نجح الجانبان الأميركي والإيراني في لجم مشهد التوتر الإقليمي في المنطقة، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى أن الولايات المتحدة سمحت في مرحلة سابقة في ضبط إيقاع الرد الإيراني (ليل 13 – 14 نيسان/أبريل 2024)، رداً على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق واستهداف قيادي كبير في “قوة القدس” فيها (1 نيسان/أبريل)، لكن إيران تصرفت بطريقة مختلفة رداً على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في قلب طهران ومن بعده إغتيال السيد حسن نصرالله، في قلب الضاحية الجنوبية، وذلك عبر إطلاق حوالي 250 صاروخاً بالستياً، أصاب العديد منها قواعد عسكرية إسرائيلية في العمق الإسرائيلي، وترافق ذلك مع تهديد إيراني أعقب إطلاق الصواريخ، بأن أي رد إسرائيلي سيُواجه برد أكثر تدميراً.
وبرغم مضي أكثر من ثلاثة أسابيع على الرد الإيراني، ثمة تقديرات بأن الرد الإسرائيلي حتمي ولكن واشنطن تريده أن يكون مقيداً إلى حد عدم جعل التدحرج الميداني بين تل أبيب وطهران كفيلاً بإشعال نار حرب إقليمية قبيل موعد الإنتخابات الأميركية، ويُمكن القول إن التسريب الأميركي المتعمد لوثائق إسرائيلية تتعلق بالرد الإسرائيلي هو خطوة في هذا الإتجاه.
وبعد أكثر من 11 شهراً من تفعيل “جبهة الإسناد” (منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023)، أي غداة “طوفان الأقصى”، وما تخلل هذه الحقبة من التزام كبير بقواعد الاشتباك التي كانت ترتسم ميدانياً، قرّر العدو الإسرائيلي كسر تلك القواعد تدريجياً؛ بداية من عند التفجير المتزامن لأجهزة (البيجر) في 17 أيلول/تشرين الأول ثم تفجير الأجهزة اللاسلكية (18 أيلول/سبتمبر)، ليُحدث ذلك حالة إرباك كبيرة في صفوف المقاومين ويُشكّل صدمة كبيرة لقيادة المقاومة، التي لطالما كانت تتغنى بأن منظومة اتصالاتها من أبرز عناصر حمايتها، لما تؤمنه من تواصل آمن وفاعل بين تشكيلاتها. استدعى ذلك تنفيذ إجراءات سريعة، للتخفيف من وطأة تلك التفجيرات، فأطل السيد حسن نصرالله (19 أيلول/سبتمبر) لطمأنة بيئة المقاومة، بأن تلك التفجيرات وجّهت ضربة كبيرة وقاسية ومؤلمة لكنها لم ولن تؤثر على عمل المقاومة التي قامت بما يلزم لتفعيل شبكات الاتصالات البديلة، وأعلن بأن الرد قادم على تلك العملية الإجرامية التي لن تنجح في الفصل بين جبهتي لبنان وغزة.
في اليوم التالي، نجحت إسرائيل في استهداف القيادي الكبير في المقاومة إبراهيم عقيل (الحاج عبد القادر) ومعه قيادة “فرقة الرضوان”، في قلب الضاحية الجنوبية، في تطور عسكري وأمني واستخباراتي غير مسبوق منذ بدء حرب “الإسناد”.
لم تنفع كل محاولات إجبار العدو على العودة إلى قواعد الاشتباك، التي حكمت جبهة الجنوب لفترة طويلة بعد معركة “طوفان الأقصى”، فقام منذ تاريخ 23 أيلول/سبتمبر 2024 بتوسيع استهدافاته لجميع المناطق والقرى في الجنوب والبقاع والضاحية (أيضاً قطع معبر المصنع على الحدود اللبنانية السورية)، في عملية مكثفة أوقعت مئات الشهداء وآلاف الجرحى وأدت إلى تهجير مئات آلاف اللبنانيين من منازلهم في غضون أقل من 24 ساعة.
وبينما كانت الجهود السياسية تتمحور حول محاولة فرض هدنة لمدة 21 يوماً، بموجب مبادرة أميركية فرنسية مدعومة بتأييد دولي وعربي، وصل نتنياهو إلى نيويورك وبدل أن يعلن موافقته من هناك على صيغة الهدنة، وقّع قرار إغتيال السيد نصرالله من مقر البعثة الإسرائيلية في الأمم المتحدة ونُفِذَ في اليوم نفسه (27 أيلول/سبتمبر). ولم يكد يمضي أسبوع على استشهاد نصرالله، حتى تمكن العدو من تدمير مقر كان يقيم فيه رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين في عمق الضاحية الجنوبية، وبرفقته العديد من مساعديه التنفيذيين (نعاه الحزب رسمياً مساء أمس الأربعاء).
أحدث الإستهدافان ومعهما ضرب الضاحية الجنوبية بشكل يومي، زلزالاً أدى إلى كسر كل القواعد، ووضع لبنان في مهب وضع خطير ومعقد، حيث يحاول العدو بدعم أميركي فرض شروطه في أي عملية تفاوضية، بحيث أن الضربات المتواصلة للمقاومة والتدمير الهائل للمدن والقرى، وضغط النزوح، كل ذلك قادر ـ من وجهة نظر تل أبيب وواشنطن ـ على إنهاك المقاومة وإنهائها.
بعد قيام العدو بتحقيق إنجازات كبيرة، طالت قادة المقاومة وعلى رأسهم السيد حسن نصرالله والرجل الثاني في حزب الله السيد هاشم صفي الدين، وتنفيذ عملية تدميرية واسعة رافقها تهجير مليوني، كان لا بد من تتويج تلك الإنجازات بغزو بري، هدفه إبعاد شبح “قوة الرضوان” وغيرها من الوحدات العسكرية النخبوية في المقاومة، وبالتالي تدمير البنية التحتية للمقاومة، التي عملت بعد عدوان 2006 على تعزيز قدراتها على طول الحدود مع فلسطين المحتلة، وقامت بتطوير قدراتها الصاروخية والعسكرية، تحضيراً لأي حرب مقبلة.
لماذا الغزو البري؟
تعتبر العملية البرية بالنسبة للعدو الإسرائيلي فرصة ذهبية، انتظرها طويلاً لتحقيق أهدافه الاستراتيجية وأولها إبعاد المقاومة عن حدوده الشمالية، وتأمين الاستقرار الدائم لسكان الشمال، وصولاً إلى ارغام لبنان على القبول بشروطه، ما يؤدي إلى تعميق الانقسام السياسي في الساحة اللبنانية، بالإضافة إلى إرهاق بيئة المقاومة ولا سيما بملف النزوح الذي يثير الكثير من المخاوف على السلم الأهلي.
وإلى الأهداف العسكرية والأمنية، هناك أهداف سياسية تعتبر في غاية الأهمية، ومنها حماية مستقبل نتنياهو السياسي، وفرض التطبيع تدريجياً، بعد السعي للتأثير في وصول شخصيات إلى مواقع السلطة في لبنان (وأهمها رئاسة الجمهورية)، بما تشكل من حاضنة خفية لمشروع إسرائيل الهادف إلى تغيير الواقع الإستراتيجي في الشرق الأوسط، على حد تعبير نتنياهو.
لقد قامت إسرائيل بإعلان العملية البرية في وقت مبكر من حربها على لبنان، وعلى مدى أكثر من ثلاثة أسابيع، قام الجيش الإسرائيلي بعمليات استطلاعية بالنار للعديد من المناطق الحدودية، وتحديداً في كفركلا وعديسة والطيبة ورب ثلاثين وبليدا وميس الجبل ومحيبيب ومارون الرأس ويارون واللبونة (الناقورة) والضهيرة وعيتا الشعب، لجمع معلومات عن المنظومات الدفاعية للمقاومة، عتاداً وبشراً وأنفاقاً، وكلها فاجأت العدو ولو أنها لم تمنعه من تحقيق توغلات محدودة في تلك المناطق، بعد أن كبّدته خسائر كبيرة في صفوف ضباطه وجنوده، كما استمرت في إطلاق الصواريخ بشكل تصاعدي، نوعاً وعمقاً وعدداً، لتبلغ منطقة الوسط (غوش دان) بالإضافة إلى استهداف الحشود العسكرية في المناطق القريبة من الحدود.
لقد بدأنا الأسبوع الرابع من العملية البرية، وهي عملية يؤكد الجيش الإسرائيلي أن الهدف منها هو تحقيق إنجازات استراتيجية، وأهمها إبعاد الخطر الذي يهدد المستوطنات القريبة من الحدود والقضاء على قدرات المقاومة، ولا سيما “قوة الرضوان” التي ترمز إلى “طوفان الأقصى” من المقلب اللبناني (كسر الحدود)؛ زدْ على ذلك أهمية الدور الإستراتيجي الذي يلعبه سلاح المُسيّرات في العمق الإسرائيلي من بنيامينا (القاعدة العسكرية التي سقط فيها أكثر من 100 قتيل وجريح في ضربة واحدة) إلى قيسارية، ضاحية تل أبيب حيث تمكنت المقاومة من جعل إحدى مسيراتها تبلغ نافذة غرفة نوم نتنياهو. لذلك، فإن استمرار إطلاق الصواريخ والمُسيّرات والتصدي للعملية البرية، هو المثلث الذهبي الكفيل بمنع العدو من تحقيق أهداف حربه، فلا المستوطنون في الشمال سيعودون بل تزداد مساحة التهجير وكلما توغل اللإسرائيلي في العمق اللبناني سيغرق في الوحل اللبناني أكثر فأكثر.
هناك عوامل أخرى من شأنها أن تساعد في تعديل الصورة ولا سيما وقائع الميدان في غزة والضفة الغربية وازدياد احتمالات المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، الأمر الذي يجعل هذه الحرب مصيرية، وما يُدلّل على ذلك، اقتراح بنيامين نتنياهو تغيير إسم الحرب من “السيوف الحديدية” إلى “حرب القيامة”.
هل يكون اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار مقدمة لإنهاء الحرب في غزة، وعقد صفقة تبادل للأسرى؟ وماذا عن إعلان المقاومة في يوم استشهاد السنوار، عن الانتقال إلى مرحلة تصاعدية في مواجهة العدو الإسرائيلي؟
الأجوبة على هذه الأسئلة لا تمنع من القول إننا من الآن وحتى موعد الإنتخابات الرئاسية الأميركية سنكون أمام واقع عسكري وميداني صعب لا بل هو الأصعب والأقسى منذ السادس عشر من أيلول/سبتمبر الماضي. وكما قال مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله محمد عفيف، أمس الأول (الثلاثاء) مخاطباً الناس: “مقاومتكم بخير، منظومة الأمرة والسيطرة تعمل على أكفأ وجه، السيطرة بالأسلحة والمديات والأنواع والتنسيق المتزامن للعمليات، خطوط الدعم العسكري واللوجستي عادت إلى ما كانت عليه، ويوجد من المقاتلين الاكفاء أعداد تفوق حاجة الجبهة وطبيعة المناورة القتالية في الميدان”.
(*) راجع الجزء الأول: من جبهة غزة إلى إسناد لبنان.. ماذا بعد؟ (1)