منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، شهدت هذه العلاقة تحوّلا جذريا تمثّل بالتدخّل العسكري المباشر في العام ١٩٧٦ بناء على طلب “الجبهة اللبنانية” آنذاك والتي كانت تضمّ غالبية الأحزاب المسيحية اليمينية، وذلك لمساعدتها في حربها ضد الأحزاب الإسلامية واليسارية والمجموعات الفلسطينية. لاحقاً، انقلب النظام السوري (السابق) على “حلفائه” إذا صحّ التعبير، ومنذ ذلك الحين بدأ باعتماد سياسة “فرّق تسد” بين المجموعات والأحزاب السياسية اللبنانية، وذلك عبر تقوية ودعم وتمويل أحزاب ومجموعات ممن كانوا خصوم الأمس واستخدامهم ضد بعضهم البعض من جهة لاستمرار إحكام القبضة السورية على الداخل اللبناني، وضد خصوم سوريا من جهة أخرى.
وتزامن صعود هذا النفوذ السوري في لبنان مع صعود النفوذ السعودي في المنطقة العربية، ليصبح لبنان في ثمانينيات القرن الماضي ساحة للنفوذين السعودي والسوري، والذي أدى في ما بعد إلى تكريس وتثبيت الوجود السوري من خلال “تلزيم” لبنان سياسياً لسوريا عبر تسوية سعودية-أميركية تُرجمت من خلال اتفاق الطائف وأسّست لاحقا لمعادلة “س-س” (السعودية- سوريا) في إدارة الحكم فيه. ففي ثمانينيات القرن الماضي، عملت المملكة العربية السعودية بمساعدة الرئيس الشهيد رفيق الحريري على إقناع الولايات المتحدة الأميركية بضرورة “احتواء” سوريا وإدخالها في أي تسوية في لبنان كشرط للاستقرار الداخلي. تزامن ذلك مع حوادث تعرض لها أميركيون في لبنان لعبت سوريا دوراً مباشراً في معالجتها، ما سرّع في القبول الأميركي والفرنسي لاحقا للدور السوري في لبنان.
الواقعية السياسية
ثمّة نظريّتان في العلاقات الدولية تناقشان السياسة التي يجب أن تتبّعها الدول الصغيرة التي تحيطها أخرى كبيرة ليس فقط بالمساحة الجغرافية بل أيضا بالدور والتأثير السياسي. تعتمد النظرية الأولى على مبدأ “الموازنة” (المصطلح باللغة الإنجليزية: balancing)، والذي يقول بضرورة إبرام الدول الصغيرة تحالفات مع دول كبرى أو فاعلة لحماية نفسها ومصالحها من التهديدات الداخلية والخارجية. أما النظرية الثانية، فتعتمد على مبدأ “التبعية” (المصطلح باللغة الإنجليزية: bandwagoning)، أي أن تكون الدولة الصغيرة تحت نفوذ وسيطرة دولة قوية لحماية نفسها ضد الانقسامات الداخلية. هاتان النظريتان، ينطلق أنصارهما من فكرة أن العالم تحكمه القوة، وبأن الدول الصغيرة لن تكون قادرة على حماية نفسها أو حكم نفسها بنفسها.
في لبنان، لا يمكن القول بأن الدولة اللبنانية بمؤسساتها الرسمية اعتمدت على إحدى هاتين النظريتين اللتين تنبثقان من المدرسة الواقعية في السياسة، بل الأصحّ أن المجموعات والأحزاب السياسية استخدمت هاتين النظريتين في السياسة اللبنانية في خدمة مصالحها ومشاريعها الخاصة على حساب الدولة التي تدمّرت بشكل تدريجيّ منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي حتى باتت السلطة مطلقة بيد الميليشيات اللبنانية المتقاتلة في ما بينها آنذاك، والتي شكّلت في ما بعد جزءاً من السلطة السياسية الجديدة التي كرّسها اتفاق الطائف. أما في العام ١٩٨٩، فيمكن القول إن لبنان الرسمي صادّق على نهج “التبعية”، أي وقوعه كدولة بشكل رسميّ تحت النفوذ السوري انطلاقاً من شعار “الأخوة” و”وحدة المسار والمصير” الذي ساد منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى العام ٢٠٠٥، وهو نتيجة التسوية الإقليمية بين المملكة العربية السعودية من جهة وبين الولايات المتحدة من جهة ثانية التي أنتجت اتفاق الطائف بتأييد فرنسيّ. وشكّل وجود الاحتلال الإسرائيلي في شمال فلسطين المحتلة على الحدود مع لبنان واحتلاله بيروت والجبل ثمّ جنوب لبنان لعقود حافزاً إضافياً لتسويق شرعية وأهمية الانصهار مع سوريا وليس التحالف، والتغاضي عن الخطايا التي ارتكبها النظام السوري في لبنان انطلاقا من أن سوريا هي المنفذ الوحيد للبنان إلى العالم العربي بحكم الجغرافيا وبأن هذا النوع من “الوصاية الأخوية” سيساعده ويحميه من الأخطار الخارجية لا سيّما من العدوّ الإسرائيلي.
لا يمكن تجاوز الدور الذي قامت به قطر في لبنان منذ زمن الخلافات العربية السورية في العام ٢٠١١ وما تلاها، والتي شهدت مقاطعة سياسية واقتصادية خليجية للبنان. سارت قيادة قطر عكس التيار الخليجي في لبنان، ولم تقطع العلاقة معه، بل على العكس، استمرّت بدعم المؤسسات الرسمية فيه وبخاصة الجيش اللبناني، الأمر الذي ساهم في منعها من الانهيار
هنا، أتقنت سوريا إحكام قبضتها على لبنان بكل تفاصيله مستغلة هذا الواقع بدورها، وهي التي لم يتصالح رموزها مع فكرة استقلال لبنان كدولة، بل لطالما اعتبر هؤلاء أن لبنان هو محافظة ملحقة لدولتهم. لعبت سوريا على تناقضات الحالة اللبنانية من منطلق “فرّق تسد”، فكانت طرفا في صراع وتقاتل اللبنانيين ضد بعضهم البعض، ثمّ طرفاً أساسياً مقرّراً أو حاكماً في المفاوضات الإقليمية والدولية لإنهاء الحرب الأهلية والتوصل إلى تسوية الطائف السياسية بما يحفظ مصالحها السياسية والاستراتيجية بالدرجة الأولى. هذه التسوية، كما تمّت الإشارة سابقا، أضافت شرعية دستورية للتدخل السوري في لبنان سياسياً وعسكرياً، وإن تمّ تحديد مهلة زمنية لهذا النفوذ (بند انسحاب القوات السورية)، طبعاً دون أن نغفل مرة أخرى، أن جانباً أساسياً من المعضلة اللبنانية يكمن في الطبقة السياسية نفسها، التي كانت وما تزال تتسابق على تقديم الولاءات والاستزلام للدول الخارجية خدمة لمصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة.
وفي زمن السلم المفترض بعد توقيع اتفاق الطائف، ساهمت الوصاية السورية بمنع بناء الدولة بشكلها الفعليّ، بالإضافة طبعاً إلى نظام المحاصصة الذي كرّسه النظام السياسي اللبناني، وارتكبت الكثير من التجاوزات الأمنية تحت عنوان “مقتضيات المرحلة” بحرية مطلقة دون أي تدخّل أو مراجعة من رعاة التسوية.
وفي العام ٢٠٠٥، أخرجت التسوية الإقليمية الوصاية السورية من لبنان، بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق الشهيد رفيق الحريري. وبرغم ذلك، ظلّ النفوذ النظام السوري السابق في لبنان على المستوى السياسيّ، لا بل واستعاد بعضاً من هيمنته في لبنان قبل سقوطه بمدة حين تمّ الحديث عن عودة العلاقات السورية السعودية، وعن قرب إبرام اتفاق جديد سعودي-سوري بموافقة أميركية على إعادة الدور السوري إلى لبنان، وبالتالي إعادة إحياء معادلة “س-س” (السعودية-سوريا).
اليوم، أعاد سقوط النظام السوري وانتخاب أحمد الشرع رئيساً للجمهورية السورية، طرح موضوع العلاقة بين سوريا ولبنان لا سيّما في ظل وجود عدد من القضايا الخلافية والشائكة التي تحتاج إلى معالجة عاجلة وأولها قضية عودة النازحين السوريين، وترسيم الحدود بين البلدين.
ومع بداية تسلّمه مقاليد الحكم في سوريا، اتخذ أحمد الشرع خطوات في ما يخص لبنان طرحت علامات استفهام في الشارع اللبناني حول شكل وطبيعة العلاقة مع سوريا الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، أبدى الشرع عدم تجاوبه مع طلب رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالية نجيب ميقاتي بحلّ موضوع النازحين السوريين حيث اشترط استعادة أموال المودعين السوريين من المصارف اللبنانية قبل البحث في أي شأن آخر. هذا الأمر يوحي بأن تسوية العلاقة بين لبنان وسوريا لن تسير بسهولة وبمرونة كما توسّم اللبنانيون مع تغيير النظام، وأن تحقيق ذلك يتطلّب وساطة عربية بالدرجة الأولى لحلّ الخلافات وتصحيح مسار العلاقة التاريخية الملتبسة بين هذين البلدين الجارين.
من هو عرّاب التسوية في لبنان وسوريا؟
في المشهد السياسي الإقليمي الحالي، ومع السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة والتهديد بتغيير حدود الدول القائمة، ومع الاهتمام العربي والإقليمي المستجدّ بالنظام الجديد في سوريا من بوابة الاستثمارات والمساعدات، باستثناء دولتي قطر وتركيا، وهما من بقيا على خصومة مع النظام القديم وأول من احتضن النظام الجديد وأعطياه الشرعية العربية والدولية لا سيّما مع زيارة أمير دولة قطر إلى سوريا وما تلاها من اعتراف وتهنئة من قادة الدول العربية للشرع، وسط كل ذلك وفي ظلّ الفشل السياسي اللبناني المستمرّ وعدم التعامل بمسؤولية مع التطوّرات الحاصلة في المنطقة، لا بدّ من طرح السؤال التالي: من سيكون عرّاب التسوية بين لبنان وسوريا؟ وهل سيعيد التاريخ نفسه في إعادة استحضار معادلات الوصاية من بوابة الاحتواء والتوافق العربي- الدولي حول المنطقة؟
في محاولة للإجابة على هذا السؤال، لا يمكن تجاوز الدور الذي قامت به قطر في لبنان على مدى سنوات طويلة منذ زمن الخلافات العربية السورية في العام ٢٠١١ وما تلاها، والتي شهدت مقاطعة سياسية واقتصادية خليجية للبنان لم تعالج بشكل نهائيّ بعد. سارت قيادة قطر عكس التيار الخليجي في لبنان، ولم تقطع العلاقة معه، بل على العكس، استمرّت بدعم المؤسسات الرسمية فيه وبخاصة مؤسسة الجيش اللبناني، الأمر الذي ساهم في منعها من الانهيار.
وفي مراجعة سريعة للسياسة القطرية في لبنان منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، تتجلّى الاستراتيجية القطرية بوضوح من حيث تعاملها مع لبنان كدولة، وليس كمجموعات طائفية ومذهبية حاكمة، إذ تقوم بتوجيه مساعداتها ووساطتها حصراً عبر المؤسسات والقنوات الرسمية دون الدخول في صراع المحاور وفي الخلافات الداخلية اللبنانية أو بناء سياستها حسب مواقف وسياسات المجموعات والأحزاب فيه بما في ذلك وساطتها في اتفاق الدوحة في العام ٢٠٠٨.
ومع بداية الأحداث في سوريا في العام ٢٠١١، حاولت قطر تجنيب وتحييد لبنان قدر الإمكان تبعات الحرب السورية من خلال دعوة كل الأطراف اللبنانية إلى عدم التدخّل في الوحل السوري وحماية استقلالية وأمن لبنان، لكن انقسام الطبقة السياسية في لبنان بين محورين، واستخدام بعض الدول للبنان كساحة لتصفية الحسابات في الصراعات الإقليمية والعربية والدولية.. كلها كانت أقوى من النصيحة القطرية.
وفي الحديث عن الوساطة، لا بدّ في مقاربة الحضور القطري في المنطقة من التوقف عند نجاح دور قطر في وقف الحرب على غزة بالشراكة مع جمهورية مصر العربية، ولا بدّ من قراءة بنود هذه التسوية التي تحفظ حقّ غزة بالإضافة إلى ضرورة قراءة تصريحات رئيس الحكومة ووزير الخارجية القطرية بتمعّن حول فلسطين، ومراقبة المشهد الفلسطيني في غزة في عملية تسليم المحتجزين الإسرائيليين والذي يكرّس حقّ الفلسطيني في أرضه.
الاستنجاد بقطر
العالم كله اليوم ينظر إلى سوريا، ولبنان للأسف ما يزال يعتبر ملحقا للتسويات الإقليمية والدولية بسبب فشل الطبقة السياسية، وأعني هنا كل الأحزاب السياسية الموجودة في إعادة تكوين السلطة في لبنان. وفي ظلّ دخول المنطقة مرحلة رسم المعادلات الجديدة وما يحكى فيها عن خطر إعادة رسم للخرائط والحدود القائمة، من مصلحة الدولة اللبنانية الطلب من دولة قطر قيادة الوساطة بين لبنان وسوريا لأسباب عدة أبرزها:
أولاً؛ الدور الذي تلعبه قطر مع الإدارة السورية الجديدة لا سيّما في تأمين الشرعية العربية والدولية لها وفي دعم مؤسسات الدولة فيها بالتعاون مع تركيا.
ثانياً؛ تاريخ الدور القطري في لبنان القائم على دعم مؤسسات الدولة في لبنان دون أي شروط وعلى عدم الدخول في لعبة الخلافات الداخلية بين الأحزاب اللبنانية وعلى عدم استخدام لبنان كساحة لتصفية العلاقات العربية أو الإقليمية أو الدولية.
ثالثاً؛ العلاقة التي تجمع بين قطر والولايات المتحدة والتي رسم إطارها نجاح قطر في دورها الديبلوماسي الإقليمي والدولي وقدرة الأخيرة على تدوير الزوايا مع الإدارات الأميركية المتعاقبة دون مساومات على دورها في الوساطة وعلى شكل ومستوى علاقتها بالدول الأخرى.
رابعاً؛ النصائح التي تقدّمها قطر إلى المسؤولين اللبنانيين بضرورة الاستفادة من التغيّرات الحاصلة لكي يفرض لبنان نفسه كدولة مستقلّة قائمة بمؤسساتها قبل فوات الأوان.
يمكن القول بأن قطر تتصدّر المشهد واللحظة الراهنة في المشهد الإقليمي من غزة إلى سوريا. من هنا، فإن المصلحة اللبنانية تتطلّب التعاون مع قطر استناداً إلى تاريخها الطويل الداعم للدولة في لبنان، وطلب وساطتها لتسوية الخلافات مع سوريا لا سيّما في ما يخص عودة النازحين وترسيم الحدود، والعمل على إعادة ترسيم علاقات نديّة بين الدولتين وإنقاذ ما تبقى من بلدنا من خلال عدم تكرار خطأ المراهنة على عودة المعادلات الثنائية والتسويات الإقليمية- الدولية الكبيرة التي شرّعت الوصاية عليه، والتي لم تساهم إلا بتفكيكه وإضعافه وتكريس الزبائنية فيه، بدل مساعدته وحمايته.