لم يكن مفاجئاً حصول المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان على غالبية أصوات الناخبين (53%) في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الإيرانية المبكرة، ذلك أن مؤشرات الجولة الأولى كانت واضحة الإتجاه، وخطاب الرئيس الجديد كان أكثر ارتباطاً بهموم فئات شعبية أصبحت أكثر فأكثر شرائح ذات مطالب فردية واجتماعية وقومية وعامة، بينما كان خطاب منافسه الأصولي سعيد جليلي (حصل على 45% تقريباً من الأصوات) يميل إلى التعامل مع الشعب الإيراني كأمة واحدة، من دون أن يتجاهل التوجه إلى الفقراء والعمال وغيرهم.
أما القاسم المشترك بين الجانبين، فهو التركيز على المحور الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي يستهلك معظم النقاش الداخلي منذ نهاية الحرب مع العراق عام 1988 وبدء إعادة الإعمار، وسط عاصفة من الأحداث والتطورات المتسارعة في محيط إيران. حتى إعادة إحياء المفاوضات النووية وفك “العزلة الدولية” التي وردت مراراً في خطاب الإصلاحيين تندرج في إطار تحسين الوضع الإقتصادي وخلق فرص إستثمار حجبتها العقوبات الغربية عن إيران.
الانتخابات بالأرقام
وبالرغم مما مرّت به إيران من اضطرابات في السنوات الماضية وتعرّضها لإجراءات حصار اقتصادي غربي والسعي لبث روح اليأس بين الناس على مختلف الصعد، تمكنت السلطات الإيرانية من إنجاز الإستحقاق الرئاسي الطارئ بعد وفاة الرئيس السيد ابراهيم رئيسي بتحطم مروحيته في التاسع عشر من شهر أيار/مايو 2024. ولوحظ في هذا السياق الآتي:
أولاً؛ إتمام العملية الإنتخابية وإصدار النتائج بسرعة بعد ساعات من إغلاق مراكز الإقتراع. وعكست نسبة المشاركة المُذاعة رسمياً (49.8%) نتائج واقعية. وكما في الجولة الأولى، يشير هذا مرة أخرى إلى أن السلطات تنظم عملية تتسم بالمصداقية والمصارحة، بخلاف ما يشاع في دوائر الغرب. وقد جعل النظام بأعلى قياداته زيادة نسبة الإقتراع أولوية لتجسيد الشرعية الشعبية للعملية، لكنه لم يلجأ الى تظهير نسبة مشاركة عالية تتجاوز 50%، ولو ان طوابير الناخبين امتدت حتى منتصف الليل في مراكز الاقتراع. يبقى أن معالجة غياب نسبة كبيرة من الناخبين عن التصويت تتطلب وقتاً وفهماً لمتغيرات المجتمع الإيراني الذي ملّ من البيروقراطية والنزاعات الحزبية التي تؤثر على قدرة الدولة على حل المشاكل، ومن غياب بعض المسؤولين عن مشاركة المواطنين في حلو حياتهم ومرّها.
ثانياً؛ تقبّل جميع الفرقاء النتائج وفتح صفحة جديدة بعد الإنتخابات، من دون ترك أثر قانوني أو انعكاس سلبي في الشارع. وهذا يعكس استقراراً سياسياً، بالرغم مما تبدو عليه إيران من صخب سياسي في بعض المحطات. إضافة الى ذلك، أبدى الأصوليون الاستعداد للتعاون مع الرئيس الجديد في مجلس الشورى (البرلمان) الذي يسيطرون على الغالبية فيه. وكما هو واضح، على الرئيس المنتخب أن يتعاون مع بقية المؤسسات لكي ينجح في مهمته، وكلما قلّل من الاحتكاكات غير الضرورية وإثارة حساسية الطرف المقابل في العديد من القضايا الداخلية والخارجية، كلما كان ذلك أضمن لنجاح مهمته.
ثالثاً؛ صحيح أن الرئيس الجديد مسعود بزشكيان حصل على أكثرية الاصوات، لكنها أكثرية نسبية، ذلك أن الكتلة التصويتية التي حصل عليها سعيد جليلي ليست بسيطة. ومن المرجح أن يستند الأخير إلى هذا الرصيد لكي يقوم بدور نشط في المشاركة بتحديد ملامح المرحلة المقبلة من خلال تشكيله “حكومة ظل”، وهو الذي هنّأ الرئيس المنتخب وعرض عليه المساعدة لتجاوز المشاكل في البلاد، كما يُرجح أن يترشح جليلي مجدداً بعد أربع سنوات إذا بقيت المعطيات السياسية على ما هي عليه.
يترافق انتخاب الرئيس الإيراني الجديد مع اشتداد الصراع بين المقاومة والعدو الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، الأمر الذي يتطلب اضطلاع ايران بدور أساسي في دعم القضايا التي تتبناها، ما يستلزم التوفيق بين جدول الأعمال الداخلي المزدحم وحالة الصراع المحتدم في المحيط
رابعاً؛ بالأرقام، حصل مسعود بزشكيان في الجولة الثانية على 16.4 مليون صوت، بزيادة 6 ملايين صوت عما حصل عليه في الجولة الأولى. كما حصل سعيد جليلي على 13.5 مليونا بزيادة 4 ملايين صوت عما حصل عليه في الجولة الاولى. ومجموع الزيادة في أصواتهما عن الجولة الأولى تبلغ عشرة ملايين صوت، وهذه الكمية لا يمكن الإفتراض بأنها كانت مقاطعة في الجولة الأولى، وإنما كانت هناك ضبابية أو حالة انتظار لاتضاح نتائج الجولة الأولى قبل حسم هؤلاء الناخبين خيارهم. وليس من الواضح أن أصوات المرشحَيْن المحافظَين الخاسرين في الجولة الاولى محمد باقر قاليباف ومصطفى بور محمدي صبّت جميعها عند سعيد جليلي، في ضوء اتجاه بعض الناخبين من قاعدة قاليباف الى التصويت لبزشكيان، كما أن مجموع أصوات المرشحَين الخاسرين تبلغ 3.5 مليون صوت، وهذا أقل من الأصوات الإضافية التي حصل عليها جليلي في الجولة الثانية، ما يشير الى انه تمكن من استنهاض أصوات من الفئة المترددة أو الرمادية.
أما بزشكيان فقد استقطب حصة أكبر من الفئة المترددة. ويمكن أن نعزو ذلك إلى الحملة المركَّزة التي قام بها المرشح الاصلاحي وداعموه (وعلى رأسهم وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف والرئيس الأسبق الشيخ حسن روحاني) ضد المرشح الأصولي. وظهر ذلك في المناظرتين اللتين سبقتا الجولة الثانية. وعلى افتراض أنه حصل على دعم شريحة من أصوات قاعدة الأصوليين تبعاً لاعتبارات اقتصادية واجتماعية، فهذا يلقي على الرئيس المنتخب مسؤولية إضافية في الحفاظ على تأييد الشرائح المختلفة التي صبّت لمصلحته.
وأمكن في الجولة الثانية رفع نسبة المشاركة في التصويت من 40% إلى نحو 50%، وهذا يعود إلى خروج نسبة من الناخبين من حيز الإنتظار أو التردد الى المشاركة، وإلى انحصار المنافسة بين مرشحَين اثنين وما رافق ذلك من زخم في الأسبوع الإنتخابي الأخير ولا سيما في حملة مرشح التيار الإصلاحي.
حملة بزشكيان
إتسمت هذه الحملة بهجوم مركّز على نهج الأصوليين، وقامت على الأسس الآتية:
أولاً؛ التخويف من وصول المرشح الأصولي جليلي الى الرئاسة باعتبار انه يعني 8 سنوات إضافية (يحق للرئيس الجديد الذي يُنتخب لأربع سنوات أن يترشح لولاية ثانية) من العقوبات الدولية، بحسب تعبير محمد جواد ظريف الذي اضطلع بدور حماسي في حملة بزشكيان ويُتوقع أن يكون له دور محوري في الحكومة الجديدة. واعتبر ظريف أن الأصوليين يتحملون مسؤولية فرض العقوبات الاميركية، علماً ان الاتفاق النووي تم عام 2015 في عهد الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني والرئيس الأميركي باراك اوباما ونقضَه الرئيس الأميركي دونالد ترامب عام 2018 في عهد روحاني أيضاً. كما ان العقوبات الأميركية بدأ العمل بها بعد انتصار الثورة الاسلامية وتم تشديدها في تسعينيات القرن الماضي خلال عهد الرئيس هاشمي رفسنجاني، وأخذت بعداً شمولياً عبر مجلس الأمن الدولي بدفع من الحكومة الأميركية في فترة حكم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، ثم شُددت مرة أخرى مع مجيء ترامب للرئاسة والذي افتتح معركة “تصفير” الصادرات النفطية الايرانية.
ثانياً؛ التقليل من شأن الإنجازات التي حقّقها الأصوليون، ولا سيما في عهد الرئيس ابراهيم رئيسي باعتبار أن جليلي هو امتداد له. وركّز بزشكيان مراراً على وعد الحكومة السابقة بإنشاء مليون وحدة سكنية كل عام، وهو وعد تحقق جزء محدود منه بسبب عدم توفر التمويل اللازم. وكان أداء بزشكيان في المناظرتين اللتين جرتا مع منافسه جليلي قبيل الجولة الثانية قوياً، ما جعل موقف الأخير دفاعياً، بخاصة أن الأول حرّر نفسه من أي ارتباط عضوي مع التيار الاصلاحي أو أي جهة اخرى وجعل نفسه غير مسؤول عن الفترة السابقة من حكم التيار، وفي المقابل، شنّ هجوماً على حصيلة حكم الأصوليين.
ثالثاً؛ تجنب بزشكيان إعطاء وعود كبيرة. واعتبر ذلك دليل صدق منه، لأنه لا يريد الإخلال بالوعود مع الناخبين، تاركاً لنفسه مجالاً واسعاً للتشاور مع الجميع. وساهمت محاولته إظهار نفسه صريحاً مع الناس في تقريب شخصيته الى الجمهور.
تحديات أمام الرئيس الجديد
تبدو التحديات الاقتصادية والاجتماعية حاسمة في الحكم على ما يفعله بزشكيان، فهذا الإستحقاق بكل عناوينه (مكافحة التضخم، رفع الأجور، توفير السكن، إلخ..) تسبّبَ في إقلاق إدارات كل الرؤساء الذين سبقوا والضغط على حصيلة إنجازاتهم، واحتل حيزاً رئيساً في المناظرات الانتخابية.
ومن يتجول في إيران، اليوم، يُدرك حجم التقدم المُدني والخدمي الحاصل وتطور البنى التحتية، في بلد يتعرض لحصار إقتصادي واسع منذ عقود، وهذا ما يثير الإعجاب. وتُوفر الدولة للمواطنين خدمات الطاقة (البنزين والكهرباء والغاز الشبكي المنزلي) والإتصالات والتعليم والطبابة بأسعار منخفضة لا يوجد لها نظير في البلدان المجاورة. لكن ذلك يقابله تدني قيمة الرواتب مقارنة مع التضخم المرتبط بتراجع قيمة العملة الوطنية أمام الدولار والعملات الرئيسة الأخرى، ما أثّر على القدرات الشرائية للفئات الشعبية الفقيرة والمتوسطة، إضافة الى اشتداد أزمة السكن نظراً لارتفاع أسعار المنازل لا سيما في المدن. وربطت الحكومات المتعاقبة حل هذا الوضع برفع العقوبات الأميركية عن البلاد، وتعهد الإصلاحيون بالعمل على تجديد المفاوضات حول البرنامج النووي. لكن حظهم ليس وافراً في هذا المجال بسبب مقدار التنازلات التي يريد الأميركيون الحصول عليها في المقابل، مما لا يلقى إجماعاً وطنياً. ويأتي انتخاب بزشكيان قبل أربعة شهور من الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يتقدم فيها دونالد ترامب مجدداً في استطلاعات الرأي، ما سيصعّب مهمة الرئيس الإيراني الجديد في حال انتخاب ترامب.
أيضاً، يترافق انتخاب الرئيس الإيراني الجديد مع اشتداد الصراع بين المقاومة والعدو الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، الأمر الذي يتطلب اضطلاع ايران بدور أساسي في دعم القضايا التي تتبناها، ما يستلزم التوفيق بين جدول الأعمال الداخلي المزدحم وحالة الصراع المحتدم في المحيط. ولا يوجد خلاف رئيسيّ بين حكومات الإصلاحيين والمحافظين في إيران تجاه هذه القضايا، لكن الأداء قد يختلف في بعض التفاصيل، وما يُميز فريق المحافظين أنه يتعامل مع قضية فلسطين والمقاومة بروح التبني الكامل، بينما يميل الإصلاحيون إلى انتهاج سياسة نشطة أكثر دبلوماسية. لكن السياسة الخارجية عموماً تتشارك في صياغتها جميع مؤسسات القرار.
في المحصلة، التغيير الحاصل في الداخل الإيراني من شأنه أن يخلق دينامية جديدة في الفترة القريبة المقبلة، لكن توجيهها إلى النهاية المأمولة يعتمد على تعاون السلطات المختلفة وأخذ العبر من التجارب الماضية. ويتابع الغرب والشرق التطور السياسي الجديد في إيران: الأوروبيون أبدوا استعداداً للتعامل مع الرئيس الإصلاحي، لكن القرار النهائي يعود إلى الإدارة الأميركية. أما الشرق الصيني والروسي فهو ينتظر تفعيل اتفاقيات التعاون والشراكة الاستراتيجية الموقَّعة مع إيران. ومن المتوقع أن يُكرّس الرئيس الإيراني الجديد سياسة التقارب التي بدأها سلفه حيال دول الجوار العربي ولا سيما السعودية.