نعم، جاك، ومن دون ألقاب، هكذا كان ينادي رفيق الحريري صديقه الفرنسي العزيز. علاقة صداقة حميمة بين رجل السوليدير ورجل فرنسا الأول. قفز الحريري من بين حقول التفاح والبرتقال في جنوب لبنان ونسج علاقة مع بوابة العالم الغربي. مسيرة زرعت في بساتين باريس السياسية مئة شوكة فاسدة لاحقت جاك بالسجن في آخر مشواره المهني.
هي مسيرة جاك شيراك، من رئيس بلدية إلى وزير ثم رئيس وزارة وصولا إلى تربعه على كرسي الرئاسة مرتين. شكرا حريري.
يروي نائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي كيف نادى رفيق الحريري صديقه جاك. نادى على وريث نابليون ولويس التاسع عشر صائحا “جاك، تعا تعا”، مشيرا اليه بينما كان الفرزلي يقف مشدوها ومراقبا يد الحريري البيضاء في عرض السماء بين نور الشمس وقوس النصر في شارع الشانزيليزيه.
ماذا فعل جاك؟
لبى نداء المستقبل وهرولت نفسه قبل جسده الى رئيس أنطاكيا وسائر المشرق: رفيق الحريري.
أعطى جاك المجد لرجل لبنان الأول رفيق. من باب المحبة والصداقة والأخوة والولاء.
يسجل لشيراك وقوفه إلى جانب لبنان في حرب عناقيد الغضب التي شنها رئيس وزراء إسرائيل آنذاك شيمون بيريز في ربيع العام 1996، وفشلت في تحقيق أهدافها السياسية. أدار الحريري، وقتذاك، محركات طائرته الخاصة متنقلا بين عواصم العالم مدافعا عن حق بلده في الدفاع عن نفسه ضد من يحتل أرضه، منسقا بين الميدان الملتهب والديوان الدولي ـ الإقليمي البارد، حتى إنتزع اتفاقا لوقف إطلاق النار لم يكن ليحصل لولا صمود أهل الجنوب ومساندة “المفرزة الحريرية” السبّاقة، وعلى رأسها جاك شيراك.
هو اتفاق نيسان/أبريل الشهير. وهي الحرب التي حولت الحريرية السياسية من دور إقليمي مقيد الى دور دولي كبير. هو التحول الذي أعد رفيق الحريري نفسه له، منذ قرر نسج علاقته بباريس. فأصبح نصرا، كما قال مستشار الرئيس الحريري الراحل مصطفى ناصر “أبا بهاء، لك في النصر حصة”.
لم يكن شيراك من خامة القادة كديغول. ولم يحمل ثقافة ميتران وبومبيدو. وبالتأكيد لم يكن من قماشة سلفيه ساركوزي وهولاند
اجتمع العالم الغربي في الاحتفال السنوي للنصر في الحرب العالمية الثانية في النورماندي الفرنسية. لم يكن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش قد سمع بلبنان قبل ذلك اليوم. إلا أنه كان يعرف رفيق الحريري الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. اقترب شيراك من بوش هامساً ومقدما نفسه الخبير بالشرق الأدنى. ثم نظر في عيني الكاوبوي الأمريكي المنتشي بفكرة انه مبعوث الهي كما يزعم بانه يد الله، مطلقا فكرته النارية.
بعدها خرج المارد المجرم من أرض لبنان يقتل بسيف القرار الأممي 1559. قتل الحريري الأب وخرج التاريخ بوجهه القبيح يقتحم الميادين. ثم وصل جاك الى بيروت يقدم العزاء بصديق قتله قرار خرج من رحم همسته.
– لماذا فعلت ذلك يا جاك؟ سأله أبو عبد البيروتي.
– لبنان احتاج للخلاص من الوصاية السورية والى تفعيل الديمقراطية الهشة، أجاب شيراك.
– وماذا عن صيغة لبنان المميزة التي وعد جدك لويس الرابع عشر بحمايتها وحماية حقوق أهلها، سأله أبو عبد.
– نحن في العصر الأمريكي اليوم هذا هو الواقع، قال شيراك
– حسنا، من قتل صديقك، سأل أبو عبد.
– أجاب شيراك: لا يهم من قتل، الفوضى أهم. فأنا جاك شيراك على مذهب معاوية بن أبي سفيان حين سأله أحدهم عن مقتل عمار بن ياسر وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لتقتلك الفئة الباغية”. فأجاب معاوية “قتله من أتى به”.
– لكنك يا جاك نسيت أن تهمس في أذن صديقك رفيق ما كان يقوله أبي “عند تغيير الدول.. إحذر رأسك”، قال أبو عبد البيروتي.
ليس تفصيلا الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003. هو الزلزال الذي أسقط أحد أعمدة البناء السياسي للشرق الأوسط، وإن عارضه جاك شيراك يبقى انه ساهم في ارتداداته. لم يكن شيراك من خامة القادة كديغول. ولم يحمل ثقافة ميتران وبومبيدو. وبالتأكيد لم يكن من قماشة لا ساركوزي ولا هولاند البلا كاريزما. هو مميز بسيرة ومسيرة خاصة: موظف عند الحريرية السياسية برتبة رئيس فرنسا.
مع رحيل شيراك تطوي الحريرية صفحة آخر رجالاتها. ما نشاهده من الحالة الحريرية اليوم هو رجال ولكن من دون سياسة.
(*) كاتب سعودي