سردية متغيرة للنظام العالمي.. باتجاهات مختلفة!

تتفق دوائر سياسية وفكرية عند القول إن المجتمع الدولي يمر بمرحلة مهمة ومفصلية ستترك تداعياتها علی كافة مناحي الحياة البشرية، سياسةً وأمناً وإقتصاداً وإجتماعاً؛ كما على صعيد التكنولوجيا والتقنية والعلوم المختلفة.

لا أريد الاصطفاف إلی جانب من اعتبر “جائحة كورونا فعلاً انسانياً وليس فيروساً طبيعياً”؛ لكن هذه الجائحة التي قال عنها علماء الأوبئة هي الأقل فتكاً بالمجتمع الانساني خلال المائة سنة المقبلة؛ قرأتها ورش “تفكير المستقبل” علی أنها “علامة فارقة” في القرن الجديد؛ و”أن ما قبل كورونا ليس كما بعدها”. هذه الجائحة شلّت الحياة. عطّلت الاقتصاد. أثّرت علی المطارات والتجارة والنقل ومجمل الأعمال والجامعات والمدارس ودور العبادة وحصدت اكثر من 15 مليون شخص، حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية التي تعتقد أن الحصيلة الواقعية لأعداد الوفيات تُقدر بثلاثة أضعاف ما هو معلن!.

الأزمة الأوكرانية جاءت في سياق ما كانت هذه الورش تتوقع حدوثه حيث دخل العالم في حقبة سياسية أمنية اقتصادية جديدة قدّر العديد من علماء السياسة أنها لن تنتهي إلا بحرب عالمية ثالثة؛ فيما اعتبر البعض الآخر أنها الحرب العالمية الثالثة بذاتها لكن علی مقاسات الألفية الثالثة مستندين بذلك إلی رقم الـ 15 مليون ضحية، فضلاً عن عشرات ملايين المشردين في شتى أنحاء العالم وعجز معظم الاقتصاد الدولي.. وانهيار العديد من البرامج التنموية والتقنية.

في مثل هذه الأجواء، اندفع معظم السياسيين وعلماء الإجتماع السياسي والاقتصاد السياسي للتفكير بصوت مرتفع عن ماهية “النظام العالمي الجديد” و”قواعد الإشتباك” الجديدة وأية نظم اقليمية أمنية واقتصادية وسياسية تنتظرنا، وبالتالي لم يعد الحديث عن النظام العالمي الجديد أمراً بعيداً عن الواقع أو من باب الترف الفكري أو التوقعات المستقبلية؛ انما إنعكاساً لمعطيات ومؤشرات يلمس العالم تفاصيلها يومياً.

كنا في السابق نتحدث عن مجلس الأمن الدولي. الآن لم يعد هذا المجلس يتصدر مراكز القرار التي تهتم بالأمن والسلم العالميين.. لا سيما غداة الأزمة الأوكرانية. إنه عالمٌ متغيرٌ.. وثمة ارهاصات جديدة تتحرك علی مسرح الأحداث في شرق العالم وغربه؛ كما في جنوبه وشماله

وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف قارب تجربة سياسية خاضها لأكثر من أربعة عقود في الميدانين السياسي والأكاديمي؛ خاض خلالها مفاوضات نادرة في التاريخ السياسي العالمي مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين) إضافة إلی ألمانيا؛ وتوصل معهم إلى “الاتفاق النووي” الذي أودع في مجلس الأمن الدولي وفق القرار الرقم 2231 في العام 2015. هذا الرجل يعتقد أن الجهود التي استمرت ثلاثة عقود لم تنجح في إقامة نظام أحادي القطبية غداة انهيار الإتحاد السوفياتي من خلال “الحرب” أو “الإرهاب الإقتصادي”؛ لكنها ولّدت معاناة شديدة وخسائر بشرية لا تغتفر كما تسببت بإهدار هائل للموارد البشرية.

ويستشرف ظريف في ملخص لمقال وعد بنشره قريباً، بشأن طبيعة “النظام العالمي الجديد”، أن عصر التحالفات الدائمة قد انتهی وأن المرحلة المقبلة تشي بتحالفات مؤقتة لأن اللاعبين الحكوميين وغير الحكوميين يتعاونون ويتنافسون ويتشاركون في آن واحد في مجالات مختلفة، ويری أن نظرية “الحرب” كأحد أدوات السياسة الخارجية؛ فشلت خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين في تحقيق أهدافها.. وكانت النتيجة إما تدمير من قام بالحرب أو في أحسن الأحوال الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة.

ويعتقد ظريف أن المعادلة الصفرية لم تعد ممكنة في العلاقات الدولية؛ معرباً عن توقعه بأن يُصار إلى تفعيل منتديات ذات مكونات حكومية وغير حكومية تسعی للهيمنة علی النظم العابرة للحدود لتشكل الهياكل العالمية المرنة التي لا تحددها نتائج أو أطراً مُسبقة.

ويختم ظريف تلخيصه لأهم مؤشرات “النظام العالمي الجديد” باستشرافه انتهاء مفعول نظريات مثل “نهاية التاريخ” و”صراع الحضارات” و”العدو المفترض”، معتبراً أن “الفاعلية البشرية” هي العامل الحاسم في هذا العالم علی الرغم من التطورات الكبيرة في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي إلخ..

ما ذهب اليه محمد جواد ظريف ليس بعيداً عن مراكز الدراسات الغربية والأمريكية تحديداً التي تبحث في مالآت النظم السياسية العالمية التي تتمحور وفق نظريات “الهيمنة” و”الاقتصاد العقابي” و”الأمن” لكن باتجاهات مختلفة؛ حيث لم يكن امراً طبيعياً أو عادياً أن يتسلم إدارة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية رجلاً مثل “ویلیام برنز”، الدبلوماسي الذي خدم في الخارجية الأمريكية حتی وصل إلى منصب مساعد وزير قبل أن يتربع علی عرش أكبر مؤسسة بحثية أمريكية عريقة كـ”مؤسسة كارنيجي”.

يبدو لي أن سرديات السياسة الخارجية الأمريكية التي اعتمدت خلال العقود الأربعة الماضية كـ”الإحتواء المزدوج” و”إدارة الصراع” و”إدارة الأزمات” و”محاور الشر” و”دبلوماسية البينغ بونغ” و”الحرب الإقتصادية” لم تعد تنطبق مع حقيقة القوى المحلية الصاعدة في أكثر من منطقة في العالم.

وفي الاطار ذاته؛ ثمة إعتقاد أن “إسرائيل” التي ولّدها الإستعمار قبل 75 سنة في هذه المنطقة، باتت تتحول عبئاً علی السياسة الأمريكية خصوصاً والعالم الغربي عموماً.

إقرأ على موقع 180  معنى أن يُثبِت إردوغان "فلسطينيته" لا.. شعبويته!

إن الدولة العميقة في الولايات المتحدة أرادت الاستعجال بحل هذه الاشكالية عندما قادت وسوّقت لـ”صفقة القرن” والبرنامج “الابراهيمي” لـ”الانسحاب الآمن” من آلية حماية “العبء الإسرائيلي”. وعندما يتم الاصرار علی دخول النرويج أو السويد في حلف شمال الأطلسي (“الناتو”) فهذا لا يعني استكمال القوة لهذا الحلف؛ وانما خطوة استباقية لتجميع قوة هذا الحلف الذي يضم ثلاث دول نووية قبل أن تنفرط حبات مسبحته.

كنا في السابق نتحدث عن مجلس الأمن الدولي. الآن لم يعد هذا المجلس يتصدر مراكز القرار التي تهتم بالأمن والسلم العالميين.. لا سيما غداة الأزمة الأوكرانية.

إنه عالمٌ متغيرٌ.. وثمة ارهاصات جديدة تتحرك علی مسرح الأحداث في شرق العالم وغربه؛ كما في جنوبه وشماله.

([email protected])

Print Friendly, PDF & Email
محمد صالح صدقيان

أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية

Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  غزة الصغرى أقوى من.. الأحلاف الكبرى