منذ أن أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عزوفه عن الترشح في شهر تموز/يوليو الماضي وتسمية نائبته كامالا هاريس لتولي رئاسة اللائحة الديموقراطية للانتخابات الرئاسية، تستمر التساؤلات حول الموقف الذي ستتبناه نائبة الرئيس الأميركي حيال القضية الفلسطينية في حال فوزها في الانتخابات: هل تتبنى موقف بايدن بالكامل؟ أم تتبنى الموقف ذاته مع تغيير في النبرة؟ أم ستعمد فعلاً إلى ممارسة الضغوط على إسرائيل للانخراط في عملية سياسية واسعة توصل إلى حل الدولتين؟
قبل كل هذا وذاك، هناك كرة النار التي تواجهها هاريس وهي حرب غزة. هذه الحرب إذا لم تتوقف قبل موعد الانتخابات، فإن ثمة مخاطر مرتفعة بخسارة الديموقراطيين للبيت الأبيض. لقد نفّر موقف بايدن الداعم بالمطلق لإسرائيل، التقدميين في الحزب الديموقراطي وجعلهم يصوّتون بعشرات الآلاف في خانة “غير ملتزمين” في الانتخابات التمهيدية في ولايات مهمة مثل أريزونا وويسكونسن وميشيغن. ويضاف إلى هؤلاء، الناخبون من أصل عربي الذين رجّحوا كفة بايدن على ترامب عام 2020 وكانوا سبباً في وصوله إلى البيت الأبيض.
في استطلاعات الرأي التي أجريت قبل انسحاب بايدن من السباق الرئاسي، كان ترامب متقدماً في هذه الولايات المتأرجحة. بعد ترشيح هاريس تظهر الاستطلاعات أن المنافسة ستكون محتدمة من دون ترجيح كفة أحدهما. يدل هذا على أن الناخبين التقدميين ومن أصول عربية يتريثون في منح هاريس شيكاً على بياض، قبل معرفة ما ستفعله في شأن غزة وما إذا كانت ستلبي مطالبهم بممارسة ضغوط فعلية على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كي يقبل بوقف الحرب التي تقترب من دخول عامها الثاني بعد شهر ونيف.
من المؤكد أن موافقة نتنياهو على وقف النار قبل الانتخابات الأميركية، ستُعتبر هدية لهاريس التي قد لا تفوز بالرئاسة بسبب إرث بايدن في الشرق الأوسط، ولذا يعتقد أن من الأفضل له المضي في سياسة شراء الوقت التي أتت أكلها معه منذ عشرة شهور حتى الآن
وبحسب ما جاء في وثيقة الحزب الديموقراطي المُقدمة إلى المؤتمر الوطني في شيكاغو، لا شيء يشي بتغيير في الموقف الداعم لإسرائيل من دون شروط. الوثيقة نصّت مثلاً على أن الولايات المتحدة “تدعم بقوة حق إسرائيل في القتال ضد حماس”، من دون أن تأتي على ذكر فرض حظر على ارسال السلاح إلى إسرائيل، الأمر الذي كانت مجموعات أميركية عدة مؤيدة للفلسطينيين قد دعت إليه.
قبل مؤتمر شيكاغو، قُوطعت هاريس مراراً خلال جولاتها الانتخابية، من قبل متظاهرين يدعون لوقف حرب غزة. وسعت من جهتها إلى استيعاب الموقف بطرق مختلفة، منها التأكيد على أنها تضغط لوقف الحرب، وبالتذكير بأن موقفهم هذا يمكن أن يساعد ترامب على الفوز.
وقال النائب الديموقراطي دان كيلدي، الذي يُمثل عدداً كبيراً من السكان المسلمين في منطقته بولاية ميشيغن، إن هاريس استخدمت خطاباً أكثر حدة، مقارنة ببايدن في الدفاع عن حقوق الإنسان، وهذا يضعها في وضع جيد لإحداث نقلة، حتى لو كانت ضئيلة في شأن غزة وإسرائيل.
ورأى النائب الديموقراطي عن ولاية ميسوري بيني طومسون، أنّه يتعين على هاريس استخدام منصة المؤتمر للبعث برسالة واضحة إلى المتظاهرين في شيكاغو من أجل غزة، بأنها لن تتجاهل مناشداتهم.
والسناتور المستقل بيرني ساندرز الذي تحدث أمام مؤتمر شيكاغو أيضاً ويعتبر من أكثر الشخصيات تأثيراً في التيار التقدمي في الحزب الديموقراطي ولدى جيل الشباب عموماً، كان الأكثر حزماً في “المطالبة بوقف فوري للنار في غزة”.
من الناحية الفعلية، اكتفت هاريس حتى الآن بتغيير في نبرتها مقارنة ببايدن، عندما اعتبرت في خطاب اعلان قبولها ترشيح الحزب، أن معاناة غزة “مفجعة”. مهما بلغت حدة الوصف فإنها لا تكفي لرفع هذه المعاناة إن لم تقترن بالأفعال الحازمة التي تجعل نتنياهو يتراجع.
وقيل إن هاريس وبشكل غير مألوف شاركت في آخر مكالمة هاتفية، الأسبوع الماضي، بين بايدن ونتنياهو، والتي بدا فيها الرئيس الأميركي في موقع المستجدي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بأن يتحلى ببعض المرونة في ما يتعلق بإخراج مفاوضات وقف النار من عنق الزجاجة. الموقف الأميركي المتساهل مع نتنياهو، جعل المعلق في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية جدعون ليفي يتساءل “من هي الدولة العظمى هنا، ومن هي الدولة المحمية”؟
بين مخاطر أن يلاقي الديموقراطيون هزيمة في الانتخابات أو خروج بايدن إلى العلن ليُحمّل نتنياهو مسؤولية فشل التوصل إلى وقف الحرب ويعلن فرض قيود على ارسال السلاح إلى إسرائيل، يظهر أن بايدن يخاطر بكامالا هاريس على إغضاب رئيس الوزراء الإسرائيلي!
منذ عشرة أشهر، ثبت اخفاق سياسة بايدن في ما يتعلق بغزة. لم يحصل رئيس الولايات المتحدة من نتنياهو على أي مقابل، برغم الحماية الأميركية التي تجلت بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، وفي ليلة 13-14 نيسان/أبريل في صد الصواريخ والمسيّرات الإيرانية التي أطلقت على إسرائيل انتقاماً من تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال أحد القادة العسكريين الإيرانيين في الأول من الشهر ذاته. واليوم هناك حاملتا طائرات أميركيتان في الشرق الأوسط وأسراب من المقاتلات و30 ألف جندي على أهبة الاستعداد لحماية إسرائيل من تهديد طهران بالرد على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” اسماعيل هنية في قلب العاصمة الإيرانية في 31 تموز/يوليو الماضي، ومن تهديد “حزب الله” بالرد على اغتيال القائد العسكري الكبير في الحزب فؤاد شكر (السيد محسن) في 30 منه. وتخوض البوارج الأميركية حرب استنزاف ضد الحوثيين في اليمن منذ تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. هذا عدا عن الحماية الديبلوماسية في مجلس الأمن والمحافل الدولية الأخرى.
ولم يستغل بايدن كل ذلك، من أجل جباية ثمن من نتنياهو، ولا يبدو أنه مستعد لفعل ذلك في ما تبقى له من أشهر في البيت الأبيض. والأمر الأكثر اثارة للحيرة، هو أنه بين مخاطر أن يلاقي الديموقراطيون هزيمة في الانتخابات أو خروج بايدن إلى العلن ليُحمّل نتنياهو مسؤولية فشل التوصل إلى وقف الحرب ويعلن فرض قيود على ارسال السلاح إلى إسرائيل، يظهر أن بايدن يخاطر بكامالا هاريس على إغضاب رئيس الوزراء الإسرائيلي!
ومهما يكن من أمر، فقد تأخر بايدن كثيراً في انتزاع وقف للنار من نتنياهو، وكل همّه الآن، ألا يقود الأخير أميركا إلى التورط في حرب مع إيران، في حال ذهابه إلى توجيه ضربة استباقية إلى طهران، مستغلاً الحشد العسكري الأميركي، الذي يُوفّر له شبكة أمان.
ومما لا شك فيه أن التمهل الإيراني في الرد على اغتيال هنية يأخذ هذا العامل في الحسبان. وهذا ما دلّ عليه تصريح الناطق باسم الحرس الثوري الإيراني علي نائيني الأسبوع الماضي، عندما قال إن سيناريوات الرد على إسرائيل ليست متشابهة و”الوقت يعمل لصالحنا، وفترة الانتظار للرد قد تطول”.
من المؤكد أن موافقة نتنياهو على وقف النار قبل الانتخابات الأميركية، ستُعتبر هدية لهاريس التي قد لا تفوز بالرئاسة بسبب إرث بايدن في الشرق الأوسط، ولذا يعتقد أن من الأفضل له المضي في سياسة شراء الوقت التي أتت أكلها معه منذ عشرة شهور حتى الآن.
مضت عقود على وعد جيمي كارتر للفلسطينيين بحق “تقرير المصير” ولم يحصل الفلسطينيون على هذا الحق. وقتذاك ذهب البعض إلى تشبيه كارتر بـ”بلفور العرب”. ما الذي يُمكن أن تفعله هاريس غير تغيير النبرة مع بايدن؟