لا حرب كبرى في المنطقة.. لماذا؟

ذهب البعض لتفسير رّد إيران على الاعتداء الإسرائيلي على قنصليتها في دمشق بالتحليل أنّه رد المضطر وذهب آخرون إلى القول إنّه ردّ المنتظر المترّقب للفرصة بغية خلق وقائع مختلفة وإنشاء مسار جديد.

في المتابعة، فاجأ الرّد الإيراني إسرائيل واستوقفها ملياً ومن خلفها أميركا والغرب، هل المطلوب التعاطي معه على ضوء نتيجته المادية المباشرة أم على أساس نية الفاعل ومقصده، فربّما يكون فعلاً إنشائياً لمسارٍ جديدٍ يُعّبر عن قراءة إيرانيةٍ مختلفةٍ للمعطيات والواقع الدولي والإقليمي والفراغات الكبرى فيه وعن استكشافها لفرصة كبيرة تلوح في هذه اللحظة دفعت بها للتقّدم خطوة أبعد من المسرح الإقليمي. كل القرائن كانت تؤشّر إلى الفهم الثاني؛ إيران نظرت لما حصل أنّه فرصة تفترض بها السير قدماً بنقلة جيوبوليتيكية نوعية. لا شّك أنّ هذه الفرصة قلّبت الأمور وأخذت بكل الاحتمالات التي يُفترض أنّ الكيان الإسرائيلي أرادها من ضربته (إن لجهة تدفيع إيران الغُرم مقابل ما يدفعه هو من غرمٍ جراء حرب غزّة بدل أن يبقى هو يدفع الغرم وإيران تأخذ الغنم فيبني معادلة، أو بغية إيقاعها في مواجهة مباشرة مع أميركا كما افترض).

لقد أخطأ الإسرائيلي في قراءته للعالم والمنطقة وفي فهم اللحظة الدولية والإقليمية وأطرافها ومعنى صراع الإرادات الذي يترّدد كمصطلح جديد في عالمنا، كما كان قد أخطأ قبل أشهر قليلة في تقديره لموقف حركة حماس حين تعاطت قيادته السياسية بازدراءٍ مع معطياتٍ أمنيةٍ أشارت إلى أنّ حماس تتحّضر لأمرٍ كبير قبيل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

لقد نظر الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي إلى نيّة الفاعل الإيراني وليس إلى عدد الصواريخ التي وصلت؛ فالصراع مع أميركا وإسرائيل مصّنف إيرانياً في خانة صراع الإرادات. لا يتوّقف مهما كانت الصعوبات والمدّة حتّى يبلغ غايته، كيف وعامل الوقت يسير لمصلحة إيران؟ لذلك تراها أبدعت في انتخاب طريقة موّحدة مركّبة حققّت هدفها وأجهضت مرامي بنيامين نتنياهو وإسرائيل فنتج عن ذلك نتائج كبرى:

إن مضمون الرّد الإيراني جاء ليُثبت أنّ كل المحاولات التاريخية لأميركا لتجعل إسرائيل محور أي نظام أمني إقليمي قد باءت بالفشل، بل انتهت. فإسرائيل لم تعد قادرة على هذه المهمة الاستثنائية والكبيرة. في المقابل، قالت إيران أنّها الأوثق لدول المنطقة الباحثة عن استقرارٍ فتنمية؛ هي القادرة على أن تكون محور أي نظامٍ أمني إقليمي مستقل بالتعاون مع قوى المنطقة وبعيداً عن أي وجود غربي لم يُحقّق إلا التوّتر والحروب. وممّا ساعد في جعل الضربة الإيرانية الجزء الأخير للمعادلة وليس الخطوة الأولى فيها هو ما أظهره حلفاؤها من قدراتٍ استثنائية جعلت الأميركي يقف عاجزاً أو لنقل مربكاً جداً في التعاطي معها كما في ساحة اليمن أو في العراق أو مقاومة لبنان – الوزن الثقيل والنوعي – أو قوى أخرى قد تطّل على المشهد قريباً أو لاحقاً مع احتمالية أن يتكّرر نموذج البحر الأحمر في البحر الأبيض المتوسط ومضائق أخرى كباب المندب بما يؤدّي إلى تهديد مستقبل “البلطجة” الأميركية على البحار ونظريات الجيوبوليتيك الأميركية (ماهان)، فكيف إذا تنبّهنا أنّ افريقيا لن تكون ساحةً للغرب فيها موطئ قدمٍ مستقبلاً مهما حاول، وهي بدأت تطيح بنفوذه وتستقبل أطرافاً جديدةً على قاعدة الاحترام والندية والتلاقي بالبنية الدولية في مواجهة الغرب المهيمن وما يعنيه ذلك من فرص لإيران والصين وروسيا معاً.

إن مضمون الرّد الإيراني جاء ليُثبت أنّ كل المحاولات التاريخية لأميركا لتجعل إسرائيل محور أي نظام أمني إقليمي قد باءت بالفشل، بل انتهت. فإسرائيل لم تعد قادرة على هذه المهمة الاستثنائية والكبيرة. في المقابل، قالت إيران أنّها الأوثق لدول المنطقة الباحثة عن استقرارٍ فتنمية؛ هي القادرة على أن تكون محور أي نظامٍ أمني إقليمي مستقل

هل بعد هذه الضربة – ولو كان مبرر إيران للرّد على الاعتداء على قنصليتها لأن الإستهداف طال أراضٍ إيرانية – يُمكن أن نشهد في الفترة المقبلة إمكانية تطوير مصطلح الحماية الإيرانية ليس فقط بما يشمل مصالحها إنّما أيضاً قيمها التحّررية، خصوصاً أنّ الصراع في عمقه هو أمن أنطولوجي وقيمي ما يعني أنّ مظّلة حمايتها مرشّحة للتوّسع باضطراد وحكمة، لتستوعب بعد حين كل قوى المقاومة المتوّقع توّلدها في آسيا وأفريقيا بالمباشر وعلى غير ما رغب أو اتجّه البعض لتفسير الموقف الإيراني المتريّث طوال السنوات الماضية وهي الفترة التي عُرفت بمرحلة “الصبر الإستراتيجي”!.

أغلب الظّن أنّ عالم الهيمنة بات اليوم أمام معضلةٍ فعليةٍ مزدوجة أو بشقين. معضلةٌ تفتح آفاقاً لفرصٍ كبرى زاحفةٍ وديناميكياتٍ تتوالد دونما توّقف. لكن اقتناص هذه الفرص لا يعوزها الانفعال بل الشجاعة والحكمة والتأني وبالآن ذاته جاهزية عالية للتقّدم في اللحظة المناسبة دونما تأخرٍ ولا استعجال ودون توفير ذريعةٍ كافيةٍ تجعلك منفرداً في مواجهة عدّوك الصهيو-أميركي الغربي. فالشّق الأوّل من المعضلة يكمن في أنّ الأصيل الأميركي بالذات يواجه تحّدياً عجز وكلاءه لا سيّما الإسرائيلي في تحقيق مصالحه، فحرب الأشهر الثمانية وصولاً للصدمة التي أحدثتها إيران في ليل 13- 14 نيسان/أبريل كانتا كافيتين لتثبيت ذلك ولا سيما عجز إسرائيل عن تأدية دورها الوظيفي التاريخي. أمّا الشّق الثاني، فيكمن في أنّ الأصيل لم يعد بوارد النزول المباشر إلى الميدان لخوض المواجهة إن في قبالة قوةٍ أيديولوجية وثقافيةٍ عظمى كإيران أو قوّة عسكرية عظمى كروسيا أو قوّة اقتصادية عظمى كالصين، لا لعدم رغبة بل لعدم قدرة!. فأي مواجهة مباشرة بين أميركا وهؤلاء اللاعبين الثلاثة هي مكسب لاثنين منهما على حساب آخرين في نهاية المطاف واستنزاف مفتوح للآخريْن؛ لذلك لن يكون أي من اللاعبين بوارد التصادم المباشر مع أميركا ولا الأخيرة بوارد التصادم مع أي منهما من أجل أحدٍ من عملائها لا إسرائيل ولا فولوديمير زيلينسكي ولا تايوان.

إقرأ على موقع 180  روبرت فورد: الإستراتيجية الأميركية في سوريا فشلت.. وهذا بديلها

ماذا يعني ذلك؟

يعني أنّ إمكانيات اندلاع حرب كبرى في المنطقة قد ولّت إلى أجل؛ فلا إسرائيل قادرة على خوضها ولا أميركا من مصلحتها مباشرتها بينما المسرح الدولي ينتظر بفارغ الصبر أي خطأ أو سوء تقدير أي لاعب وإرادة فيه من بين الإرادات المتأهبة لاقتناص فرصٍ آتية.

هذا سيضطر أميركا للعودة إلى إعادة العمل بديناميكيات مُجرّبة نوعاً ما ولو بقوّةٍ وعنفٍ (غير مادي) أكبر، وسيضطرها إلى إعادة التفكير كيف يجب أن تُقارب منطقة تبدو كل الإستراتيجيات المحتملة فرصها فيها ضعيفة للغاية؛ أي أن كل خيارات أميركا صعبة ونتائجها غير مضمونة.

إن مقاربة أميركية تقوم على مواجهة الإرادة الإيرانية أمنياً ومن خلال خلق محاور ستفشل حكماً، وأية مقاربة بالاقتراب من إيران مجدداً بإحياء الاتفاق النووي والتعاون معها مستحيلة من قبل إيران وخصوم إيران في المنطقة وتعتبر تراجعاً أميركياً أمام إيران وضعفاً بائناً، وأية مقاربة تقوم على ربط المسارات وتعليقها على بعضها البعض لم تعد بالضرورة واقعة.

إن أميركا، ومن أجل حفظ توازنها مع عدوتها إيران ومحور المقاومة الذي يتمّدد شعبياً وربّما أبعد من ذلك في الفترة المقبلة مع انخراط قوى جديدة فيه أو مع من يتطلع من خصومها الدوليين لتعزيز أوراقه في المنطقة كروسيا والصين؛ ستكون مضطرة إلى أن تواجه هؤلاء ليس على قاعدة إسرائيل وأولوية إسرائيل ومحورية إسرائيل كما قارب هنري كيسنجر المنطقة ذات يوم بل مضطرة لإعادة الانفتاح أفقياً وبدء ترميم علاقاتها واستعادة الثقة المهتّزة لا سيّما مع دول الخليج (البحرين والسعودية والإمارات) الذين سيجدون أنفسهم في موقفٍ صعبٍ جداً جداً وأصعب بكثير ممّا مروا به تاريخياً حين تضع حرب غزّة أوزارها بعدم تحقيق إسرائيل أي من أهدافها واستشعارهم أنّ أميركا عجزت عن تأمين حركة المضائق لحلفائها – أي لإسرائيل. لذلك ستبدأ أميركا مسار إعادة جذبهم إلى فضائها وتأمينهم وصياغة تفاهمات أمنية معهم بمعزل عن حل الدولتين كشرطٍ مفترض للتطبيع وترابط المسارين المباشر، فليس بالضرورة أن تمّر علاقتها بهم عبر إسرئيل وحل الدولتين كما في الماضي وأيضاً بالنسبة إليهم ليس بالضرورة أن يصلوا إلى حل الدولتين كشرط لاستعادة ضمانة أمنهم المترّنح بالقوّة (وقد تأتي لحظة يصبح بالفعل) بل أولويتهم ستكون دائماً مصلحتهم المباشرة إذا ما تعهّدت أميركا بتأمينها لهم كما تزعم، فهم مهما حاولوا التمايز ستبقى هويتهم وأمنهم رهن بقاء الهيمنة الأميركية قوية في المنطقة والوجود الإسرائيلي بشكلٍ أو بآخر.

إذاً نعود اليوم وبمعزل عن مسار الحرب الذي يتّجه في نهاية المطاف ليخفت وينخفض بوجود تسوية أو بعدمها، نعود اليوم لبدء مسارات جديدة في المنطقة وديناميكيات يغلب عليها السياسي ومتعلقاته على الفعل الأمني العسكري (الذي سيكون محدوداً) كأقل الاستراتيجيات سوءاً للأميركي وأفضلها فرصاً وإن قلّت إمكانيات نجاحها!. فكل محور من محوري الصراع بدأ خطواته لصياغة تحالفات وترتيب أوراق قوّته وتعزيزها وحشد قوى إلى جانبه وتحالفات وتوسيع جبهته، مع فارق مهم أنّ الأرضية لإيران والشرعية أقوى بكثير في غرب آسيا ووسطها وصولاً لشرقها والأهّم من ذلك العالم الإسلامي وإفريقيا وشعوبها التي تعيش يقظة كبرى اليوم في مواجهة هيمنة الغرب وأميركا وتتطّلع لمن يساعد ويدعم من منطلق الندية والكرامة والأخوة الفعلية لا الاستغلال، ناهيك عن أنّ إيران تعتبر مقاربتها انتصرت ما يعني أنّها لن تحتاج إلى تغيير مقاربة بل إلى تزخيمها وتطويرها في مواجهة “ما تبّقى من إسرائيل” فستستمر بتكريس مسار بناء القوّة، والأهّم مّد الجسور نحو الشعوب حيث مكمن القوّة في هذا الزمان.

كل محور من محوري الصراع بدأ خطواته لصياغة تحالفات وترتيب أوراق قوّته وتعزيزها وحشد قوى إلى جانبه وتحالفات وتوسيع جبهته، مع فارق مهم أنّ الأرضية لإيران والشرعية أقوى بكثير في غرب آسيا ووسطها وصولاً لشرقها والأهّم من ذلك العالم الإسلامي وإفريقيا وشعوبها التي تعيش يقظة كبرى

بالمقابل، ستكون أميركا مضطرة للبحث عن اقتراب جديد بعدما فشلت اقترابات عقود. هي ستتّجه لترّكز أكثر على الصورة والشكل و”التخريجة للخسارة” على حساب المضمون في الصراع الجاري في غزّة لأنّ وقائع حرب غزّة ومعطياتها الصلبة لم تأت لصالحها، ولن تكون!. وعالمياً هي مشتتّة بين ساحات الصراع العالمي المضطربة وسياساتها المتخّبطة وتوزيع قوتها المحدودة في نهاية المطاف على ساحات عالمية متعددة، والأهّم هو واقع أميركا الداخلي الذي يظّل التحّدي الأوّل والأخطر الذي تواجهه من دون أن تتراءى فرصة حل جدّي لمشاكلها، وليست تظاهرات الجامعات الأميركية إلاّ خير تعبير عن أعطاب بنيوية تُعاني منها منظومة الغرب وعن العقم السياسي – الفكري الذي أصاب النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. لذا، ستتجه أميركا لاستلحاق ما أمكن من مصالحها في منطقة تتوسّط كل سياسة عالمية الطابع وستكون في خياراتها محكومة بين السيء والأسوأ!.

خلاصة القول إنّ عظيماً جديداً في عالمنا قد ولد وما كان ليولد دونما فلسطين وغزّة ودونما خطاب ومحور المقاومة في الإقليم وجبهة المقاومة العالمية. يجب أن نكون متفائلين وننظر بأمل وبجّد، فلا حياة إنسانية دون محور الأخلاق، محور المقاومة.. ولا مستقبل كريم للبشرية من دونه.

Print Friendly, PDF & Email
بلال اللقيس

باحث سياسي، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ولاية بايدن الثانية مُهدّدة.. "جبهات المساندة" في قلب جامعات أميركا!