وأعلن مسؤوليته عنها جميعها. منها 35 هجوماً نفذها في سبع من محافظات سوريا الـ14. ومع أن هذا العدد لا يزال أقل بكثير مما كان “داعش” ينفذه في عامي 2013 و2014، لكن نوعية الهجمات تؤكد أن تنظيم “داعش” ما يزال يحتفظ بقدرات مقلقة، والكثير من الثقة، وشعور جديد بالزخم. إن الحرب في غزة والأزمة الإقليمية المتصاعدة تصب الوقود فوق نيران تنظيم “داعش” وتخلق له فرصاً “ذهبية” لاستغلال الوضع لمصلحته الخاصة.
علاوة على ذلك، بدأت حملة الترهيب والهجمات التي يشنها “داعش” تؤتي ثمارها في وسط سوريا، حيث تتآكل الروح المعنوية داخل ميليشيات النظام المحلية. في جميع أنحاء البادية السورية، أو الصحراء الوسطى، أولى التنظيم اهتماماً مستمراً بمهاجمة قوات أمن النظام على طول الطرق الرئيسية وخارج الشبكة الواسعة من منشآت النفط والغاز في المنطقة. وقد زاد حجم تلك الهجمات وتعقيدها بشكل ملحوظ في عام 2023، وكذلك مدى فتكها. ووفقاً لمشروع مكافحة التطرف، نفذ التنظيم، في عام 2023 وحده، ما لا يقل عن 212 هجوماً في المنطقة الصحراوية الوسطى في سوريا، أسفرت عن مقتل 502 شخصاً على الأقل. ومع تزايد التهديدات السرّية والهجمات العلنية، تظهر تقارير تفيد بتزايد وتيرة الفرار من داخل صفوف قوات النظام.
إذا أدَّى انسحاب القوات الأميركية إلى التعجيل بعودة فوضى “داعش”، فسوف نصبح مجرد مراقبين غير قادرين على العودة إلى المنطقة التي سنتركها تحت سيطرة “نظام منبوذ” وحلفائه الروس والإيرانيين
وفي حين أنه ليس هناك الكثير الذي يمكن للقوات الأميركية أن تفعله لتغيير أنشطة التنظيم داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام في سوريا، تبقى هي “الغراء” الذي يجمع التحدي الوحيد المهم لتنظيم “داعش” داخل ثلث الأراضي السورية. وإذا اختفى هذا “الغراء” فمن المؤكد أن عودة “داعش” إلى سوريا ستكون كبيرة ومضمونة. ومن المؤكد أيضاً أن انتشاره سيزعزع الاستقرار في البلاد وكذلك في العراق كذلك.
ففي كثير من النواحي، يشكل العراق أهمية أستثنائية، فالمقر الرئيسي للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد “داعش” يقع على الأراضي العراقية. لكن وسط الأعمال العدائية غير المسبوقة التي حدثت بين الجماعات التابعة لإيران والقوات الأميركية هناك، مع عودة الضربات الأميركية الانتقامية إلى بغداد واستهداف الصواريخ الباليستية الإيرانية الصنع القوات الأميركية على الأراضي العراقية، يتزايد الضغط داخل النظام السياسي العراقي لإجبار القوات الأميركية على الانسحاب من البلاد.
ومع الضغط الذي يمارسه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، علناً، من أجل انسحاب الولايات المتحدة من بلاده، يبقى بعض الأمل في أن يؤدي الوجود العسكري الأميركي في كردستان العراق إلى دعم العمليات ضد “داعش”، بما في ذلك في سوريا المجاورة. وقد يفسر هذا سبب قيام حلفاء إيران باستهداف القوات الأميركية المتمركزة في مطار أربيل الدولي بشكل متكرر في الأسابيع الأخيرة.
ومع ذلك، فإن نقل غرف التنسيق ضد “داعش” من بغداد إلى أربيل ينطوي على تعقيدات خاصة، ويزيد من تفاقم التوتر الواقع بين حكومة مسعود بارزاني الإقليمية وإدارة “قسد” المرتبطة بحزب العمال الكردستاني في شمال شرق سوريا، وهذا قد يؤدي بدوره إلى تدخل تركي غير مناسب. كما أن تحقيق نصر في العراق، سيشجع إيران ووكلائها على تكثيف هجماتهم وإجبار القوات الأميركية في سوريا على الإنسحاب.
في نهاية المطاف، وضعت الأحداث التي بدأت مع “طوفان الأقصى” الانتشار الأميركي في شمال شرق سوريا على خط متهالك، ومن هنا جاءت الاقتراحات الأخيرة بوجوب الانسحاب من سوريا. ونظراً للعواقب الكارثية التي ترتبت عن الخروج المتسرع من أفغانستان، في عام 2021، والانتخابات الأميركية الوشيكة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، يصبح من الصعب فهم سبب تفكير إدارة بايدن في الانسحاب من سوريا. وبغض النظر عن الكيفية التي سيتم بها هذا الانسحاب، فإنه سيؤدي إلى الفوضى ورفع منسوب التهديدات الإرهابية. ولكن لا يمكن إنكار الشعور الواضح لدى الدوائر السياسة بأن الإقتراح بالإنسحاب قد تم قبوله باعتباره حاجة حتمية في نهاية المطاف.
يقترح البعض داخل الحكومة الأميركية حالياً ترتيباً تعاونياً بين “قسد” والنظام السوري لمواجهة “داعش” كمسار واضح يمهد لإتمام الانسحاب الأميركي. وهكذا “تعاون” مرجو لن يكون ذلك بمثابة نعمة ثمينة لـ”داعش” فحسب، بل إنه ببساطة من المستحيل تحقيقه بشروطه الخاصة. قد يكون لجزء من “قسد” اتصالات دورية مع نظام الأسد، لكنهم بعيدون عن أن يكونوا حلفاء طبيعيين. ولن يسمح نظام الأسد أبداً أن يكون لـ”قسد” وجوداً شرعياً في سوريا، كما أن تركيا ستبذل كل ما في وسعها للقضاء على من تبقى من هذه “القوات”.
إذا أدَّى انسحاب القوات الأميركية إلى التعجيل بعودة فوضى “داعش”، فسوف نصبح مجرد مراقبين غير قادرين على العودة إلى المنطقة التي سنتركها تحت سيطرة “نظام منبوذ” وحلفائه الروس والإيرانيين.
– بتصرف عن “فورين بوليسي“.
(*) تشارلز ليستر، مدير “برامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف” في معهد الشرق الأوسط.