أوروبا في العراء.. ما هو بديلها للحماية الأمريكية؟

نُخطئ إذا أصرّينا على القول بوجود فرق جوهري بين سياسة دونالد ترامب وأهدافه وبين تلك التي تبنّاها وسعى إليها من سبقوه من رؤساء، وبالأخصّ منهم باراك أوباما أو جو بايدن. الفرق هو في الأساليب والوسائل التي يتبعها ترامب لتحقيق أهداف تسعى إليها أمريكا.

التنافس المحموم بين أوروبّا وأمريكا ليس جديداً. عُمرهُ من عمر إنشاء الولايات المتّحدة، لكن عالم ما بعد الثورة البلشفيّة (1917) جعل الأمريكيّين والأوروبيّين (الغربيّين أوّلاً والشرقيّين بعد انهيار الإتّحاد السوفياتي) يتجاوزون خلافاتهم أو يضعونها قيد السيطرة. التغييرات التي حصلت في ربع القرن الأخير والتي تعكس تحوّلات جوهريّة في السياسة العالميّة أعادت ذلك العداء إلى العلن.

***

ليس خافياً أنّ ما يجمع الدول الأوروبيّة بأمريكا هو أعمق من تبادل تجاري ومعاهدات دفاع مشترك وبعض المصالح من هنا أو من هناك. مقابل ذلك، ثمة كره متبادل متأصّل في عقليّة المجتمعين الأوروبّي والأمريكي لا يجب الإستهانة به (الأمر نفسه ينطبق على العلاقات بين الدول الأوروبيّة نفسها). هذا المناخ أفضى في الكثير من الأحيان إلى تقاتل وخصومات دمويّة (لا يجب أن ننسى أنّ الحرب العالميّة الأولى كانت حرباً أوروبيّة بامتياز، وأيضاً وبدرجة كبيرة الحرب العالميّة الثانيّة).

أقول ذلك لأنّ كثيرين، في غياب القراءة السليمة للتاريخ، يعتقدون أنّه يُمكن فهم مستقبل علاقة أمريكا بأوروبّا وفقاً لتجربة العقود الماضية. هنا، أستحضر المثل العربي المعروف: “أعداء الأمس.. أصدقاء اليوم”. ويمكن أن نستنسخ منه: “أصدقاء اليوم.. أعداء الغد”.

مشكلة ترامب وأمريكا عامّةً ليست مع أوروبّا كمجموعة دول متفرّقة. المشكلة هي مع الإتّحاد الأوروبّي كمنافس محتمل للهيمنة الأمريكيّة. الشيء نفسه ينطبق على أيّ دولة أوروبيّة يُمكن أن تُطوّر إقتصادها وقوتّها العسكريّة لتصبح منافسة جديّة لأمريكا). لذلك، ما تقوم به الولايات المتّحدة الآن هو محاولة يائسة لتدمير الإتّحاد الأوروبي، وإعادة أوروبّا إلى زمن ما قبل الوحدة طالما أن ذلك يفيد الإستراتيجيّة الأمريكيّة، حسب صُنّاع القرار في واشنطن.

الطاقة لعبت دوراً جوهريّا في إخضاع إلمانيا النازيّة وهزيمتها، ذلك أن عدم قدرتها على توفير مصادر كافية من الطاقة أجبرها على التقنين في المصانع وحتّى في حركة آلتها الحربيّة، وخصوصاً مصانع انتاج الطائرات للدفاع عن أجواء ألمانيا، فسيطر الطيران الأمريكي على سماء ألمانيا وأمطر مدنها ومصانعها تدميراً وحرقاً

كيف لأمريكا أن تنجح في مخطّطها هذا؟

الجواب بسيط: أدخلت أمريكا جارتها أوروبّا في حرب مع روسيا ستقود إلى إفلاس الدول الأوروبية تمهيداً لافلاس الإتّحاد الأوروبّي. الحرب مع روسيا ليست فقط معارك عسكريّة، بل حرب إقتصادية بكل معنى الكلمة. العقوبات الأوروبيّة على روسيا تُضرّ بالأوروبيّين أكثر ممّا تُضرّ بروسيا نفسها، خصوصاً في موضوع الغاز الروسي الذي كان يُؤمن الدفء للأوروبيّين ويُشغّل مصانعهم بأسعار رخيصة، وهم الآن يدفعون أضعاف ذلك لأنّهم باتوا مجبرين على استيراد معظم حاجاتهم من الغاز من أمريكا. وبتدمير الإتّحاد الأوروبّي، تصبح الدول الأوروبية محكومة بالعودة إلى بيت الطاعة الأمريكي!

أُكرّر؛ مشكلة أمريكا ليست مع دول أوروبّا بالمفرق، بل مع تعاظم قوّة ونفوذ الإتّحاد الأوروبّي، ومن الطبيعي أن يحلم الأوروبيّون بجعل اتحادهم قطباً سياسياً واقتصادياً يجلس في مقاعد “الكبار” ممن يريدون إحكام سيطرتهم على العالم.

من جهة، يتبدى لنا أن خوف أمريكا من الإتّحاد الأوروبّي مرتبطٌ بصراعها المرشح للاحتدام مع الصين. فكما أنّ دول أوروبّا العظمى (فرنسا وبريطانيا وألمانيا تحديداً) خاضت حربين عالميّتين كإمبراطوريّات يخشاها العالم، وخرجت منها ممزّقة، مفلسة، وبحاجة للحماية (وهو ما فتح لأمريكا فرصة التربّع على عرش الغرب بلا منازع)، يُمكن للأمر نفسه أن يتكرّر في صراع أمريكا مع الصين، فيقودها إلى وضع مماثل تنعكس فيه الأدوار، فتصبح أمريكا بحاجة إلى أوروبّا لتحميها!

هنا، علينا العودة إلى حملة إنفصال بريطانيا عن الإتّحاد الأوروبّي (البريكست). لم يكن البريكست حدثاً بريئاً، خصوصاً أنّ الطبقة السياسيّة الوازنة في بريطانيا اقتنعت أنّ أمريكا ستكون ضمانة إقتصاديّة وسياسيّة بديلة عن ضمانة وحدة أوروبّا. هم الآن يكتشفون أنّ ذلك كان مجرد سراب خادع، وأنّ تشجيع أمريكا للبريطانيّين على الخروج من الإتّحاد الأوروبّي كان هدفه دقّ المسمار الأوّل في نعش الوحدة الأوروبية. ومع التكاليف الباهظة لحرب أوروبّا ضدّ روسيا في أوكرانيا، وتلك التي ستتكلّفها الدول الأوروبيّة من أجل إعادة تسليح نفسها مستقبلاً، سيجد الإتّحاد الأوروبّي صناديقه المالية وقد تبخرت.. ولات ساعة مندم!

هنا أيضاً علينا أن نبحث في سبب تغيّير أمريكا استراتيجيّتها حيال أوكرانيا وصولاً إلى مغازلة روسيا. هل لأنّ دور أوكرانيا انتهى في إضعاف الروس والإتّحاد الأوروبّي معاً، وهل حان وقت الدخول في المرحلة التالية؟ وهل لذلك علاقة بالصراع مع الصين؟ وهل هي محاولة لابعاد روسيا عن الصين، ولماذا؟

العامل الأبرز الذي يُمكن أن يُؤذي الصين في هذه المرحلة هو الطاقة. لا يُمكن إخضاع الصين إلاّ من خلاله.. والوقت ليس في مصلحة أمريكا، لأنّ الصين واعية لهذا الضعف وتسعى للتقليل من تداعياته (أقلّه في المديين المتوسّط والبعيد).

إقرأ على موقع 180  "فورين بوليسي": إيران ستنال سلاحها النووي.. ماذا سيحدث؟

من سيؤمّن للصين مصادر طاقوية في المدى المنظور؟ الجواب: روسيا. ففي أغلبية القطاعات يُمكن للصين أن تنغلق على نفسها وتعتمد على إقتصادها ومواردها، ولكن لا يسري ذلك على الطاقة.

ولو قارنا مع دول أخرى لوجدنا أن الطاقة لعبت دوراً جوهريّا في إخضاع إلمانيا النازيّة وهزيمتها، ذلك أن عدم قدرتها على توفير مصادر كافية من الطاقة أجبرها على التقنين في المصانع وحتّى في حركة آلتها الحربيّة، وخصوصاً مصانع انتاج الطائرات للدفاع عن أجواء ألمانيا، فسيطر الطيران الأمريكي على سماء ألمانيا وأمطر مدنها ومصانعها تدميراً وحرقاً. أنا لا أقول أنّ هدف أمريكا ضرب الصين بطائرات الـ إف 16 والـ إف 35. لكن يمكنها أن تُخضع الصين لحصار يحرمها من الموارد الطاقوية، ولا يمكن لهكذا حصار أن ينجح إذا لم تتوقف روسيا عن توريد غازها للصين.

ولا يجب أن ننسى أنّ السياسة، قبل كلّ شيء، وبعد كلّ شيء، ليست أخلاقاً ومبادئ. السياسة هي وسيلة قذرة، تبيح كل شيء من أجل الوصول إلى المبتغى.

***

في الخلاصة، ما يحدث ليس مجرد صدفة أو حالة إنفعال أو ردّة فعل. ما يحصل هو تغيير في قواعد اللعبة تفترض أمريكا أنه سيجعل النتيجة لصالحها: نهاية الإتّحاد الأوروبّي وإعادة دوله إلى بيت الطاعة الأمريكي من دون قدرة على المناورة أو المناكفة أو حتى الاحتجاج!

هذا من دون شكّ نوع من “لعب القمار” ومغامرة لا تُحمد عقباها. ومن المحتمل أن تؤدّي إلى خسارة أمريكا لـ”حلفاء” و”أصدقاء” تطلّبت إستمالتهم عقوداً طويلة من الجهد والرشوة والخداع والتهديد. لكن “العمّ سام” كان وما يزال مولعاً بلعبة “البوكر” والجائزة الكبرى (الصين) يسيل لها لعابه.. وتستحق مجازفة بكامل رصيده.

لنشدّ الأحزمة فما سنشاهده قريباً سيُفاجئنا ويرعبنا، المسلسل الأمريكي طويل لا بل ربما طويل جداً..

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  الرصاص الطائش زينة الرجال.. الأغبياء!