من “البيت الأطلسي” إلى.. “البيت الأوروبي”!

سنوات ثلاث مرت على حرب أوكرانيا، وتحديدًا على بداية الغزو الروسى، باعتبار أن الحرب بين الطرفين بدأت منذ أكثر من سنوات عشر (فبراير/شباط ٢٠١٤) ولو بشكل محدود ومتقطع فى الجغرافيا وحدة القتال. ولم تمنع صيغ الوساطات المختلفة ودورها من الذهاب إلى الحرب الكلية، كما أشرنا.

وللتذكير فإن الحرب التى انطلقت منذ سنوات ثلاث كانت العنصر الأساسى فى إعادة إحياء دور منظمة حلف شمال الأطلسى (الناتو) بعدما تراجع كليًا ذلك الدور فى مرحلة ما عرف «بنظام ما بعد، بعد الحرب الباردة». تراجع ذلك الدور بسبب فقدان المحفز الضاغط أو العدو الناشط والخطير والمهدد للأمن الأطلسى. عادت العلاقات «عبر الأطلسى» إلى قوتها وحيويتها. وأتت فى فترة تراجعت أو تعثرت فيه عملية بناء السياسة الأوروبية الأمنية والدفاعية المشتركة لجملة من العناصر السياسية والاقتصادية المتعلقة بمسار «البناء الأوروبى».

إدارة جو بايدن الديموقراطية لعبت دورا أساسيا فى إعادة إحياء التعاون الاستراتيجى المتعدد الأطراف فى «البيت الغربى». بالطبع كان المحفز الأول على ذلك ما اعتبر بمثابة خطر روسى كبير وضاغط على الأمن الغربى.

ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عادت سياسة الأحادية الحادة لتطبع السياسة الأمريكية كبديل عن سياسة التعاون المتعدد الأطراف فى إطار الغرب الاستراتيجى بشكل خاص. السياسة التى تقوم على ما يعرف بالتبادلية والتعاونية transactional سياسة يمكن وصفها أيضًا بأنها تقوم على دبلوماسية الصفقات الثنائية التى تشكل خير توصيف لسياسة إدارة ترامب. يترك ذلك آثارا سلبية على العلاقات مع الحليف الاستراتيجى الأوروبى فى البيت الأطلسى.

ولكن المثير للاهتمام أن صعود اليمين المتطرف فى أوروبا والانتصارات التى حققها ويحققها فى بعض الدول الأوروبية يلتقى تلك السياسة «الترامبية» فى النظرة إلى التعاون الخارجى بشكل خاص. وقد رأينا موخرًا، على سبيل المثال، الدعم الذى قدمه رجل الأعمال إيلون ماسك صديق ترامب «وحليفه» ومستشاره إلى اليمين الألمانى فى الانتخابات التى جرت موخرًا، والتى فازت فيها قوى اليمين المختلفة، والتى تعتنق مبادئ فى العلاقات الخارجية حتى ضمن «البيت الأوروبى» ليست بعيدة عن مبادئ ترامب. مبادئ ومواقف تشكل عوائق عديدة أمام عملية البناء الأوروبى المتعثرة كما أشرنا سابقًا.

يرى أكثر من مراقب أن السياسة الأحادية الأمريكية قد تشكل حافزًا رئيسيًا لأوروبا الأطلسية فى انتمائها، للعودة بقوة إلى إطلاق مسار بناء البيت الأوروبى. المسار المتعثر، خاصة فى مجالى السياسة الدفاعية والأمنية، بحيث تعزز موقعها على المسرح الاستراتيجى الدولى، وهو أمر ليس بالسهل ودونه الكثير من العوائق الداخلية فى القارة القديمة

ترامب اليوم فى سياق «عقيدته السياسية» التى تحمل أحيانًا وجهًا براجماتيًا عندما يلتقى هذا التوجه المشار إليه مع «المصلحة الأحادية» الأمريكية كما تحددها «الترامبية» أو أمريكا أولًا، تعنى الحوار الثنائى مع موسكو حول أوكرانيا. يهدف ذلك بالطبع للتخلص، من منظور ترامب، من أعباء وتكاليف تلك الحرب والتفرغ بشكل أفضل كليًا للهدف الاستراتيجى الأمريكى الأول المتمثل بالمواجهة مع الصين الشعبية على الصعيد العالمى وفى مسرح المحيطين.

أضف إلى ذلك أن منطق التبادلية يدفع إدارة ترامب للتفاوض الضاغط على أوكرانيا للحصول على المعادن الأرضية النادرة التى يمتلكها ذلك البلد والتى لها دور أساسى فى اقتصاد إنتاج الإلكترونيات فى الولايات المتحدة: أفضلية الحصول على هذه الموارد مقابل الدعم العسكرى والمادى الذى قدمته واشنطن لأوكرانيا.

والجدير بالذكر أن أجزاء كبيرة من هذه المعادن تقع فى منطقة الدونباس التى تسيطر على مساحات كبيرة منها القوات الروسية. ويأتى، فى سياق السياسة الأحادية الحادة والعائدة بقوة إلى البيت الأبيض، ما أكد عليه ترامب أكثر من مرة بشأن زيادة كبيرة فى الرسوم الجمركية فى العلاقات الاقتصادية مع الحلفاء الأوروبيين. ويعتبر ترامب ملوحًا بالأرقام أن أوروبا مستفيدة بشكل أكبر بكثير من الولايات المتحدة فى هذا الإطار. والشىء نفسه ينطبق على ما يريده ترامب، برغم تأجيل تنفيذه بعض الوقت، مع الجارين الكندى والمكسيكى.

ويقول أكثر من مراقب إن أوكرانيا فى ظل إدارة بايدن أعادت إحياء الناتو بشكل قوى وفاعل بعد عقود من التهميش الذاتى الذى سببه انتهاء الحرب الباردة مع سقوط العدو السوفييتى وغياب العدو الذى يحفز ذلك التعاون. كما أن أوكرانيا ذاتها فى حربها الجارية فى ظل إدارة ترامب أدت وتؤدى إلى إعادة إضعاف دور الناتو فى ظل الخلافات الأمريكية الأوروبية. الخلافات التى تتمدد وتتصاعد فى البيت الاستراتيجى الغربى أو الأطلسى.

ويرى أكثر من مراقب أن السياسة الأحادية الأمريكية إلى جانب ما أشرنا إليه من الأزمة المتفاقمة فى البيت الأطلسى قد تشكل حافزًا رئيسيًا لأوروبا الأطلسية فى انتمائها، للعودة بقوة إلى إطلاق مسار بناء البيت الأوروبى. المسار المتعثر، خاصة فى مجالى السياسة الدفاعية والأمنية، بحيث تعزز موقعها على المسرح الاستراتيجى الدولى، وهو أمر ليس بالسهل ودونه الكثير من العوائق الداخلية فى القارة القديمة.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  العولمة والهوية.. نموذج إستهلاكي ثقافي واحد
ناصيف حتي

وزير خارجية لبنان الأسبق

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  اللامركزية قناع الهويات الفرعية..