لا يجادل عاقلان في حقيقة أنّ “إسرائيل” لم تلتزم بالاتفاق المُبرم بينها وبين لبنان قبل سنة من الآن، وذلك بشهادة قوات الطوارئ الدولية المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) التي أكّدت في تقاريرها أنّ لبنان التزم تنفيذ الاتفاق بالكامل، فيما خرقتْه “إسرائيل” حوالى عشرة آلاف مرة، برًّا وبحرًا وجوًّا. كما أنّ الجيش اللبناني استطاع خلال العام المنصرم رفع عديده في منطقة جنوب نهر الليطاني إلى عشرة آلاف جندي، وحقق انتشارًا ميدانيًا بنسبة تجاوزت 80٪. أمّا العائق الوحيد أمام الجيش لتنفيذ انتشار كامل فهو مواصلة الجيش “الإسرائيلي” احتلاله مواقع يعتبرها استراتيجية داخل الأراضي اللبنانية، وذلك أيضًا بحسب تقارير “اليونيفيل”. لكن ما لم تقله القوات الدولية ــ ولن تقوله ــ هو أنّ هذه الخروقات الإسرائيلية حصلت وتحصل بضوء أخضر أميركي.
إنّ مربط الفرس، كما يُقال، ليس في تل أبيب بل في واشنطن. فمن الواضح أنّ الولايات المتحدة تريد تجاوز اتفاق وقف الأعمال العدائية إلى ما هو أبعد، عبر الضغط العسكري “الإسرائيلي” على لبنان من جهة، وضغطها السياسي والديبلوماسي والاقتصادي والمالي من جهة ثانية. والهدف من هذه الضغوط هو دفع الدولة اللبنانية للانخراط في اتفاق سلام مع “إسرائيل” مقدمة للتطبيع، وفق اتفاقيات أبراهام التي انطلق قطارها قبل تسعة أعوام وضمّت حتى الآن البحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة والسودان والمغرب.
بهذا المعنى، جاءت خطوة تعيين مورغان أورتيغاس ممثلة للولايات المتحدة في لجنة “الميكانيزم” مقدمة لتعيين السفير اللبناني سيمون كرم ممثلًا للبنان في هذه اللجنة إلى جانب ضباط من الجيش اللبناني. وتطمح واشنطن، عبر هذه الخطوة، إلى توسيع التمثيل المدني اللبناني وتوسيع أعمال اللجنة لتطال مواضيع تتجاوز مراقبة تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية إلى ملفات اقتصادية وربما أكثر، كما صرّح بذلك رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو.
وعلى الرغم من شهادة الخصم قبل الصديق بوطنية السفير سيمون ونزاهته، فإنّ تعيينه، في ظل الظروف وموازين القوى الراهنة، يشكّل بلا أدنى شك تنازلًا لبنانيًا مجانيًا لـ”إسرائيل”. وقد سبق هذا التنازلُ تنازلًا مجانيًا آخر في الخامس والسابع من آب/أغسطس الماضي، حين أعطت الحكومة اللبنانية أوامرها للجيش بإعداد خطة عملية لحصر السلاح بيد الدولة على كامل الأراضي اللبنانية. آنذاك كان الرئيس عون، ومعه رئيس الحكومة نواف سلام، يراهنان على أن تبادر “إسرائيل” ــ بضغوط أميركية ــ إلى تقديم شيء ما مقابل هذا التنازل اللبناني، لكن ما حصل أنّ “إسرائيل” وضعت التنازل في جيبها، وصعّدت اعتداءاتها وخروقاتها واغتيالاتها وتهديداتها، وصولًا إلى التنازل اللبناني الثاني المتمثل بتعيين كرم في “لجنة الميكانيزم”.
وثمة سؤال لا مفر منه، إلى أين ستؤول الأمور بعد الخطوة اللبنانية الأخيرة؟
هناك رأيٌ أولٌ، يُعبّر عنه الرئيس عون وإلى حدّ ما رئيس الحكومة، يقول إنّ هذه التنازلات للولايات المتحدة من شأنها تخفيف الضغط على لبنان. كما أنّها تُعدّ شكلية لا تقدّم ولا تؤخر في تطور الأوضاع طالما أنّ “إسرائيل” متمسّكة باحتلال أراضٍ لبنانية وبأسرى لبنانيين وبمنع الجنوبيين من العودة إلى قراهم وإعادة إعمارها. ويشارك رئيس مجلس النواب نبيه بري هذا الرأي ــ وإن بصورة غير مباشرة ــ إذ أعلن أنه ليس مهتماً بالإسم بقدر اهتمامه بالمهمة الموكل بها صاحب الإسم، وشدد على أن المهمة واضحة: تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل.
أما الرأي الثاني فهو موقف حزب الله، الذي عبّر عنه الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، معلنًا رفضه مشاركة مدني في لجنة المراقبة، واعتباره الأمر تنازلًا مجانيًا للاحتلال. لكن إذا كان هذا موقف الرئيس بري، كما سبقت الإشارة، فإنّ موقف قاسم يصبح تثبيتًا لمبدئية الاعتراض من دون أي مفاعيل عملية.
ومن نافل القول إن سياسة التنازلات، وإن كانت حتى الآن شكلية، وفق قراءة بعض المسؤولين اللبنانيين، فإنّ استمرارها لا يمكن أن يبقى من دون أن يمسّ جوهر الأمور. ولا يستطيع المسؤولون مواصلة هذه اللعبة إلى ما لا نهاية، لأنّها في جوهرها ليست سوى شراءٍ للوقت انتظارًا لتطورات تعيد التوازن في المنطقة بطريقة لا تسمح لـ”إسرائيل” بمواصلة لعب دور “أزعر الحي” بلا رقيب ولا حسيب خدمةً للسياسة الأميركية التي يبدو أنها مستعجلة لطيّ ملف نزاعات المنطقة لأجل التفرّغ لصراعها مع الصين في جنوب شرق آسيا.
وتعتبر السياسة الأميركية الراهنة أنّ لبنان بات يدور في فلكها، ولا يملك ترف مناقشتها في مخططاتها، بل عليه تنفيذ ما تمليه عليه. إلى أن نصل إلى ساعة الحقيقة، وحينها:
-إمّا أن تيأس واشنطن وترضى بالستاتيكو القائم، أي منطقة جنوب الليطاني منزوعة السلاح في ظل وجود الاحتلال في بعض التلال الحاكمة ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا وشمال بلدة الغجر، وبالتالي إبقاء النار تحت الرماد، وهو ما يعطي مشروعية قانونية ودولية لعودة المقاومة إلى جنوب الليطاني.
-وإمّا أن تمارس ضغطًا جديًا على “إسرائيل” للانسحاب من الأراضي اللبنانية وإطلاق الأسرى ضمن سياسة نزع الذرائع من يد حزب الله تمهيدًا لنزع سلاحه في باقي الأراضي اللبنانية.
غير أنّ رأيًا آخر يرى أنّ خيارًا ثالثًا قائم، وهو إطلاق يد “إسرائيل” لشنّ عملية عسكرية واسعة ضد لبنان قد تصل إلى أقصى مناطقه الشمالية الشرقية بهدف القضاء التام على حزب الله. لكن الواقع الميداني لا يعطي هذا الخيار فرصة كبيرة، لأنّ أي عملية بهذا الحجم قد تطول أكثر مما تتوقع تل أبيب وبعض دوائر الإدارة الأميركية، كما قد تفضي إلى إمكانية اشتعال المنطقة مجددًا بمشاركة حركة “أنصار الله” اليمنية، فضلًا عن احتمال مشاركة إيرانية مباشرة، ما يستدعي مشاركة أميركية مباشرة بالمقابل.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى تعثر المفاوضات الأمنية السورية–الإسرائيلية بسبب تعنت تل أبيب وتمسكها بشروط جعل كل منطقة الجنوب السوري منزوعة السلاح مع حرية حركة “إسرائيلية” ضد كل ما تعتبره تل أبيب تهديدًا لأمنها في سوريا. وهذا ما وضع السلطة السورية الجديدة في موقف حرج، استدعى طلب الدعم من تركيا. وقد كان لافتًا للانتباه، في الأسبوع الماضي، مشاركة وفد من حزب الله برئاسة مسؤول العلاقات الدولية عمار الموسوي في مؤتمر عن القدس عُقد في إسطنبول، لما لهذه المشاركة من دلالات في حال استمرار “إسرائيل” بسياساتها في المنطقة.
إذًا، عملية شراء الوقت قد لا تطول، ولا مصلحة للولايات المتحدة في تمديدها، ولا سيما في حال التوصل إلى وقف الحرب الأوكرانية وعودة روسيا للعب دورها كقوة عظمى ذات نفوذ في المنطقة. ومن شأن هذه العودة أن تُحدث تعديلات في توزّع القوى وموازينها وتعيد خلط الأوراق. لذلك ستجد واشنطن نفسها مضطرة لطيّ ملف لبنان قبل حصول تطورات تعيد الأمور إلى المربّع الأول.
