والزيارات المتكررة لوزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن وغيره من المسؤولين لدول منطقة الشرق الأوسط منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، أخفقت في التوصل إلى تصور حول من يجب أن يحكم غزة في اليوم التالي للحرب. وتعتقد إدارة الرئيس جو بايدن أن هذا التصور سيكون منطلقاً لإعادة تركيب منطقة أكثر استقراراً، من إحياء عملية تفاوضية تقود إلى دولة فلسطينية مع ضمانات أمنية لإسرائيل وتطبيع للعلاقات السعودية-الإسرائيلية، في إطار الجهود الأميركية الأوسع لاحتواء إيران والحد من نفوذها في المنطقة.
وتكشف صحيفة “الغارديان” البريطانية أن بلينكن حمل إلى نتنياهو في زيارته الأخيرة لإسرائيل أواسط الشهر الجاري رسالة محددة، مفادها أن السعودية مستعدة للاعتراف بإسرائيل إذا ما قبلت بدولة فلسطينية وتبنت خطة لتنفيذ ذلك. وهذا ما أفصح عنه لاحقاً وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان على هامش مشاركته في منتدى دافوس، مشدداً قبل كل شيء على وقف إطلاق النار في غزة.
النار.. والأطفائي!
ومع ذلك، لا يُلاقي الجهد الأميركي آذاناً صاغية في إسرائيل التي لدى رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو تصوراً مناقضاً تماماً للتصور الأميركي، كرّره قبل يومين: لا لدولة فلسطينية ولا لسلطة فلسطينية ولا يوم تالياً في غزة سوى احتلال إسرائيلي دائم، ولا سيطرة أمنية سوى لإسرائيل على الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن!
تصلب نتنياهو ترافق مع دخول الحرب على غزة في أخطر مراحلها مع الانتقال إلى وسط وجنوب القطاع في أماكن تزدحم بـ1.8 مليون نازح في هذه الرقعة الضيقة من الأرض. والضفة الغربية بدورها تحوّلت جبهة مفتوحة يستبيحها الجيش الإسرائيلي والمستوطنون، بوتيرة هي الأعلى منذ الانتفاضة الثانية في مطلع هذا القرن.
مشكلة إدارة جو بايدن، بحسب ما يرى المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية بريان فينوكين الذي يعمل الآن مستشاراً لدى مجموعة الأزمات الدولية في بروكسيل “أنها تلعب دور مشعل النار والإطفائي في الشرق الأوسط في آنٍ واحد.. وهناك توتر متأصل بين الدعم غير المشروط لحرب إسرائيل في غزة ومحاولة منع تصعيد إقليمي، لأن أحدهما يُشكّل سبباً للآخر”.
ومحاولة بعض الأصوات الديموقراطية في مجلس الشيوخ مثل بيرني ساندرز وأليزابيث وارن وكريس فان هولن وزعيم الديموقراطيين في المجلس تشاك تشومر، لفرض شروط على المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل لحملها على التجاوب مع الطلبات الأميركية، من الصعب أن يقبل بها بايدن في سنة انتخابية عسيرة بالنسبة له، ولن يلبث الجمهوريون أن يُسيّسوا المسألة ويستفيدوا منها انتخابياً.
نتنياهو وبايدن.. و”الدولة”!
وكل الكلام الذي يُحكى عن نفاد صبر بايدن لم يترجم اقتراباً أميركياً مثلاً من الدعوة إلى وقف النار في غزة أو في حمل الحكومة الإسرائيلية على هدنة جديدة لتبادل لاستكمال تبادل الأسرى والتوسع في إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع. وعندما يتحدث المسؤولون الأميركيون عن “اليوم التالي” يشعر نتنياهو بأنه هو المقصود أكثر من وقف الحرب.
وعلى هذه الخلفية أتى الاتصال الأول من نوعه منذ حوالي الشهر بين الرئيس الأميركي ورئيس وزراء إسرائيل، أمس الأول (الجمعة). وفُهم من مضمونه أن بايدن حاول أن يجاري نبرة نتنياهو لناحية التشديد على السيطرة الأمنية لإسرائيل في الضفة والقطاع. قال الرئيس الأميركي إن نتنياهو لا يعارض جميع حلول الدولتين وأن هناك بعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ليست لديها قوات مسلحة. وذهب إلى حد التلميح إلى أن إقامة مثل هذه الدولة ممكن مع وجود نتنياهو في السلطة. وكأن هناك نوع من المقايضة الأميركية لنتنياهو بالبقاء في الحكم شرط قبوله بمبدأ قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح.
غير أن مكتب نتنياهو سارع، أمس (السبت)، إلى نفي عدم معارضته قيام دولة فلسطينية، وقال إن إسرائيل ملزمة “بعد القضاء على الحماس بالسيطرة الأمنية الكاملة على غزة لضمان أنها لن تشكل تهديداً على إسرائيل، وذلك يتعارض مع مطلب السيادة الفلسطينية”، أي فكرة الدولة.
صورة انتصار
وعلى رغم أن بايدن يتمتع بشعبية داخل إسرائيل هي الأعلى التي تمتع بها رئيس أميركي على الإطلاق، نظراً إلى الدور الذي لعبه في انقاذ الدولة العبرية بعد اخفاق 7 تشرين الأول/أكتوبر، وعلى رغم أن شعبية نتنياهو في أدنى مستوياتها، فإن الرئيس الأميركي غير راغب في ممارسة أي نوع من أنواع الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي. والانقسامات داخل الطبقة السياسية الإسرائيلية هي فرصة لا يبدو أن بايدن يُحسن حتى الآن استغلالها للوصول إلى وضع الرؤية الأميركية للحل موضع التنفيذ.
عوض ذلك، يذهب بايدن في اتجاه معالجة نتائج المشكلة وليس المشكلة ذاتها. وعدم كبح جماح نتنياهو، يتجلى تصعيداً في الإقليم أيضاً، واهتزازاً لسياسة التوازن بين دعم الحرب في غزة والحؤول دون توسعها، ولعل فصلها الجديد المتمثل في إستهداف مقر معلن للحرس الثوري في قلب دمشق بصواريخ إسرائيلية، هو إشارة إلى رغبة نتنياهو بإطالة أمد الحرب وكسر قواعد الإشتباك، في إنتظار “صورة إنتصار” يُمكن أن تتوفر له في المرحلة المقبلة وربما لا تتوفر!
إحتواء اميركي إيراني ولكن!
هذه الوقائع المتدحرجة تجعل الشرق الأوسط اكثر إضطراباً منذ تفجر الحرب قبل 105 أيام، وهذا ما تصفه “النيويورك تايمز” بأنه “أدق الرقصات المليئة بالإشارات الخفية والخدع والأفعال التي يمكن التنكر منها”، وتنقل عن ديبلوماسيين في المنطقة إنهم “يشعرون بالقلق من أن الحكومة الإسرائيلية المتشددة أقل اهتماماً بكثير حيال احتواء الصراع من إدارة بايدن. ويعتقد البعض أنهم قد يرون قيمة في ضرب وكلاء إيران وجذب الولايات المتحدة بشكل مباشر أكثر إلى النزاع”.
وعندما يضيق الوقت أمام الجهود الأميركية، تتصاعد جبهات جنوب لبنان واليمن. وليس من المبالغة القول إن الولايات المتحدة مُهدّدة بالانجرار أكثر إلى التورط في نزاع البحر الأحمر. وأتت الضربات الصاروخية الإيرانية، في الأسبوع الماضي، على مواقع في العراق وسوريا وباكستان، والرد الباكستاني على إيران، لتُذكّر الولايات المتحدة بأن حروباً أخرى قيد التشكل في المنطقة، وبأن الفوضى الإقليمية هي أكثر تعميماً، إذا أخذنا في الاعتبار تزامن القصف الإيراني مع قصف تركي على مواقع “حزب العمال الكردستاني” في العراق ومواقع “وحدات حماية الشعب” الكردية في سوريا. وانضم الأردن إلى المشهد بغارات جوية على محافظة السويداء السورية هذا الأسبوع قيل إنها في إطار مكافحة تهريب المخدرات، ولكن ثمة إشارات إلى وجود أبعاد أمنية متصلة بما يجري في الضفة الغربية.
كسر قواعد الاشتباك
هنا، تجدر الإشارة إلى التوقيت الذي اختارته إيران لإطلاق صواريخها شرقاً وغرباً. هل هو تذكير بضرورة عدم تجاهل طهران عندما تناقش الولايات المتحدة مستقبل المنطقة فوق أنقاض غزة؟ وهل هو عرض للقوة الذاتية بعدما تردد أن إيران تكتفي بدفع حلفائها إلى خوض الحرب عنها؟ أم هو رد على سلسلة ضربات تعرضت لها إيران في الأشهر الأخيرة في سوريا باغتيال القائد في “فيلق القدس” البريغادير جنرال رضي موسوي ومن خلال هجمات لـ”جيش العدل” البلوشي على مراكز للشرطة الإيرانية وصولاً إلى تفجيري كرمان الأخيرين، وهما الأكثر دموية منذ الثورة الإيرانية عام 1979؟ وهل تتناقض الرسائل الصاروخية الإيرانية مع الفكرة التي سادت منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهي أن إيران وأميركا يخوضان حرباً بالوكالة ويتفاديان المواجهة المباشرة؟ أم أن لذلك علاقة بتمادي الرد الأميركي العسكري على الحوثيين؟
مهما كان الدافع الإيراني لإطلاق الصواريخ والردود التي تسبّبت بها من العراق إلى باكستان، ما يزال من المبكر القول بتخلي إيران عن سياسة الحذر حيال الدخول في نزاع مباشر مع الولايات المتحدة.. ومع ذلك، كلما طالت حرب غزة كلما كانت سبباً في مزيد من النزاعات والاضطرابات في الأنحاء القريبة منها.. والبعيدة.