في المضمون، يُصبح التوصيف الراهن لغزة، وفقاً للرؤية النتنياهوية، عبارة عن بؤرة استيطانية لإيران تُعطّل التجارة الدولية، ما يتطلّب ضرورة إعادتها إلى سابق عهدها التاريخي بوصفها مركزاً تجارياً يربط بين الشرق والغرب!
أوردت الخطة ثلاث مراحل من العمل: الأولى؛ مرحلة توزيع المساعدات الإنسانية، تبدأ بعد وقف الحرب على غزة بعام واحد، على أن تُنشئ إسرائيل خلال هذه السنة مناطق آمنة خالية من حركة حماس، يُديرها غزاويون تحت إشراف تحالف عربي. الثانية؛ مرحلة تستغرق من ٥ إلى 10 سنوات، يُنشىء خلالها التحالف العربي المنصوص عليه في المرحلة الأولى هيئةً لإعادة إعمار غزة. الثالثة؛ مرحلة الحكم الذاتي للفلسطينيين في غزة لكن تناط فيها كلّ المسؤوليات الأمنية لإسرائيل. وفي خلاصة هذه المراحل الثلاث، يتم إنشاء منطقة تجارة حرة على كامل قطاع غزة، بالإضافة إلى مدينة سديروت في أراضي العام 1948، كما في جزء من مدينة العريش المصرية، ويُصار إلى بناء حقول للطاقة الشمسية ومحطات تحلية مياه ومدن صناعية لإنشاء صناعات ـ وهنا المسألة الأهم ـ ولا سيما صناعة السيارات الكهربائية. وقال دونالد ترامب، قبيل شهر من موعد الإنتخابات الرئاسية الأميركية، إن غزة التي زارها سابقاً “قد تكون أفضل من موناكو بعد إعادة إعمارها”.
الصين وأميركا من يُنافس من؟
تُنافس الصين أميركا في صناعات كثيرة، لكنها تُهدّدها مباشرةً عندما يتعلّق الأمر بالسيارات الكهربائية. وقد أطلق من يُسمى “ملك السيارات الكهربائية” في العالم، أيلون ماسك، مؤخراً نداءً إلى الحكومة الأميركية يطالبها فيه بفرض تعريفات جمركية ضد السيارات الكهربائية الصينية، معتبراً أن ترك الأبواب مفتوحة أمامها سيخوّلها القضاء على كل منافسيها.
الصراع الدائر في الشرق الأوسط يتخذ بعداً عالمياً بامتياز، ويُشكّل محطة من محطات التنافس الأميركي الصيني، وتبدو فيه ساحة هذا الشرق مسرحاً لاختبار آليات وتكتيكات حربية جديدة، بالاستناد إلى تكنولوجيات حديثة مبهمة وغامضة عند من لا يمتلكها. والملاحظ أن هذه الحرب الأميركية العنوان يُراد لها أن تنقل المشهد إلى واقع مختلفٍ تماماً عما كان عليه في السنوات السابقة، وكأنّ كل ما كان قائماً من قبل، وقائع وخطابات وشعارات، كان مُباحاً أميركياً بالدرجة الأولى وإسرائيلياً بالدرجة الثانية لأجل غاية خلط أوراق اللعبة في التوقيت المناسب، وتغيير حجارة الشطرنج بأسرع ما يمكن.
روسيا وتركيا.. والمقايضات
شكّل “طوفان الأقصى” ذريعة مباشرةً لتدمير غزة وتهجير أهلها وتجريف الضفة الغربية واعتقال آلاف الفلسطينيين. وقد ربطت إسرائيل منذ البداية مستقبل قطاع غزة بمستقبل الشرق الأوسط كله، لا بمستقبل القضية الفلسطينية.
بعد ذلك، شكّلت جبهة الإسناد اللبنانية لغزة، جبهة إسناد إسرائيلية للمجموعات المسلحة في سوريا، إذ عدا عن سحب معظم وحدات حزب الله إلى المعركة في جنوب لبنان وتمركز الثقل العسكري هناك، فإن الاغتيالات التي طالت الإيرانيين حملت الجانب الإيراني على استدعاء بعض مستشاريه إلى بلادهم خوفاً من تدحرج الاغتيالات. تُركت حلب للجيش السوري، وهذا الأخير، كما بدا واضحا، تم اختراقه إسرائيلياً بإحكام على مدى السنوات الماضية، ناهيك بواقعه المعيشي الصعب (راتب الجندي السوري لا يتجاوز 17 دولاراً شهرياً قبل زيادة الرواتب الأخيرة والمتأخرة).
وفي مقال له بعنوان “لغز معلومات سقوط حلب”، عدّد الكاتب والباحث الإيراني أمين برتو أسباباً عدة يعتقد أنها كانت وراء هذا السقوط السريع، ويُشير إلى أنه إلى جانب الأمر الإيراني بانسحاب “الفاطميين” و”الزينبيين” منذ مدة من حلب لترك المهمة للجيش السوري لفرض سيطرته على المدينة والمحافظة، فإن روسيا أيضاً بعد العام 2022 سحبت بعض أصولها العسكرية لحاجتها إليها في حربها مع أوكرانيا. بالإضافة إلى التأثير المباشر لانسحاب قوات “فاغنر” على أداء الجيش السوري. وفي الجهة المقابلة، يُورد الكاتب أن تدخلاً مباشراً حصل من أوكرانيا بدعم المسلحين بالخبرات والطائرات المُسيّرة، بهدف ملاحقة قوات “فاغنر”. ولم يجرِ ذلك في سوريا فقط، بل حتى في السودان ومالي. وقد صرح المتحدث باسم الخارجية الروسية مؤخراً أنه ثمة أصابع أوكرانية فيما جرى في حلب، برغم صدور نفي أوكراني قاطع لهذا الاتهام الروسي.
ما يجري في المنطقة ولا سيما في سوريا يستدعي من أهل المقاومة وقادتها في لبنان تغييراً في خطابهم السياسي، إذ لم يعد من المقبول تصوير الصمود الأسطوري في لبنان بكونه نصراً يفوق نصر تموز/يوليو 2006، في حين أن ملامح الشرق الأوسط الجديد الأميركي، والمختلف كلياً، بدأت تتبدى، وفيه نجد فصلاً بامتياز للساحات
غير أن النقطة الأهم التي أوردها الكاتب نفسه هي ما يتعلق بتواطؤ روسي تركي مباشر في حلب مقابل مكاسب روسية معينة في أوكرانيا. ويُذكّر هذا الرأي ببعض التحليلات السياسية التي أعقبت وعد ترامب بإنهاء الحروب، والتي رأت أنه ثمة مقايضة روسية أميركية، لجني مكاسب روسية في أوكرانيا، مقابل غض نظر روسي عن سوريا.
المحور الإيراني.. الأكثر تضرراً
واقع الأمر كما يبدو الآن، أن تركيا التي تريد رفع الروح المعنوية “الإخوانية” من جديد في الشرق الأوسط، والتي تسعى لتقويض الوجود الكردي، بالتواطؤ الضمني مع روسيا التي قيل أيضاً إنها موعودة بمكتسبات اقتصادية تتعلق بعملية إعادة الإعمار في سوريا، حشدت عديداً قُدّر بنحو مائتي ألف عنصر، متعدد الأعراق (معظمهم سوريون، وإلى جانبهم إيغور صينيون، أوزبكون، تركمان، شيشانيون، كازاخستانيون إلخ..)، واستغلت لحظة اختلال النظام الإقليمي ولحظة تقاسم أدوار مفصلية، وشنّت هجومها الذي نجح بفعل الكثرة العددية والمساعدة الاستخباراتية وترسانة الأسلحة والذخائر والخدمات والأموال، كما وبفعل فقدان إرادة القتال عند الجيش السوري المنهك عديده في الأساس معيشياً، وهي حالة الإنهاك نفسها التي تنسحب على الناس في حلب وغيرها من المدن والحواضر السورية.
وما يبدو جلياً في ما يجري من أحداث على الأرض السورية، أنه ثمة إيعاز تركي أميركي بهندسة السيطرة العسكرية بأقل كلفة مدنية، حتى لا يُصوّر أمام الرأي العام أن الجماعات التكفيرية هي البديل هذه المرة. ويبدو كل هذا المشهد وكأنه يُشكّل إيذاناً بتدشين مرحلة تركية أميركية تقوم على أنقاض المرحلة الإيرانية الروسية. وهذا ما ينطوي عليه تصريح أردوغان الأخير بأن الهدف بعد حلب وحماه حمص ودمشق، “ونتمنى تواصُل المسيرة بلا حوادث”.
سرعة سقوط حلب، ثم باقي المدن السورية حتى دمشق، يطرح أسئلة وسيناريوهات عديدة، لعل أكثرها ترجيحاً أن سيناريو التقسيم ليس موجوداً على جدول أعمال الأتراك والأميريكيين حتى الآن، وهذا يعني أن السيناريوهات الأخرى ربما تكون أكثر قتامةً.. وحتماً سيكون المحور الإيراني هو المتضرر الأول منها.
الخروج من الإنكار
في الخُلاصة، يُمكن قراءة حدث وقف إطلاق النار أو ما يصطلح البعض على تسميته بهدنة الستين يوماً بين لبنان وإسرائيل من زاوية أن ما يحدث على الأرض السورية في هذه الفترة سيُشكل إضعافاً متزايداً لحزب الله، يسمح فى المقابل بتحقيق مكاسب سياسية اسرائيلية جديدة في لبنان، إذا ما أخذنا في الحسبان أن جيش اسرائيل منهك، وبالتالي فإن تولي عملية إنهاك حزب الله وإجباره على تقديم تنازلات لن يكون في إطار حرب مفتوحة جديدة، بل في إطار ضغط تقوم به أدواتها في المنطقة، وضغط من قبلها بتحقيق بند استباحة الأجواء اللبنانية متى تشاء، بعد نجاحها في سوريا، إن نجحت، في تجفيف معظم منابع تذخير الحزب، فضلاً عن احتمال إقدامها على استهداف تعزيزات حزب الله إذا قرّر التموضع بشكل دفاعي بالقرب من الحدود اللبنانية السورية ولا سيما في منطقة القصير.
ما يجري في المنطقة ولا سيما في سوريا يستدعي نظرة مغايرة تماماً عن ذي قبل، ويستدعي من أهل المقاومة وقادتها في لبنان تغييراً في خطابهم السياسي، إذ لم يعد من المقبول تصوير الصمود الأسطوري في لبنان على كونه نصراً يفوق نصر تموز/يوليو 2006، في حين أن ملامح الشرق الأوسط الجديد الأميركي، والمختلف كلياً، بدأت تتبدى، وفيه نجد فصلاً بامتياز للساحات، بما فيها الساحة العراقية التي تشي تصريحات السيد مقتدى الصدر مؤخراً، وتصريحات السيد السيستاني قبل حوالى الشهر أيضاً بوجود رغبة براغماتية بهذا الفصل.
ثمة حاجة ضرورية للخروج من حالة الإنكار، وتوصيف الواقع كما هو للبناء على أساسه وتحمل المسؤولية تجاهه، إذ أننا في المحصلة، أمام مرحلة لبنانية مغايرة، وشرق أوسط جديد، بدأت معالمه تتوضح شيئاً فشيئاً..