وما جعل الكثيرين يميلون إلى عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على توسيع حربه في غزة، مبادرة المقاومة اللبنانية إلى فتح جبهة إسناد في الجنوب، تستنزف العدو، وتخفف الثقل العدواني عن غزة، وتسرّع صفقة التبادل، المسبوقة بوقف شامل لإطلاق النار، ما يضمن الحفاظ على قوة حركة حماس، ويُبقي على قوة المقاومة في جهوزيتها الكاملة، بل مراكمة وتطوير إمكانياتها العسكرية والصاروخية، وإبقاء خطوط الإمداد بطرق عديدة في لبنان وقطاع غزة، وتحييد أطراف أخرى في محور المقاومة، وتحديداً إيران، بانتظار “الحرب الكبرى”، وهي مسألة وقت ليس أكثر، بالرغم من نسخ حركة حماس للنموذج الذي أعدته المقاومة منذ أكثر من عقد، لمباغتة العدو واقتحام الجليل الأعلى، إيذاناً ببدء الحرب الكبرى، وإخضاع العدو للقبول بدولة فلسطينية عاصمتها القدس، وترك التداعيات لهكذا عملية للميدان، ومراقبة الموقف الإميركي، كون واشنطن لن تتخلى عن الدعم المطلق لإسرائيل.
إسرائيل وصدمة “طوفان”!
نتيجة التداعيات الكارثية لعملية “طوفان الأقصى” على العمق الأمني لإسرائيل، وانهيار منظومة الردع، وحجم الخسائر السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، التي أصابت الكيان، والرعب الذي استوطن المجتمع الإسرائيلي، حاولت السلطة السياسية في إسرائيل القيام بخطوات تخفف من وطأة ما حصل، واستقطاب جميع القوى المتطرفة لوضع خطط عملية، تشكل جزءاً من الرد الموجع على عملية حماس، وبالتالي وأد أي محاولة للتأسيس لمرحلة جديدة من عمل المقاومة، تُنهي الإخفاقات التي منيت بها، أو الضربات التي استهدفتها على مر السنين، والتي كان للحصار الدور الفاعل في نجاحها، لذلك كان القرار حاسماً بتوجيه ضربة قاسية لحركة حماس، تخفّض وهج الانتصار الذي مثله “الطوفان”، هذا من جهة، ومن جهة ثانية التمكن من استعادة الأسرى، والتخلص من الضغوطات الداخلية، التي تفرضها عوائل الأسرى، لما يشكله هذا الأمر من نقطة ضعف في الكيان الإسرائيلي، ما زال يلاحقه من أول لحظة إنشاء الكيان الغاصب، وكانت السلطة السياسية في إسرائيل تدرك هذا الأمر، وتعمل على تقوية أجهزتها الاستخبارية لمنع أي اختراق يمكن أن يؤدي إلى أسر الجنود أو المدنيين داخل إسرائيل وخارجها، كما أن تلك الأجهزة استعانت ولا زالت بالكثير من استخبارات الدول الغربية وغيرها، لمنع حدوث عمليات تهدف إلى الضغط على إسرائيل، في جميع مراحل الصراع معها، فعمل مجلس وزراء الحرب المصغر (الكابينيت)، على وضع هدف استراتيجي، يتمثل في القضاء على أهداف عملية “طوفان الأقصى”، التي يمكن أن تفتح شهية الفصائل الفلسطينية الأخرى، وقيامها بتهديد مناطق إسرائيلية انطلاقاً من الضفة الغربية، لفرض واقع جديد على إسرائيل، يقود إلى معادلات أخرى، تمثل قوة دفع للقضية الفلسطينية، في ظل التخاذل العربي، والخداع الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، في مسألة حل الدولتين، أو تقديم وصفات جديدة، لن تختلف عن كل الاتفاقات التي حصلت مع الفلسطينيين، والتي لم تؤدِ إلا إلى المزيد من الاستيطان والحصار والقتل والتدمير، وانتهاك كل المقدسات في فلسطين المحتلة، للوصول إلى تهويد القدس، والسيطرة على كل الأراضي الفلسطينية، ومنع ولادة أي سلطة فلسطينية مستقلة، يمكن أن تحقق مطالب الشعب الفلسطيني العادلة.
وبالفعل بدأ الجيش الإسرائيلي في قيادة عملية عسكرية ممنهجة، تهدف إلى تدمير قطاع غزة، فقام بعمليات عسكرية أوقعت نحو 12 ألف شهيد فلسطيني، وأكثر من 96 ألف مصاب، فضلاًعن أكثر من عشرة آلاف مفقود، وحصول مجاعة في القطاع، نتيجة نقص الغذاء، وتعرض القطاع الصحي للانهيار نتيجة تدمير المستشفيات والمراكز الطبية وفقدان اللوازم الطبية والأدوية، كل ذلك وسط احتلال أجزاء واسعة من القطاع للقضاء على حركة حماس، وتدمير بنيتها التحتية وقدراتها العسكرية، واغتيال قادتها، لإخضاعها لشروط الاحتلال في أي صفقة تبادل ووقف لإطلاق النار، مع ترك الهامش للاحتلال بمتابعة اعتداءاته على الشعب الفلسطيني، ومتابعة مسلسل الاعتقالات لشل حركات المقاومة في قطاع غزة، وتوجيه رسالة قاسية إلى الضفة الغربية، لمنع الدخول في مواجهة مع العدو، لأن ذلك سيؤدي إلى تدمير الضفة، والتي سيكون مصيرها كمصير قطاع غزة.
أهداف حرب غزة
في هذه الأثناء، وخلال مراحل التدمير والمجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، كانت جبهة الإسناد اللبنانية تعمل بوتيرة عالية، ضمن قواعد الاشتباك التي ارتسمت ميدانياً، وحصر الاستهدفات المتبادلة في الإطار العسكري، وتجنب المدنيين في العمليات العسكرية، وقد تبين أن جبهة الإسناد ماضية في استنزاف العدو، على طول الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وضرب مراكزه العسكرية والتجسسية، لتحقيق الهدف الرئيسي للجبهة، وهو تخفيف الضغط عن القطاع، وإشغال قوات عسكرية للعدو تحتاجها جبهته الشمالية، ومنع الاستفراد بحركة حماس، لأن ذلك حتماً سيقود إلى تصفية كل حركات المقاومة، وأهمها المقاومة في لبنان، لما تشكله من تهديد مباشر للعدو، الذي اختبر تلك المقاومة في العديد من المراحل التاريخية، وخرج مهزوماً من لبنان بعد إنجاز التحرير التاريخي في العام 2000.
لقد حقّق الجيش الإسرائيلي العديد من أهدافه العسكرية في القطاع، وتمكن من احتلال أجزاء واسعة منه، وإعادة تموضع قواته والانتقال بالعمليات العسكرية من منطقة إلى أخرى، فضلاً عن تدمير البنية التحتية للكثير من قواعد حركة حماس، وقد تمثل ذلك في تراجع وتيرة العمليات التي تستهدف قواته، وإن لم تنتهِ بشكل كامل، كما أن العدو لم يتمكن من الوصول إلى قائد حركة حماس يحيى السنوار أو اغتياله، ولم يستعد الأسرى لدى الحركة، ما يعني أن معظم أهداف العدو لم تتحقق، وكل ما تحقق هو تدمير قطاع غزة، وقتل وإصابة آلاف المدنيين، ونزوح السكان من مناطقهم إلى مناطق أخرى في القطاع، تمهيداً للتهجير القسري خارجه، وهو الهدف الأساسي من الاحتلال، والسيطرة على ميناء غزة الاستراتيجي، بما يُحقّق الأهداف الاقتصادية التي هي جزء من الحرب على القطاع، متى ما تمكنت من إنجازالأهداف المباشرة.
وخلال أشهر عدة، وخصوصاً عند قيام العدو الإسرائيلي بمرحلة تدمير البنية التحتية لحركة حماس، للقضاء على المقاومة بشكل كامل، سعت الولايات المتحدة الأميركية إلى الضغط على إيران محذرة من أن أي توسع للأعمال العسكرية في الجبهة اللبنانية سيجر المنطقة إلى حرب شاملة، تضطر واشنطن للدخول فيها كطرف مساند لإسرائيل، التي من وجهة نظرها، لها الحق في الدفاع عن نفسها، وسط تهديد محور المقاومة في فتح أكثر من جبهة ضدها.
وبالفعل ظلت المقاومة على وتيرتها في مساندة جبهة غزة، واستنزاف العدو قدر الإمكان، وعدم التورط في توسيع العمليات، التي يمكن أن تنزلق معها الأطراف إلى حرب شاملة مدمرة، كما أن العدو الإسرائيلي حافظ على قواعد الاشتباك مع المقاومة إلى حد كبير، كونه يخوض حرباً مصيرية في قطاع غزة.
إلى الشمال در
بعد تمكن العدو الإسرائيلي من تحقيق إنجازات عسكرية في قطاع غزة، عمد إلى نقل جزء كبير من قواته في قطاع غزة إلى الشمال، لتعزيز جبهة مواجهة المقاومة في لبنان، فبدأ العدو تصعيد الاعتداءات تدريجياً، لضرب قواعد الاشتباك، وفرض قواعد جديدة على المقاومة، واستغلال عدم رغبتها في توسيع الحرب، وعدم تقديم الذرائع لقيام العدو بحرب واسعة، تكون شبيهة بالحرب على قطاع غزة، والتي ستكون نتائجها تدميرية على لبنان.
وبالرغم من التصعيد الإسرائيلي، واستهداف مناطق سكنية في العمليات العسكرية، والتي لم تراعِ وجود المدنيين في تلك الأماكن، ظلت المقاومة محافظة على قواعد الاشتباك، مع زيادة وتيرة الضغط على العدو، واستهداف مراكزه العسكرية على الحدود وفي عمق الأراضي الفلسطينية، وهي أهداف منتقاة بدقة، لتجنب المدنيين، بهدف الإبقاء على معادلة الردع، وتوجيه رسائل للعدو عبر استخدام بعض الصواريخ المتطورة، بأن المقاومة قادرة أن توقع المزيد من الخسائر، إذا تجرأ على مواصلة التصعيد في استهدافاته، لكن ما حصل، أن العدو بقي مصراً على تغيير قواعد الاشتباك، تمهيداً لنسفها، في ظل الإنجازات التي كان يُحقّقها، ولا سيما من خلال عمليات الاغتيال لكوادر حزب الله في العديد من المناطق الجنوبية، نتيجة التطور التكنولوجي والاستخباري، وصولاً إلى عملية الاغتيال التي طالت قيادياً في حماس (صالح العاروري) في الضاحية الجنوبية مطلع هذه السنة، وهو المعقل الرئيسي للمقاومة، وهذا الاغتيال كان بمثابة التأكيد على مضي العدو في التصعيد المتدرج، تمهيداً لاقتراب لحظة تصفية الحساب مع المقاومة في لبنان، والقضاء على التهديد المباشر لإسرائيل، وتدمير البنية التحتية للمقاومة، وإضعاف قدراتها العسكرية والصاروخية، إلى أن تم اغتيال القيادي الكبير في المقاومة فؤاد شكر في نهاية شهر تموز/يوليو 2024، بالإضافة إلى عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية في العاصمة طهران في اليوم التالي، وهذان الإغتيالان كانا بمثابة إعلان حرب على محور المقاومة، قبل أن يخطو العدو خطوات عسكرية وأمنية غير تقليدية، عبر القيام بالتفجيرات المتزامنة لأجهزة اتصال المقاومة (البيجر) والأجهزة اللاسلكية، التي أحدثت صدمة على صعيد الاختراقات الأمنية للمقاومة، وهو عمل غير مسبوق لضرب التواصل بين تشكيلات المقاومة، التي لطالما كانت عنصراً حاسماً في معركتها مع العدو، وقبل رد المقاومة على هذا التصعيد الذي ينسف قواعد الاشتباك، قام العدو باغتيال عدد من قادة المقاومة، على رأسهم ابراهيم عقيل وأحمد وهبي في قلب الضاحية الجنوبية، ما يؤكد امتلاك العدو بنك أهداف كبير لقادة المقاومة، بهدف إحداث فراغ في مستويات القيادة، ونتيجة رد المقاومة بإطلاق صورايخ على مدينة تل أبيب ومدن أخرى، جاء التصعيد المعد من قبل العدو، بالانتقال من الحرب المحدودة إلى الحرب المفتوحة، فقام منذ تاريخ 23 أيلول/سبتمبر 2024 بغارات متواصلة على مناطق الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية ومناطق لبنانية أخرى، نتج عنها سقوط آلاف الشهداء والجرحى، ونزوح عشرات لا بل مئات آلاف المدنيين، في إطار سعي إسرائيل إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية من حربها ضد لبنان.
(*) في الجزء الثاني والأخير: اغتيال نصرالله، الغزو البري وأهدافه الاستراتيجية