استطاع مصطفى حجازي أن يُرسّخ اسمه في حيز الزمان في ذاكرة الآخرين؛ اسمٌ ارتبط بقدرة الانسان العربي على النهوض والخروج من دوامة التخلف والقهر نحو رحاب الحرية والكرامة؛ اسمٌ تسمعه في حوارات الطلاب ونقاشات المفكرين ومن حالفه الحظ وتعرف إليه عن طريق الصدفة كحال كاتبة هذا النص.
سألتُ زميلتي في الجامعة اللبنانية عن أنفع الكتب المختصة بعلم النفس، لتجبيني بسؤال سريع: هل قرأت للدكتور مصطفى حجازي؟
قبل هذا اليوم لم أكن أعرف عنه الكثير؛ كان طيفاً يمرُّ أمام غير المتخصصين بعلم النفس، ولكنّ رحلتي بدأت مع كتابه “الانسان المهدور”، لأجد ضالتي في أهمية التحليل النفسي لفهم الظواهر الاجتماعية، حيث استطاع حجازي بقلمه الانسيابي وأفكاره المتسلسلة شرح كينونة العالم العربي وأن يُميط اللثام عن علله النفسية الدفينة.
كتب عن سيكولوجية الاستعباد والقهر وانعكاسها على البشر في كتابه “التخلف الاجتماعي”، وهو من الكتب المميزة التي تتناول مشكلات الإنسان العربي وبشاعة ما يتعرض له من هدر في طاقاته، وبخاصة في ثنائيته “الانسان المقهور والانسان المهدور”. كذلك أنتج كتباً في الفكر والفلسفة والاجتماع وعلم النفس ورفد المكتبة العربية بعصارة أفكاره الغزيرة ولعل أهمها: “العصبيات وآفاتها”، “علم النفس والعولمة”، “اطلاق طاقات الحياة- الصحة النفسية”، بالإضافة إلى الكتب التي ترجمها إلى اللغة العربية ولعلّ أهمها كتب عالم النفس الكبير الدكتور مصطفى صفوان “الكلام أو الموت” و”لماذا العرب ليسوا أحراراً”.
شغل حجازي عدة مناصب أكاديمية في أكثر من جامعة في لبنان والوطن العربي حيث تتلمذ على يديه المئات وربما الآلاف من طلاب المعرفة اللبنانيين والعرب، فنال حظوة الوصول إلى الناس من خلال المحاضرات والمقابلات التلفزيونية والمقالات الصحفية التي جعلته متصلاً بهم، وكانت كتاباته من صميم معاناتهم.
لم يعش مصطفى حجازي في برجه العاجي، بل كان ثائراً بالفكر والكلمة ولم يقتصر انتاجه الغزير على تحليل مواطن الضعف بل كان يؤمن بأن الإنسان هو محور أي عملية تغيير، وأن التحرر النفسي والاجتماعي هو أساس أي نهضة حقيقية وكرّس حياته للبحث في ميكانيزمات التخلف الاجتماعي والنفسي وكيفية النهوض بالفرد والمجتمع من خلال فهم تأثير العلاقات الاجتماعية والسياسية على النفس البشرية، وكيف تتجسّد في سلوكيات يومية تُكرّس التخلف والقهر، محاولًا بناء جسر بين النظرية والتطبيق من أجل تغيير الواقع، وطرح مفاهيم تتعلق بالتحرر النفسي والاجتماعي كشرط ضروري للنهضة.
على مدار سنيّ حياته، كان الدكتور حجازي يتمتع بصفات تجمع بين العالم والمثقف الملتزم، الذي لم يكن يبحث عن الشهرة أو المجد الشخصي. كان همّه الأساس هو تقديم فائدة للمجتمع ومساعدته في الخروج من أزماته النفسية والاجتماعية. لم يكن مجرد باحثٍ أكاديميٍ منعزل، بل كان منخرطًا في قضايا المجتمع؛ كان شخصية نادرة تجمع بين الإبداع الفكري والشجاعة في طرح المواضيع الشائكة، التي كانت تحتاج إلى تحليل عميق وجرأة في الطرح.
لم يكن حجازي يتجنب مواجهة الحقائق المؤلمة، بل كان يعتبر أن مواجهة الذات هي الخطوة الأولى نحو التغيير. هذا العالم الكبير أفنى حياته في خدمة الإنسان والبحث عن سبل لإخراجه من ظلمات التخلف والاضطهاد. لقد كان مصطفى حجازي مدرسة في التفكير النقدي والتحليلي، وسيظل إرثه الفكري والنفسي حيًا في قلوب كل من قرأ له أو تتلمذ على يديه.
رحيل عالم النفس اللبناني الدكتور مصطفى حجازي يُعدُ خسارة فادحة ليس فقط للبنان بل للعالم العربي بأسره فلا شيء محزناً كفقدان العقول التي تُشارك في صنع التغيير، وعزاؤنا في رحيله أنّ أفكاره ستعيش وتزهر مع الأجيال الجديدة.
رحم الله الدكتور مصطفى حجازي، وألهمنا جميعًا الاستمرار في حمل رسالته والعمل على تحقيق الأهداف التي آمن بها، من أجل إنسان أكثر حرية وكرامة.