“إيكونوميست”: كيف فاز أحمد الشرع بسوريا؟

أعد مراسل مجلة “ايكونوميست” الإنكليزية في الشرق الأوسط نيكولاس بيلهام، مادة توثيقية تستند إلى روايات شهود عيان تتمحور حول تطور شخصية الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) ومنابته العائلية والمناطقية والطائفية وعلاقاته الاجتماعية والجهادية.. وصولاً إلى ما هو عليه في يومنا هذا.

في صباح أحد أيام صيف 2021، اقترب رجل ذو مظهر أنيق من نقطة عبور إلى سوريا يسيطر عليها متمردون. وبينما كان يغادر الحدود التركية، شعر خالد الأحمد بضيق في صدره. فهو من الطائفة العلوية، وكان مستشاراً مقرباً من الرئيس السابق بشار الأسد (2012 – 2018). ومن يسيطر على الأراضي التي كان على وشك الدخول إليها هم من الإسلاميين السُنّة المتشددين- العديد منهم يسعدون عندما يرون أشخاصاً مثل الأحمد يُعدمون.

كان حُراس المعبر يشيرون له بالتقدم نحو منطقة خالية إلّا من رجالٍ ملثمين كانوا ينتظرونه داخل سياراتهم السوداء اللون لمرافقته إلى وجهته. ألقوا نظرة سريعة على أوراقه الثبوتية، ثم طلبوا منه ركوب إحدى السيارات لينطلق “موكب المرافقة” بسرعة ويعبر مخيمات اللاجئين المزدحمة في إدلب- المدينة التي كانت بمثابة “المقر الرئيسي” لأقوى ميليشيا إسلامية في سوريا. توقف “الموكب” أمام منزل خرساني متعدد الطوابق، وكان زعيم الميليشيا، أحمد الشرع – أبو محمد الجولاني آنذاك – ينتظر.

في تلك الأيام، لم يكن أحد يعرف الكثير عن الجولاني (الشرع). كان مشهوراً بشغفه بألعاب القوة. وكان كثيراً ما يجعل زوّاره ينتظرونه، ما جعل الناس يفترضون أن ذلك كان للتأكيد على أهمية شخصه. ولكن عندما دخل الرجل العلوي مركز قيادته، سار الشرع نحوه مباشرة، وقبّله على وجنتيه ثلاث مرات، لأن الأحمد كان صديق الطفولة.

في مرحلة البلوغ، سلك الرجلان مسارات مختلفة تماماً: ارتقى الأحمد إلى منصب بارز في “قصر الشعب” الرئاسي المطل على دمشق (مستشاراً للأسد)، بينما خطَّط الشرع لعمليات انتحارية ضد النظام الذي يقيم في ذلك القصر.

وبحلول وقت لقائهما، في عام 2021، كانت الحرب الأهلية في سوريا قد مضى عليها عشر سنوات وأودت بحياة حوالي نصف مليون شخص وتشريد ملايين آخرين. كلا الجانبين (النظام والمعارضة) ارتكبا الفظائع بحق بعضهما البعض. وكلاهما كانا في قمة العنف والتشدّد في معتقداتهما. كان العديد من رفاق الشرع غارقين في عقيدة تنظيم “القاعدة” المتشددة، الذي كان يرى كل العقائد والأديان ـ باستثناء عقيدته ـ عبارة عن “هرطقة” (…).

احتضن الشرع صديق الطفولة بقوة، وناداه بـ”أخي” و”حبيبي” و”رفيقي”. وعن ذلك اللقاء قال الأحمد: “لقد رحّب بي كصديق، وليس كعلوي. لقد كان لقاء لم الشمل بعد طول غياب”.

كان الأحمد قد طلب من وسطاء أتراك أن يؤمنوا له وسيلة اتصال بـ”القائد المتمرد” لأنه كان يعتقد أن نظام بشار الأسد يعيش أيامه الأخيرة. فالحرب الأهلية والحصار تسببا بإفلاس النظام، ورجال الأعمال الذين كانوا يساندونه بدأوا يتخلون عنه (…). وقد فكر (الأحمد) أنه لربما- وبحكم علاقته القديمة بالشرع- يستطيع التأثير على ما سيأتي بعد سقوط النظام. عملياً لم يكن يُريد الانتظار حتى يصل المقاتلون الإسلاميون المتشددون إلى أبواب المدن والبلدات العلوية (…).

أمضى الرجلان اليوم بأكمله في مقر الشرع في إدلب، يتناولان سندويشات الشاورما، ويتذكران طفولتهما، ويتحدثان عن السيناريوهات المتوقعة ما بعد بشار الأسد. كان الشرع واثقاً من النصر: فقد عرض على الأحمد مخططات معمارية عن كيف يريد إعادة بناء دمشق بعد أن يستولي عليها.

بدوره، وعد الأحمد الشرع بأن يتحدث مع الناس عن كيفية رسم مستقبل محتمل لسوريا. كانت فكرته الأولية تدور حول نوع من الفيدرالية تقوم على وجود الشرع في إدلب ونظام جديد في دمشق.

لكن بعد مرور ثلاث سنوات على ذلك اللقاء، أصبح الجهادي السابق هو الذي يجلس في “قصر الشعب” المطلّ على دمشق. سقط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024؛ وبعد فترة وجيزة أعلن الشرع نفسه رئيساً مؤقتاً للبلاد. ولا أحد يمكن أن يعرف ما قد يفعله الآن بصديقه القديم. فصداقته (السرّية) مع أحد المقربين من النظام السابق خير مثال عن التناقضات التي تجعل الشرع شخصاً إما براغماتياً بامتياز (عملياً) أو شخصاً لا يمكن الوثوق به أبداً. الأمر يعتمد على من تتحدث إليه.

فالشرع لديه مقدرة على التحاور مع أشخاص من كافة الأطياف والإنتماءات، ويتمتع بموهبة في إقناع أي منهم بأنه يقف إلى جانبه. فكلُ من زاره وتحاور معه – سواء من الجهاديين أو الليبراليين على حدٍ سواء – غادر الاجتماع ولديه قناعة مطلقة بأنه واحدٌ منهم. حتى أن أحد تجَّار النفط، ممن زاروا قصر الشعب في دمشق مؤخراً، خرج بانطباع أن الشرع “رأسمالي حتى النخاع”!

الخبير في الجماعات الجهادية آرون زيلين: “أحمد الشرع لم يتبن أي أيديولوجية معينة.. كانت بوصلته الوحيدة هي القوة. لقد تمكن من البقاء على قيد الحياة لأنه لم يكن لديه أيديولوجية”

إن البحث عن أدلة حول ماضي الشرع وهويته الحقيقية يثير المزيد من الأسئلة. فطوال مسيرته المهنية، كان يُغيّر اسمه وهويته بقدر ما كان يغير ولاءاته، ما مكَّنه من خداع أجهزة الاستخبارات وقادة الجهاديين على حدٍ سواء.

بين مطرقة الديموقراطية وسندان الجهاديين

وُلد باسم أحمد الشرع، ولكن أطلق عليه أيضاً اسم أسامة العبسي الواحدي، واسم عدنان علي الحاج، فضلاً عن لقبه الأكثر شهرة: أبو محمد الجولاني. وحتى العام 2013، لم يكن أحد يعرف اسمه الحقيقي سوى اثنين من الجهاديين فقط.

الشيء الثابت الوحيد الذي تميز به هو مرونته، وهي الصفة التي ساعدته على الظهور باعتباره الرجل الأخير الصامد بعد عقد من القتال الضاري الذي دار بين الفصائل المتمردة الإسلامية في سوريا. “لم يتبن أي أيديولوجية معينة.. كانت بوصلته الوحيدة هي القوة. والقوة فقط. لقد تمكن من البقاء على قيد الحياة لأنه لم يكن لديه أيديولوجية”، بحسب الخبير في الجماعات الجهادية آرون زيلين.

لكن صبر السوريين بدأ ينفد. هم ينتظرون من الشرع إثبات ما أعلن إلتزامه به. فالبلاد الشاسعة التي مزّقتها الحرب تعجُّ بالفصائل القلقة من مختلف الخلفيات الدينية، وكثير منها مسلح. المهمة الرسمية الوحيدة التي يؤديها الشرع في الوقت الراهن تتلخص في إظهار تقدير جزئي لولاء الجماعات المتمردة الأخرى. في حين أنه سيضطر إلى عقد الصفقات إذا ما أراد تأسيس سلطته وتثبيتها، ما يعني حتماً أن بعض الناس يشعرون بخيبة الأمل.

إن كبار القادة الغربيين وغير الغربيين بدأوا يضغطون عليه من أجل إجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن وضمان تمثيل العلويين والمسيحيين وكافة الأقليات الأخرى. في حين أن حلفاءه الجهاديين ليس لديهم أي رغبة في تقاسم السلطة مع أي طرف، ويرون أن الديموقراطية “خطيئة”. والواقع أن الكيفية التي يتعامل بها الشرع مع هذه المطالبات والضغوط المتنافسة سوف تشكل مستقبل الشرق الأوسط. وبالنسبة للعديد من السوريين فإن الخوف لا ينحصر في احتمال انحيازه إلى الجهاديين فحسب، بل وأيضاً في اندلاع المزيد من أعمال العنف والفوضى إذا أساء إدارة العملية السياسية.

البداية في جلباب الأب العلماني

لقد نجا الشرع حتى الآن لأنه شخص متقلب مثل الحرباء. فقد انتحل أكثر من هوية وشخصية ودور: شاب يرتدي الجينز. جهادي يرتدي عمامة. متمرد قومي يرتدي زياً عسكرياً. هويته الحالية “رجل دولة يرتدي بدلة رسمية”.. وهذا قد يكون آخر دور له.

وعلى النقيض من أغلب المتمردين السوريين، أمضى الشرع سنوات تكوينه الأولى في حضن النظام. كان والده، حسين، من عائلة قبلية بارزة في الجولان. في عام 1967، عندما احتلت إسرائيل الجولان وطردت سكانها، خسر آل الشرع أراضيهم التي كانوا يزرعونها بشجر الزيتون، وأصبحوا من بين الآلاف الذين أجبروا على الانتقال إلى مدن الصفيح المترامية الأطراف في الضواحي الجنوبية لدمشق.

صدمتا الاحتلال والتهجير جعلتا من حسين الشرع شخصاً ناقماً على إسرائيل وكل من يدعمها وخصوصاً الغرب، لذا، بدأ يميل إلى الفكر القومي العربي ومحاربة الإستعمار. فقد كان حزب البعث قد استولى للتو على السلطة في سوريا، ثم فعل ذلك بعد بضع سنوات في العراق.

نجا الشرع حتى الآن لأنه شخص متقلب مثل الحرباء: انتحل أكثر من هوية ودور. من شاب يرتدي الجينز. جهادي يرتدي عمامة. متمرد قومي يرتدي زياً عسكرياً. هويته الحالية “رجل دولة يرتدي بدلة رسمية” وقد يكون هذا آخر دور له

كان حسين الشرع أكثر تماهياً مع النسخة العراقية من “البعث”. فقد “أحب صدام حسين”؛ كما يتذكر أحد معارف العائلة؛ وكان ينظر إليه باعتباره مدافعاً عن قضايا الطائفة السنّية ضد الغزوات الأجنبية. وكان دعم النوع الخطأ من القومية العربية يُعتبرُ أمراً خطيراً في سوريا في عهد الرئيس حافظ الأسد. وبعد اعتقاله لفترة وجيزة بسبب أنشطته السياسية، فرَّ حسين من البلاد(*)، وتنقل بين أكثر من بلد عربي قبل أن يستقر في السعودية، حيث حصل على وظيفة في وزارة النفط هناك. وفي عام 1982، وُلد ابنه أحمد في الرياض، وعاش هناك حتى بلغ السادسة من عمره.

في عام 1988 أعاد حسين الشرع عائلته إلى دمشق، وعمل على إعادة تأهيل علاقاته بالنظام من بعيد. كان في ذلك الوقت خبيراً اقتصادياً بارزاً، وكان بوسعه أن يقدم خبرات قيمة حول كيفية إدارة وزارة النفط المستحدثة في سوريا. وفي نهاية المطاف حصل على وظيفة مستشار لرئيس الوزراء السوري آنذاك. وانتقلت الأسرة المكونة من خمسة أفراد إلى منطقة المزَّة الشرقية، وهي منطقة سكنية فاخرة تقع في وسط دمشق، وكان أغلب سكانها من مسؤولي النظام (…).

بعد سنوات من العزلة الدبلوماسية والقيود التي فرضها الاقتصاد الموجه في عهد حافظ الأسد، كانت دمشق في تسعينيات القرن العشرين كئيبة للغاية، حتى بالنسبة للنُخبة. لكن أحمد الشرع التحق بمدرسة جيدة، حيث كان أبناء الطوائف السنية والعلوية والمسيحية يلعبون كرة القدم وألعاب الكمبيوتر معاً. كما كانوا يطاردون الفتيات، في نزهاتهم إلى مرتفعات جبل قاسيون لمشاهدة أضواء دمشق من فوق.

لم يكن الشرع نفسه مناسباً تماماً لتلك البيئة. والداه لم يفقدا أبداً لهجتهما الريفية ولم تتخلص العائلة من “وصمة العار” المتمثلة في كونها “نازحة”. وعن هذا الأمر قال أحد زملاء أحمد الشرع في الصف: “كان يشعر بالسوء لأنه ابن الجولان”. ويبدو أن عقدة النزوح ظلَّت تطارده حتى سنّ الرشد: فـ”الجولاني”، وهو الاسم الحركي الأكثر شهرة الذي يحمله، يعني حرفياً “من الجولان”.

يتذكر أحد الجيران الشرع كـ”مراهق لطيف، هادئ، قليل الكلام، خجول إلى حدٍ مؤلم”. ويقول الجار: “كنت أصادفه في مصعد البناية. أسأله عن حال والديه، فيكتفي بالتحديق في حذائه”.

كان من بين الجيران أيضاً أحد أفراد عصابة البلطجة (أصبح فيما بعد شخصية بارزة في نظام الأسد، واضطر إلى الفرار إلى لبنان عندما استولى الشرع على السلطة). وكان هذا “البلطجي” يستمتع بالسخرية من الشرع. عندما التقته مجلة “إيكونوميست” في بيروت، في كانون الثاني/يناير الماضي، قال: “ربما أكون أنا المسؤول عن التحول الذي صار عليه.. كان خائفاً مني”.

في تلك المرحلة، كان خالد الأحمد (العلوي) من الأصدقاء المقربين لأحمد الشرع (السُنّي). كان الصبيان يتشاركان الشعور بـ”الخذلان” بسبب أصلهما وبيئتهما. وكانا، من حين لآخر، يذهبان إلى لبنان، بسيارة أحمد “المرسيدس” البيضاء اللون، للابتعاد عن كل شيء.

ولعلَّ حذر الشرع من أبناء رجال النظام قد تفاقم بسبب حقيقة مفادها أن والده كان على خلاف مع النظام مرة أخرى. ففي عام 1999 ترك حسين الشرع وظيفته الحكومية وافتتح شركة صغيرة للوساطة العقارية، بالإضافة إلى “سوبر ماركت” صغير.

وفي الصيف التالي توفي حافظ الأسد وخلفه ابنه بشار. ثم تلت ذلك فترة وجيزة، أُطلق عليها “ربيع دمشق”، عندما شعر المثقفون بالحرية الكافية للتجمع في المقاهي والحديث عن الإصلاح. وكان حسين الشرع من المشاركين البارزين في تلك الصالونات وأحد الموقعين على وثيقة شهيرة تدعو إلى إجراء انتخابات.

ولكن سرعان ما تبدَّدت كل آمال “ربيع دمشق”. فبعض النُخب “البعثية” كانت تُنادي بالاشتراكية والوحدة العربية، ولكن في الممارسة العملية كانت تُدير حكماً عشائرياً فاسداً. وكان كل من يتجرأ على الاختلاف علناً مع النظام يتعرض للملاحقة على يد أجهزة الأمن والمخابرات الحكومية المدربة من قبل جهاز الأمن السرّي الألماني الشرقي (“ستاسي”). وبرغم أن الرئيس بشار الأسد كان قد أدخل بعض الإصلاحات الاقتصادية، إلا أنه أبقى على أساسيات النظام. ومع تطور ذوق النخبة في السلع الاستهلاكية، تفاقمت المحسوبية. وكان الشرع، في فترات ما بعد دوام المدرسة، يساعد والده، في وكالته العقارية، في إيجاد شقق لمسؤولي النظام الذين كانوا يأتون بسياراتهم الفارهة. وكان أحمد يكره كل ذلك.

إقرأ على موقع 180  "الهيبة".. من سركيس إلى بايدن مروراً بعاشوراء بغداد!

إلى كنف الأصولية

لقد وجد أحمد الشرع الراحة في مسجد الحي الذي كان يسكنه. وبفضل الوقت الذي أمضاه في السعودية، كان قد تلقى بالفعل بعض التعاليم الدينية، وصار يتعمق أكثر وأكثر فيها. ووفقاً لأحد رفاقه في الصلاة، فقد أصبح أحمد متشدداً في الدين، لدرجة أنه ذات مرة وبَّخ إمام المسجد لأنه لم يرتد قبعته البيضاء قبل الصلاة.

سرعان ما تبع تلك الصحوة الدينية صحوة سياسية. ففي عام 1982، وهو العام الذي ولد فيه أحمد الشرع، اندلعت انتفاضة ضخمة ضد حافظ الأسد، قادها إسلاميون سُنَّة ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين. وقد أدّى قمع النظام لتلك الانتفاضة إلى مقتل الآلاف في مدينة حماه وحدها (…). كان المحققون في أجهزة الاستخبارات يسألون المشتبه به: “هل تصلي؟” حتى قبل أن يسألوه عن اسمه.

وبحلول مطلع القرن الحادي والعشرين، كان هناك شعورٌ عميقٌ بالاستياء بين شريحة كبيرة من السوريين خصوصاً من الطائفة السُنية (…). في الوقت نفسه، كانت الصحوة الإسلامية السُنّية تجتاح العالم العربي، حيث بدت القومية العربية التي ألهمت جيل الأب حسين جوفاء على نحو متزايد. وعندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية ضد إسرائيل في العام 2000، كان الدور الذي لعبته الجماعات العلمانية ثانوياً مقارنة بالدور الذي لعبته الجماعات الإسلامية المسلحة، مثل حركة حماس.

كان نظام بشار الأسد يُدرك جيداً أن المساجد السُنّية في سوريا قد تتحول أرضاً خصبة للانشقاقات والخلافات، وتصبح حاضنة للمعارضة. فسعى إلى إحكام قبضته عليها. كانت المخابرات تتجسس على أئمة المساجد وتراقب كل شاردة وواردة تحصل داخلها وتُسجل كل كلمة وتتعقب كل من يدخلها، لدرجة أن دوائر تدريس القرآن كانت تُعرف باسم “مراكز الأسد”.

أراد بشار الأسد أن يثير إعجاب شعبه وخوفه في الوقت نفسه. في العام 2001، وعلى أمل تلميع صورته كـ”بطل عربي”، وجه دعوة إلى خالد مشعل، الزعيم السياسي لـ”حماس”، وأقنعه باللجوء إلى دمشق. استقر مشعل على مقربة من منزل الشرع. وخلال صلاة الجمعة في مسجده المحلي سُمح لزعيم “حماس” بالوقوف خلف الإمام مباشرة، بينما احتل أتباعه الصف الأمامي.

كما تسنى لمشعل أن يلقي عدَّة محاضرات حماسية حول الانتفاضة الفلسطينية في العديد من المساجد والفصول الدراسية في دمشق، حضر الشرع بعضها. وقد ازدادت سخونة الجو في مسجد الشرع بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر. فوفقاً لزملائه من المصلين، كان الشرع مفتوناً بفكرة أن رجلاً إسلامياً (أسامة بن لادن) قد أذلَّ قوة عظمى (أميركا). فبدأ الشرع يقلد بن لادن في مظهر بطله الجديد: أطلق لحيته (خفيفة في البداية)، وارتدى قبعة بيضاء وقميصاً أبيض قصيراً فوق الكاحلين.. وهو المظهر الخارجي الذي يتقيد به أتباع المذهب السلفي.

ربما كان هذا الاهتمام بالجهادية السلفية كان ليكون مجرد مغازلة قصيرة الأجل لو لم تقرر أميركا غزو العراق في العام 2003. ففي المساجد، مثل مسجد الشرع، انطلقت الدعوة التي تحثُ “المؤمنين” على الخروج ومناصرة إخوانهم المقاومين للمحتلين في العراق.

فلقد رأى الأسد في تطور الأحداث فرصة لتوجيه مشاعر السُنَّة الساخطين خارج حدود سوريا، وفي الوقت نفسه كبح جماح الاهتمام المفاجئ الذي أبدته أميركا بإعادة تشكيل الشرق الأوسط. فأوعز إلى آصف شوكت، رئيس أجهزة استخباراته وصهره، بمهمة الإشراف على خطة لنقل “الجهاديين” من سوريا  إلى العراق. في ذلك الوقت، كان الشرع يحضر دورات تدريسية خاصة في جامعة من الدرجة الثانية “الأمر الذي أثار حفيظة والده المثقف”، وفقاً لأحد معارفه القُدامى. وفي أحد الأيام اختفى الشرع. فذهب والداه يسألان عنه في جميع مكاتب أجهزة المخابرات والسجون، لكنهما لم يتوصلا إلى أي معلومة تقودهما إلى مكان وجود ولدهما. وبعد ذلك بوقت طويل، علما أنه ركب إحدى حافلات آصف شوكت (التي كانت تنقل “المجاهدين” من سوريا إلى العراق).

رحّب الرئيس العراقي السابق صدام حسين بـ”القادمين الجُدد” الذين وفدوا لمساعدته في قتال “الصليبيين الجدد”، وسار بهم في الشوارع بعد أن ألبسهم أكفاناً جنائزية بيضاء وسترات انتحارية. ولكن عندما هاجمت أميركا العراق، سقط نظام صدام من دون أي مقاومة تُذكر. ويبدو أن الشرع أصيب بالذعر نتيجة ذلك، وعاد إلى سوريا بعد فترة وجيزة.

من الخطأ أن نعتبر أن أحمد الشرع كان جهادياً متمرساً في تلك المرحلة. كان التطوع للمشاركة في صراع خارج البلاد تاريخياً من طقوس العبور إلى مرحلة الشباب الإسلامي. ويبدو أن المصلين الآخرين في المسجد كانوا يسافرون معه.

شعر حسين الشرع، الذي كان ما يزال علمانياً متشدداً، بالفزع إزاء تصرفات ابنه الغريبة، فطرده من منزل العائلة. ذهب أحمد ليعيش مع أقارب والدته في حي فقير جداً يقع في ضواحي جنوب دمشق، وكانت تسكنه عائلات نزحت من الجولان بعد الاحتلال الإسرائيلي.

وكانت أشكال الإسلام السياسي الأكثر تطرفاً بدأت تكتسب شعبية في الأماكن التي تشبه ذلك الحي. وساهم فيها عودة الشباب السوريين الذين شاركوا في القتال في صفوف الجماعات الجهادية في العراق. لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى بدأ بشار الأسد يشعر بالندم على خطته “حافلات آصف شوكت”.

في تشرين الثاني/نوفمبر 2003، ألقت المخابرات السورية القبض على أحمد الشرع وأصدقائه السلفيين، وأرسلتهم جميعهم تقريباً إلى سجن صيدنايا (…)، إلَّا الشرع الذي تمكن بطريقة أو بأخرى من تجنب ذلك المصير. وفي هذا الخصوص، يقول حسام جزماتي، الكاتب السوري الذي حرَّر كتب حسين الشرع: “أنكر أحمد علاقته بأي شيء يتعلق بالسياسة أو الجهادية.. وقد أُطلق سراحه من دون توجيه أي تهمة إليه”. واللافت للانتباه أن أحمد الشرع لطالما كان محظوظاً في النفاذ من براثن أجهزة الاستخبارات المختلفة.

يقول أصدقاء الشرع إنه كان معرضاً لخطر إعادة اعتقاله في سوريا، ولذلك عاد إلى العراق. كانت المقاومة ضد الاحتلال الأميركي لا تزال في مهدها، لكن مدينة الموصل كانت قد أصبحت بالفعل موطناً لعدة مجموعات جهادية. انضم الشرع إلى واحدة منها. اكتسب سُمعة جيدة كصانع قنابل موهوب. صمَّم شحنات متفجرة مبطنة بالنحاس قادرة على اختراق دروع الدبابات. كما أتقن اللهجة العراقية، التي يجدها الكثير من العرب صعبة للغاية. ويُقال إنه كان يغير اسمه في كل مرة يدخل فيها محافظة عراقية جديدة، حتى استقر على اسم أبو محمد الجولاني.

بعد فترة وجيزة، قرّرت الجماعة التي كان ينتمي إليها الشرع في الموصل الانضمام إلى أقوى قوة جهادية مسلحة في المنطقة: “تنظيم القاعدة”. وكان زعيم “تنظيم القاعدة في العراق” أبو مصعب الزرقاوي، وهو أردني من أصل فلسطيني، يعتقد أن الطريق إلى طرد المحتل الأميركي تمر عبر إثارة حرب أهلية وجعل العراق غير قابل للحكم. فأمر أتباعه بتصعيد أعمال العنف وشهدنا عمليات قطع رؤوس عمال الإغاثة، ونسف أضرحة الشيعة وتفجير أسواقهم ومساجدهم وحسينياتهم في مختلف المناطق العراقية، خصوصاً في وسط وجنوب البلاد، ما أسفر عن مقتل مئات الآلاف منهم (…).. وبحلول نهاية العام 2004 أصبح أحمد الشرع نائباً للزرقاوي.

في العام 2006، ألقت القوات الأميركية القبض على الشرع أثناء زرعه متفجرات على طريق خارج الموصل. وفي إنجاز مذهل آخر في الإقناع، نجح الشرع- وبفضل اتقانه للهجة التي يتحدث بها أبناء الموصل – في إقناع الأميركيين (وأيضاً سجانيه العراقيين) بأنه من السكان المحليين. وقد أحدث هذا فارقاً كبيراً في طريقة معاملة هؤلاء له، فقد نجا من المعسكرات التي كان الأميركيون يخصصونها للمقاتلين الأجانب، لعزلهم عن باقي “الجهاديين”.

كان الشرع يُعامل من قبل الأميركيين باعتباره جزءاً من المقاومة المحلية، وكان محتجزاً إلى جانب العراقيين.. احتجز في سجن أبو غريب لفترة من الوقت (…)، وفي مرحلة أخرى كان في معسكر “بوكا” الذي يديره الجيش الأميركي وكان يضم العديد من الرجال الذين سيصبحون لاعبين رئيسيين في “المشهد الجهادي”، بما في ذلك أبو بكر البغدادي، رئيس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق.

في بداية عام 2011 كانت أميركا تتطلع إلى تقليص وجودها في العراق، فأطلقت سراح عدد كبير من “الجهاديين” من سجونها هناك، بينهم الشرع. وبدأ المدانون السابقون في تحويل “تنظيم القاعدة” إلى جماعة جديدة، وأطلقوا عليها اسم “الدولة الإسلامية في العراق” (داعش). ولكن ما لم يكن أحد يعرفه هو أن البلد المجاور (سوريا) كان على وشك الانفجار.

في شباط/فبراير 2011، وفي أوج انتفاضات “الربيع العربي”، كان المتظاهرون المؤيدون للديموقراطية قد أطاحوا للتو بالأنظمة في مصر وتونس. وكان كثيرون يعتقدون أن هذا لا يمكن أن يحدث في بلد مثل سوريا (…). لكن مجموعة من تلاميذ مدارس درعا تجرأوا، وكتبوا على أحد الجدران: “الدور عليك يا دكتور” (يقصدون الرئيس بشار الأسد). كانت تلك الكلمات كفيلة لتغيير مجرى التاريخ. فبعدما اعتقلت أجهزة الأمن التلامذة الأطفال وعذبتهم، اندلعت انتفاضة شعبية في درعا.

كان الشرع يخشى أن يفوته شيء مما يحصل في بلده. في البداية (2011)، قاد الثورة كُتَّابٌ وسياسيون وناشطون، وكثير منهم علمانيون. وكان الشرع مصمماً على أن يكون أول جهادي يستحوذ على الأجندة. فقام بصياغة اقتراح من ثلاثين صفحة لإنشاء فرع لـ”الدولة الإسلامية في العراق” في سوريا، تحت مُسمى “جبهة النصرة”، وأرسله إلى البغدادي عبر وسطاء. وعندما التقى الاثنان أخيراً، أقنع الشرع البغدادي بأن أولويته يجب أن تكون بلاد الشام (…).

في صيف العام 2011، انطلق الشرع مع مجموعة صغيرة مؤلفة من ستة رجال، كلهم ​​يحملون بطاقات هوية مزورة ويرتدون أحزمة ناسفة (لإستخدامها في حالة القبض عليهم). كان البغدادي قد زوَّد مجموعة الشرع “الاستطلاعية” مبلغاً قدره 50 ألف دولار لتغطية النفقات لمدة ستة أشهر، وهو ما يعادل نصف ميزانيته السنوية تقريباً. قادوا سيارتهم عبر نهر الفرات إلى منطقة “الشُحيل”، وهي قرية تقع في شرق سوريا كانت تشكل ملاذاً للإسلاميين المتشددين ولرجال القبائل الفارين من نظام الأسد (…).

وعلى مدى الأشهر التالية، جال الشرع في مدن سورية عدَّة لتعليم أتباعه كيفية تصنيع وتجميع واستخدام القنابل. تم تنفيذ العملية الأولى في 23 كانون الأول/ديسمبر 2011، عندما فجّرت امرأتان سيارتيهما المفخختين أمام مبانٍ حكومية في وسط دمشق. وبعد بضعة أسابيع فجر انتحاريان آخران نفسيهما؛ أحدهما في وسط العاصمة والآخر في حلب. كانت تلك التفجيرات تتسبب في مقتل المئات. وفي 23 كانون الثاني/يناير 2012، نشر أحد أفراد جبهة النصرة مقطع فيديو على منتدى جهادي يعلن فيه عن وجود الجماعة، ويُحدّد هوية زعيمها (مستخدماً لقب الشرع في ذلك الوقت: الجولاني) ويعلن مسؤوليته عن الهجمات. كما ظهر في الفيديو أحد الانتحاريين وهو يتلو رسالته الأخيرة قبل تنفيذه العملية، قائلاً: “الجهاد الآن في بلادكم”.

– ترجمة بتصرف عن مجلة “إيكونوميست“.

(*) بحسب مصادر، غادر حسين الشرع سوريا إلى الأردن عبر البرّ، في خريف عام 1963، آملاً في الذهاب إلى القاهرة للتعلم في جامعتها. لكن رسول الكيلاني منعه وخيّره بين بغداد أو العودة إلى دمشق. فآثر بغداد، وتخرج من كلية الاقتصاد في جامعتها في عام 1968، ثم نال درجة “الماجستير” منها في اقتصاد النفط في عام 1969. ولم ينتم لا لحزب البعث العراقي ولا السوري.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": أوكرانيا "حبة دواء سامة" لرئيس روسيا!