إختار حزب الله توقيتاً سياسياً ذكياً لجمع فرنجية وباسيل على مأدبة إفطار رمضانية في الضاحية الجنوبية. مهّد السيد نصرالله لـ”الجَمعَة” بجلستين مباشرتين مع رئيسي التيار الوطني الحر وتيار المردة في شهر آذار/مارس الماضي. توجه بالسؤال إلى باسيل عما إذا كان يمانع اللقاء مع فرنجية فجاء الجواب إيجابياً. تكرر السؤال قبل نحو ثلاثة أسابيع على مسمع من فرنجية، فكان جوابه “لا مانع” و”بتمون” و”إنت الضمانة يا سيد”.
عملياً قال الرجلان لنصرالله “أنت الضامن”. كان حزب الله يُحبذ عقد مثل هذا اللقاء قبيل موسم الترشيحات النيابية وأن يخوض فريقه السياسي إنتخابات العام 2022 موحداً في كل الدوائر وبتناغم بين ناخبي الداخل والخارج (لم يكن يحبذ أبداً فكرة الدائرة الـ 16 الإغترابية)، لكن حجم التباينات بين الحلفاء بدا كبيراً جداً، ولا سيما بين عون وبري. الأول يواصل حربه السياسية ضد الثاني، ولم يتردد في القول قبل عشرة أيام أمام وفد زاره في بعبدا “بري أكبر حرامي بالبلد.. وبدي حطو بالحبس”. لم تمضِ دقائق حتى كان هذا الكلام قد بلغ عين التينة!
بالمقابل، يبدو بري حاسماً بعدم التساهل مع عون ووريثه باسيل في آخر أيام “عهدهما”. لولا حزب الله، لما ترددت أمل بالتحالف مع الشيطان في مواجهة التيار الحر، غير أن الضرورات تبيح المحظورات، وهذا هو واقعهما في الدائرة الوحيدة التي ستجمعهما في البقاع الغربي، وإن كان متوقعاً أن تسعى أمل إلى منح أصوات تفضيلية للمرشح الأرثوذكسي إيلي الفرزلي، فيما يُنتظر أن يصب حزب الله أصواته لمصلحة مرشح التيار الحر الماروني في الدائرة نفسها (عذراً.. لا أعرف إسمه ولا أريد إزعاج غوغل).
يفلش لقاء الضاحية الثلاثي أطراف السجادة الرئاسية الحمراء أمام الزعيم الزغرتاوي، لكن رحلته إلى بعبدا لها متمماتها. من موسكو التي يزورها قريباً إلى واشنطن التي لم تنقطع خطوطه معها إلى دول الخليج التي تكن له إحتراما وودا كبيرين، ناهيك بسوريا التي له فيها مكانة مميزة وإيران التي لم يتردد فرنجية برفض أخذ أي فلس من فلوسها
لا يقتصر أمر المواجهة على خط الإنتخابات. لو دققنا في مآلات العديد من الملفات حكومياً ونيابياً نجد أن أمر البت بها صار أسير الإشتباك السياسي المفتوح بين بعبدا وعين التينة، حتى أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، عندما كان يفكر قبل أقل من شهر بإشهار سلاح الإستقالة، أراد أن يترك تلك الورقة بيده للضغط فيها على فريقين حوّلا حكومته كيس رمل مثقوب، فتصيبه وتصيبها اللكمات.. وتكون النتيجة كدمات تلو كدمات، فلا يبصر الكابيتال كونترول النور ولا موازنة 2022 ولا تنفرج أمور الكهرباء، إلى درجة الترحم على زمن حكومة حسان دياب لولا أن صندوق النقد أنقذ ماء وجه الحكومة بمسودة إتفاق لا تختلف حرفاً واحداً عن تلك التي أقرت قبل سنتين ورفضها الجميع، قبل أن يبصموا عليها اليوم، بفارق تضييع الوقت وتبديد الودائع والإحتياطي الإلزامي وإرتفاع سعر الدولار (سبعة أضعاف) وإزدياد حجم الخسائر (من 69 إلى 72 مليار)!
لكن قبل أن نتوه أكثر في مسارب الإشتباك السياسي بين بعبدا وعين التينة، لنتوقف عند ما توافر من معطيات عن لقاء الضاحية الجنوبية ليل الجمعة في الثامن من نيسان/أبريل 2022.
جاء توقيت اللقاء الثلاثي بين نصرالله وفرنجية وباسيل غداة إنتهاء إقفال باب اللوائح الإنتخابية، وطالما أن الإنتخابات “صارت وراءنا” لا بأس من محاولة إستعراض المشهد الإنتخابي من زاوية قدرة فريق 8 آذار على حصد أغلبية نيابية قد تتجاوز السبعين مقعداً من عكار إلى الجنوب مروراً بالجبل وبيروت والبقاع. إنبرى سؤال رئيسي يتصل بالشريك السني في البرلمان المقبل. على مدى 17 سنة (وقبلها من 1996 حتى 2005)، كان تيار المستقبل هو الشريك الأول، برغم الخلافات المحمومة، لكن “مع مين بدنا نحكي تاني يوم الإنتخابات”؟
ثمة تهيب واضح إزاء قرار الحريري بتعليق عمله السياسي وبالتالي ترك “آخر المستقبليين” أسرى حسابات ضائعة ومتناقضة في معظم الدوائر. لكن السؤال يصبح أكثر إلحاحاً في ضوء القرار السعودي بالعودة إلى لبنان، وذلك على مسافة شهر من موعد الإنتخابات.
صحيح أن لا عودة سعودية حتى الآن عن قرار إقفال بيت سعد الحريري السياسي، لكن “كيف ستتصرف المملكة في الإنتخابات؟ وهل سيبادر السعودي إلى التحريض وهل سيدعم اللوائح المتطرفة في الساحتين السنية والمسيحية، سياسياً ومالياً”؟ بدا جواب الحاضرين على هذه الأسئلة وغيرها أكثر ميلاً إلى السلبية، وهو أمر سيتم تظهيره في خطابات السيد نصرالله التي ستتكثف قبيل الإنتخابات من أجل شد عصب جمهوره “في مواجهة التدخل السعودي السافر”.
أولوية حزب الله في الدوائر المختلطة ثابتة. تجيير الفائض الإنتخابي لمصلحة اللوائح البرتقالية (البقاع الشمالي وزحلة والبقاع الغربي وبعبدا وبيروت الثانية وبيروت الأولى وجبيل والشوف وحيثما توفر صوت شيعي أو في خانة “السرايا”). لا يحجب ذلك أولوية أساسية. عنوانها رفع نسبة المشاركة، برغم إدراك “الثنائي” مسبقاً أنه مهما بلغ تكبير حجم خطر عدم التصويت، فإن المشاركة الشيعية “ستكون أقل من العام 2018، بسبب المناخ الشعبي الذي يُحمّل أركان الطبقة السياسية جميعاً مسؤولية الإنهيار الإقتصادي والمالي والإجتماعي المتمادي”، يقول أحد الخبراء الإنتخابيين.
يشي ذلك أن تسويق باسيل رئاسياً يحتاج إلى سنوات ضوئية وقنابل نووية تفضي إلى أن يكون هو الناخب والمرشح الرئاسي الوحيد: كيم جونغ إيل لبنان
بالمناسبة، كان اللقاء الثلاثي فرصة لإستعراض كل المسار الذي أعقب لحظة 17 تشرين الاول/أكتوبر 2019 وصولاً الى يومنا هذا. الإخفاقات ومن يتحمل مسؤولياتها و”الإنجازات” وتكاد تكون معدومة. نعم، “كانت الجلسة الثلاثية صريحة وبناءة وودية”، بدليل إستعداد القياديين الحاضرين لإجراء مراجعة مشتركة هي الأولى من نوعها وقد شملت العديد من المحطات وصولاً إلى تجربة حكومة ميقاتي “المحبطة للآمال حتى الآن”!
إختصر أحد المشاركين المناقشات بالقول إنها كانت تأسيسية بكل معنى الكلمة، وللجلسة ما بعدها، ثنائياً وثلاثياً، ولا سيما على خط بنشعي ـ ميرنا الشالوحي. صحيح أنه لم يتم التطرق إلى الإستحقاق الرئاسي، على قاعدة أن “السيد” لا يريد أن “يحشر” أحداً منذ الآن بإلتزام ما تجاه الآخر، لكن ثمة معطيات لا يمكن القفز فوقها. أمامنا ثلاثة مرشحين لرئاسة الجمهورية. أولهم، قائد الجيش العماد جوزيف عون وتبدو حظوظه من دون إتفاق نووي صفرية، مع تآكل متدرج لرصيده عند حزب الله من جهة وإرتفاع قياسي عند الأميركيين من جهة ثانية. ثانيهم، جبران باسيل المحاصر دولياً وعربياً. خصوماته اللبنانية مُشرعة في كل البيئات، ولولا حنكة حزب الله (وليس حاجته) لكان مصير “تفاهم مار مخايل” كمصير علاقات جبران باسيل مع كل لبنان (بإستثناء طلال أرسلان). يشي ذلك أن تسويق باسيل رئاسياً يحتاج إلى سنوات ضوئية وقنابل نووية تفضي إلى أن يكون هو الناخب والمرشح الرئاسي الوحيد: كيم جونغ إيل لبنان.
بالمقابل، تبدو خطوط سليمان فرنجية مفتوحة في كل الإتجاهات، داخلياً وخارجياً. يأخذ ويعطي مع الجميع إلا مع جبران باسيل وسمير جعجع.
بهذا المعنى، يفلش لقاء الضاحية الثلاثي أطراف السجادة الرئاسية الحمراء أمام الزعيم الزغرتاوي، لكن رحلته إلى بعبدا لها متمماتها. من موسكو التي يزورها قريباً إلى واشنطن التي لم تنقطع خطوطه معها إلى دول الخليج التي تكن له إحتراما وودا كبيرين، ناهيك بسوريا التي له فيها مكانة مميزة وإيران التي لم يتردد فرنجية برفض أخذ أي فلس من فلوسها لأن قناعته بالعلاقة معها راسخة ولا تتبدل بأي حال من الأحوال.
غير أن الإستحقاق الرئاسي ليس ترفاً محلياً وحسب. لذلك، إنبرى السؤال الموجه من كل من فرنجية وباسيل إلى نصرالله: ماذا عن الإتفاق النووي؟
عندما إستقبل السيد نصرالله وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان، قبل أكثر من أسبوعين، فهم منه أن مفاوضات فيينا كانت قد بلغت مرحلتها النهائية وبقيت هناك نقطة وحيدة عالقة بين طهران وواشنطن تتصل برفع العقوبات الأميركية عن الحرس الثوري، بوصفه جزءاً لا يتجزأ من التشكيلات النظامية الإيرانية. هذا الطلب لم يأت من خارج سياق المطالب الإيرانية، لكن الأميركيين تسللوا من خرمه لتجديد مطلبهم الدائم: الذهاب إلى مفاوضات أميركية ـ إيرانية مباشرة وليس بالواسطة عبر الأوروبيين. قال المبعوث الأميركي روبرت مالي في رسالته إلى الإيرانيين إن ما ستأخذونه من واشنطن بالتفاوض المباشر يفوق بأضعاف ما يمكن أخذه عبر الوسطاء الأوروبيين. لم يكتف الأميركيون بمحاولة إزاحة باقي الوسطاء بل قدموا ما يشبه “مضبطة الإتهام” بحق هؤلاء وما أسموه “دورهم السلبي في العديد من المحطات التفاوضية”، فضلاً عن الشكوى “من قلة كفاءة تعاملهم مع الملف النووي، دبلوماسياً وتقنياً”.
كان اللافت للإنتباه (وهذه المعلومة من خارج سياق اللقاء الثلاثي) أن الإيرانيين تركوا الأبواب مفتوحة على قاعدة أن يبادر الأميركي إلى تقديم ما يكفل إغراء طهران مسبقاً وعندها تصبح أبواب التفاوض مفتوحة، وفي ذلك إشارة إلى المطلب المتصل بالحرس الثوري.
حتى الآن، يستمر الأخذ والرد، وقد حاول الأميركيون خلال الأيام الماضية تجزئة ملف الحرس الثوري، عبر عدم شطب “قوة القدس” أو “فيلق القدس” في الحرس الثوري، من قائمة المنظمات الإرهابية، علما ً أن جهاز “قوة القدس” يشرف على أذرعة طهران الإقليمية وله رموزه ومؤسساته الإقتصادية، فضلاً عن إمساكه بمفاصل القرار التنفيذي والتشريعي والدبلوماسي في إيران.
منذ حوالي الأسبوعين تراوح المفاوضات النووية مكانها. هبة باردة وهبة ساخنة. يحتاج الأمر إلى جرأة من الطرفين. طهران تقول إنها من “المرشد” (الخامنئي) حتى آخر موظف في الدولة الإيرانية تريد إتفاقاً نووياً ولا تريد أن تضع سيناريو ما بعد عدم الإتفاق على الطاولة حتى الآن. الأميركيون يعطون كل الإشارات بالإصرار على الإتفاق.
قال المبعوث الأميركي روبرت مالي في رسالته إلى الإيرانيين إن ما ستأخذونه من واشنطن بالتفاوض المباشر يفوق بأضعاف ما يمكن أخذه عبر الوسطاء الأوروبيين
وماذا عن الإصطفافات الجارية في الإقليم؟
بعكس السائد، لم يتردد عدد من الأطراف الذين شاركوا في القمم الإقليمية في توجيه رسائل إيجابية إلى الإيرانيين، ولا سيما دولة الإمارات العربية المتحدة. رسائل توّجها الإتصال الذي جرى، أمس الأول (الجمعة) بين عبدااللهيان ونظيره الإماراتي عبدالله بن زايد. قالت أبو ظبي لطهران إنها لن تكون منصة أمنية أو عسكرية لإستهداف أمن دول الجوار ولا سيما إيران. هذه الرسالة أعقبت القصف الحوثي للعاصمة أبو ظبي. القصف الذي طال أرامكو مجدداً وقبله أربيل تضمن أيضاً “رسائل نارية إيرانية مدروسة”، إسمها “الصواريخ الدقيقة”. كان وقع هذه الرسائل مدوياً جداً في تل أبيب، وهو أمرُ يطرح سؤال الأهداف الحقيقية (وليس الوهمية) التي إنطلقت الصواريخ بإتجاهها. زدْ على ذلك رمضان الدموي في شوارع تل أبيب والخضيرة وبئر السبع وربما الآتي يكون أكثر دموية. هذا المناخ تُرجم أيضاً يمنياً من السعودية بتشكيل مجلس رئاسي من جهة وبإبداء طهران للمرة الأولى إستعدادها للبحث بالملف اليمني في الجولة الخامسة المقررة قبل نهاية هذا الشهر مع السعوديين من جهة ثانية. يقول الإيرانيون إن ذلك لم يكن ممكناً قبل إنجاز مرحلة تطبيع العلاقات بين طهران والرياض (فتح السفارات والقنصليات والإتفاق على موسم الحج إلخ..).
على مدى أكثر من ثلاث ساعات ونصف الساعة، وتحديداً قبل وقت قصير من الإفطار وخلاله وبعده، جال المشاركون الستة (نصرالله وباسيل وفرنجية والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل ورئيس وحدة الإرتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا والوزير السابق يوسف فنيانوس) في العديد من عواصم المنطقة. أخذهم السيد نصرالله إلى حيث يُحب أن يكون في الإقليم دائماً وهم أعادوه إلى حيث يعتبرون “نهاية الكون وبدايته”.. أي في “جلالي” البترون وبنشعي الرئاسية.. للبحث صلة.