الفيلم يعرض ببساطة شديدة حياة رجل فى الخمسينيات من العمر، واسمه هيراياما، يعمل بكل رضا كعامل نظافة للمراحيض العامة فى حى شيبويا الراقى فى طوكيو. يكرر هيراياما حياته المنظمة بدقة كل يوم بدءا من الفجر، يأخذ قهوته ويتناولها فى شاحنته الصغيرة أثناء قيادتها فى اتجاه العمل.
يكرس بطل الفيلم وقت فراغه لشغفه بالموسيقى، يستمع إليها فى شاحنته من وإلى العمل، وكتبه التى يقرأها كل ليلة قبل النوم. هيراياما كان مغرما جدا بالأشجار، ويتناول الغداء يوميا فى حديقة، كما كان يعشق التصوير. وفى يوم فراغه فى نهاية الأسبوع، يقوم هيراياما بغسل ملابسه، والاعتناء بشجيرة وزهور فى شقته الصغيرة التى ينظفها أسبوعيا، ويشترى كتابا جديدا ويتناول العشاء فى مطعم أصبح من رواده الملتزمين.
يتعرض الفيلم لحالة تعامل هيراياما مع أربع شخصيات، زميله فى العمل، وأخته، وصاحبة المطعم، وزوج صاحبة المطعم السابق، وذلك باقتضاب شديد. ثم يعود الفيلم بالمشاهدين والمشاهِدات بعد كل احتكاك بهذه الشخصيات لعرض حياة هيراياما البسيطة لدرجة الملل بمتعة كبيرة!.
***
انتظرت خلال مشاهدتى حفل الأوسكار (مساء يوم 10 آذار/مارس الجارى) أن يحصل الفيلم اليابانى على الجائزة، إلا أنها كانت من نصيب فيلم آخر هو فيلم «منطقة الاهتمام» (Zone of interests). غضبتُ واعتبرتُ أن حصول هذا الفيلم بالتحديد على الجائزة هو رسالة سياسية ممن ينظمون الأوسكار لدعم إسرائيل، إذ إن قصة الفيلم تدور فى رحاب معسكر أوشفيتس الشهير فى بولندا حيث تم قتل مئات الآلاف من اليهود الأوروبيين.
ألقى مخرج الفيلم، جوناثان جليزر، وهو يهودى، أثناء تسلم جائزة أفضل فيلم أجنبى، كلمة مقتضبة أصبحت دقيقتها الواحدة أهم ما تحدثت عنه وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية عقب حفل الأوسكار.
تحدث جليزر عن الفيلم الذى عمل عليه لمدة 10 سنوات كاملة، وتزامن إصداره مع الغزو الإسرائيلى المستمر على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كما قال إن الفيلم يُظهر إلى أين يؤدى التجريد من الإنسانية فى أسوأ حالاته، موضحا: «فى الوقت الحالى، نقف هنا كرجال يدحضون يهوديتهم والهولوكوست الذى اختطفه الاحتلال وأدى إلى وقوع الكثير من الأبرياء».
أعرب جليزر أيضا عن انتقاده، كيهودى، تجريد كل من «ضحايا 7 أكتوبر فى إسرائيل» من إنسانيتهم و«الهجوم المستمر على غزة». ودفعنى ذلك للإسراع بمشاهدة الفيلم فى اليوم التالى.
***
يدور الفيلم حول رودولف هوس، قائد معسكر اعتقال أوشفيتس، ويتتبع حياته العائلية المثالية مع زوجته وأطفاله حيث يعيشون فى منزل فخم مجاور مباشرة لمعسكر الاعتقال، بينما يتم إبقاء الفظائع نفسها بعيدا عن الأنظار خلف جدار المعسكر.
أثار خطاب جليزر تصفيقا صاخبا داخل مسرح حفل توزيع جوائز الأوسكار حيث ظهر العديد من المشاهير واضعين دبابيس حمراء على ملابسهم، فى منطقة الصدر، كرمز لدعمهم لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة
يدعو الفيلم المشاهدين والمشاهِدات إلى التعرف على الحياة اليومية لعائلة «هوس» حيث تنقل الكاميرات حياة عائلية شاعرية، مع منزل نظيف بطريقة صحيحة وحديقة وفيرة. أحب النازيون أطفالهم وحيواناتهم الأليفة، عزفوا على البيانو، وزرعوا حدائق جميلة، ومارسوا الرياضة.
اختارت كاميرا الفيلم التركيز على شخصياته الرئيسية وانفعالاتهم وعواطفهم، وأظهرت فى الوقت ذاته فى الجزء الخلفى من الحدث تفاصيل دقيقة كغيوم البخار المتصاعد من قاطرة فى الأفق، والدخان المتصاعد من محرقة الجثث إلى هواء السماء، والتوهج المحمر لسماء الليل، والرماد الذى يخصب حديقة الورد.
نجح الفيلم فى إدخال عنصر الصوت بصورة مبتكرة، الصوت كان بالأساس فى خلفية الأحداث من خلال أصوات طلقات النار داخل المعسكر المجاور، وأصوات صريخ بعض الضحايا، ناهينا عن صور دخان يتصاعد مع حرق أجساد الضحايا داخل المعسكر. ولم يعرض أو يتعرض الفيلم لأى شخصية يهودية على الإطلاق.
يعرض الفيلم كذلك المداولات بين القادة النازيين حول كيفية التخلص من مئات الآلاف من اليهود بصورة منتظمة مرتبة وبكفاءة عالية. ركز المخرج على سلوك العائلة فى حديقة المنزل، وعكس موقف أمة بأكملها أرادت ألا تعرف شيئا عما يحدث من مأسٍ على بُعد خطوات منهم.
لم يسرد الفيلم قصة محددة، بل نجح فى رسم عالم كامل متواطئ فى المذابح، بكل هدوء وبكل ثبات.
***
بصورة غير مباشرة دعمها توقيت عرض الفيلم، قارن مخرج الفيلم اليهودى إسرائيل بألمانيا النازية، عندما أشار لاختطاف المحرقة (الهولوكوست) وانتقد عمليات العدوان الإسرائيلى فى غزة. حظى خطابه بالكثير من الثناء، ولكن أيضا انتقادات الكثير من اليهود.
أوضح جليزر أن هدفه كان إظهار أن مرتكبى الهولوكوست لم يكونوا وحوشا، بل بشرا مثلنا تماما. كما كان يمكن أن يحدث فى أى مكان، لأى شخص، من قبل أى شخص. وأضاف: المشاهدون مدعوون للنظر فى أنه بينما نمضى فى حياتنا الدنيوية، يحدث الشر فى مكان ما خلف جدار (قطاع غزة فى هذه الحالة)، واخترنا عدم النظر إليه.
أثار خطاب جليزر تصفيقا صاخبا داخل مسرح حفل توزيع جوائز الأوسكار حيث ظهر العديد من المشاهير واضعين دبابيس حمراء على ملابسهم، فى منطقة الصدر، كرمز لدعمهم لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة.
أدى الخطاب إلى رد فعل كبير فى وسائل الإعلام، خاصة بسبب ما اعتبره البعض اقتباسا خاطئا والتسوية بين ضحايا إسرائيل وضحايا غزة، فى سلوك عنصرى قبيح وكأنه لا يريد أن يساوى بين ضحايا غزة وضحايا إسرائيل.
على النقيض، رحب كُثر من المعلقين بالفيلم واعتبروه بمثابة تحذير من سلبية العالم خاصة الجانب الإسرائيلى، إذ اعتبر أن الشعب الإسرائيلى لا يكترث بحقيقة أن هناك مجموعات من الأبرياء تقتل دون الاهتمام بهم أكثر من الأبرياء الآخرين.
يدفعنا الفيلم لتذكر أن ضحايا الهولوكوست كانوا ضحايا التجريد من إنسانيتهم، وصُدم العالم من إشارة المخرج اليهودى إلى أن إسرائيل اختطفت ذكرى الهولوكوست لتجريد الفلسطينيين والفلسطينيات فى غزة من إنسانيتهم. عندما قال «نقف الآن هنا كرجال يدحضون يهوديتهم والهولوكوست الذى اختطفه الاحتلال، مما أدى إلى صراع لكثير من الأبرياء سواء كانوا ضحايا 7 أكتوبر/تشرين الأول فى إسرائيل أو الهجوم المستمر على غزة، جميع ضحايا هذا التجريد من الإنسانية، كيف نقاوم ذلك؟».
(*) بالتزامن مع “الشروق“