الإصلاح بالعمل والإنتاج.. والأمن سياسيٌ واجتماعيٌ

يكثر أهل السلطة الجديدة في لبنان من الحديث عن الإصلاح، والحقيقة أنه ما حلّ عهد جديد، رئاسي أو وزاري، في لبنان إلا وكانت الأولوية في خطابه للإصلاح. نادراً ما عرض القادمون الجدد برنامجاً للإصلاح، عدا الرئيس الشهيد رفيق الحريري في حكومته الأولى. لكن أهم ما عنده أنه كان يعتبر الإصلاح ليس إعادة ترتيب هيكلية السلطة وكوادرها وحسب، ولا محاربة الفساد وحسب، بل هو أساساً في الشغل والإنتاج.

إن هياكل ومؤسسات نظام الحكم يمكن إصلاحها بكتابة القوانين، ونادراً ما صدر قانون فاسد؛ الأهم هم الكوادر التي تعمل وتنتج في الدولة وخارحها، وهؤلاء أول ما يحتاجون إليه المعرفة والخبرة والاستقامة التي إذا اعوجّت، أصيب أصحابها بالفساد.

لا نسمع الكثير عما تنوي السلطة مثلاً فعله بشأن الكهرباء والماء على أهمية هذين القطاعين في حياة اللبنانيين، وكل مجتمع آخر. نسمع عن زيادة التيار الكهربائي زيادة ملحوظة خلال الأشهر القادمة، بينما يكون الحل الجذري في زيادة إنتاج الطاقة في معملي الزهراني ودير عمار، علماً بأن مضاعفة الإنتاج فيهما (900 ميغاوات) لا يتطلّب سوى بضعة أشهر. فكلا المعملين مصممين أساساً للتوسعة المضاعفة، ولا يتطلّب الأمر استملاكات أرض إضافية. أما مياه الشفة، فقد أنفقت الدولة ملايين الدولارات لتركيب شبكات جديدة بعد الحرب الأهلية، بينما لا نزال في كل بناية في بيروت، مثلاً، وخارجها نشتري الماء الذي تجلبه إلينا الصهاريج المملوكة من شركات خاصة.

السؤال الذي يُطرح هنا هو هل للمسألة علاقة بجماعات (أو ما يسمى مافيات) مولدات الأحياء وصهاريج المياه التي تمنع تسليم قطاع الكهرباء أو الماء للدولة؟ غريبٌ أننا نُصّرُ على نزع سلاح حزب الله وتسليمه للدولة، وهذا حق، ولا نُصّرُ على نزع الكهرباء والماء من أيدي جماعات المصالح الخاصة وتسليمها للدولة.

يقول فقهاء السياسة في لبنان إن للدولة وحدها حق أخذ قرار الحرب والسلم، والسلاح ومتعلقاته، فهل يكون للدولة وحدها حق استرداد المرافق العامة التي يفرض القانون أن تكون حكراً للدولة دون غيرها؟

ليس المراد المشاغبة على الدولة بخصوص واجبها في احتكار وسائل العنف، لكن عليها أيضاً واجب ممارسة واجباتها في خدمة المجتمع. ولا نبالغ إن قلنا إن عجز الدولة في مسألة السلاح ينسحب على قطاعات الخدمات المختلفة، وهذه ربما كانت أكثر حيوية في إعادة تشكيل المجتمع وتنظيمه على أسس سليمة. ليس الأمن السياسي أقل أو أكثر أهمية من الأمن الاجتماعي. فالدولة كلٌّ عضوي، إذا أراد القيمون عليها أن تكون الإطار الذي ينتظم فيه المجتمع.

للسياسة مضمون هو الاقتصاد. ولذلك سمي الاقتصاد السياسي. ويعتبر انفصال كل منهما في دائرة منعزلة ليس إلا ابتذالاً. لا سياسة دون اقتصاد، ولا اقتصاد حقيقياً دون سياسة، ولا نهوض حقيقياً دون إنتاج، وإصلاح القوانين أو ما يسمى الإصلاح السياسي يتبع ذلك. أما الانتقائية في استرداد الدولة لمرفق عام دون آخر فينم عن عجزها أمام الدولة الموازية، وعن عجز الاقتصاد الشرعي أمام الاقتصاد الموازي

أما الأمن المالي، فهناك مسألة الودائع التي صادرتها المصارف بحجة أنها دائنة للدولة. في العمق ليست المصارف ضحية السياسة أو فريسة الدولة، بل المسألة الحقيقية هي أن المصارف والطبقة الحاكمة يشكلان نظاماً رأسمالياً واحداً، وغالباً ما يكون أهل السياسة مقربين من أصحاب المصارف، أو هم من ملاكيها أو أعضاء مجالس إدارتها. إن مصادرة الودائع التي لم نرَ التزاماً صريحاً من السلطة بردها الى أصحابها دون قيد أو شرط هو مس بأسس النظام الرأسمالي أو النظام الحر الذي يتغنى به اللبنانيون، عند المقارنة ببلدان عربية أخرى، وهو مخالفة لكل القوانين وللدستور. لكن الأمر كما قال الشاعر: “كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله”. الرأسمالية اللبنانية تزعزع الأسس التي قامت عليها. والتلاعب بالملكية الخاصة هو احتيال على القانون والدستور والناس، مما يتسوجب المحاكمة القضائية، لا مجرد اعتبارها مشكلة للتفاوض حولها. الودائع هي من جملة أملاك الناس، والملكية الخاصة قدس الأقداس في نظام رأسمالي ذي مزاعم ديموقراطية. ومن ناحية أخرى، كيف يتوقع أهل السلطة استعادة الثقة، لا بالدولة والمصارف، بل أيضاً استعادة ثقة المودعين العرب وكل الرأسمال الخارجي بالدولة وبقطاع المصارف الذي كان في زمن مضى ركيزة أساسية في الاقتصاد اللبناني، إذا كانت الودائع تصادر أو تسرق علانية؟

في التمييز بين الدولة والنظام يتوجب علينا دائماً الأخذ بالاعتبار أن على نظام الحكم أن يُمثّل الدولة، أي المجتمع، بما أن الدولة هي انتظام المجتمع. فلا يستقيم أمر الدولة إلا بالسيادة، سيادة المجتمع (الدولة) على نفسه. تزول السيادة عند الخضوع لإرادة خارجية أو إرادات داخلية لا تنتظم في سياق الدولة، ونظام الحكم. وما السلاح المتفلت والتعديات على احتكارات وحقوق وواجبات الدولة الأخرى إلا تعدياً على السيادة. ونحن نعيش في دولة ونظام حكم فاقدي السيادة. والقوى الداخلية الموازية للدولة ونظام حكمها هي حكماً افتئات على السيادة والاستقلال. ولا عجب أن تكون هذه القوى الداخلية مرتبطة بقوى خارجية. لا تستطيع القوى الداخلية مواجهة الدولة إلا بدعم خارجي. ولا فرق بين خارج وخارج إلا أن يكون ذلك حسب أيديولوجيات مؤدية الى تبرير قيام دولة داخل الدولة، لا احترام لديها لإرادة المجتمع-الدولة، أو هي لا تكترث للناس وإرادتهم. ليس لفريق داخلي أن يفاوض الدولة بل يتوجب على الجميع التقيّد بالقوانين والدستور الذين يفترضون احتكار الدولة للسلاح وللمرافق العامة الأخرى، التي من بينها المال، الذي يُصادر وبقية الأملاك الخاصة التي يُخشى أيضاً أن تصادرها مصالح خاصة غير الدولة. هذه لها حقوق وعليها واجبات، من بينها الملكية الخاصة التي يُحتّم القانون حمايتها في نظام رأسمالي هو في الأصل مبني على مبدأ حماية الأشخاص وأملاكهم، التي تشمل أملاك الدولة وحقوقها وواجباتها. وأي فريق يقتطع من الدولة بعض حقوقها وواجباتها هو بمثابة دولة داخل الدولة أو دولة موازية لها، ولا تستطيع أن تكون موازية لها إلا بقوة ما. وفي هذه الحالة تكون هي الدولة الوحيدة لأنها بالقوة قهرت الدولة الرسمية. والنتيجة هي كما الكولونيالية الفارضة سيادتها من الخارج. ومن الباعث على القلق أن تظهر الدولة داخل الدولة. وأن يكون أهل السلطة انتقائيين في أمر المافيا التي ينتقونها للنقد ولشن هجوم عليها. ذلك أن قطاعات المرافق العامة مقتسمة في ما بينهم. كلٌ منهم يتبنى مصالح فئة ما، ويكون الصراع على مخالفة القانون وليس على تطبيقه. فالذي منهم يظهر مؤيداً للقانون في قطاع معيّن يكون مخالفاً له في قطاع آخر. وأحياناً يكون القطاع نفسه مقسماً بينهم على أساس جغرافي.

إقرأ على موقع 180  "تويتر" و"فايسبوك".. فائض القوة يُسكت ترامب تحسباً!

يكون الإصلاح بتحفيز قوى الإنتاج، والأساسي في ذلك هو تأمين الكهرباء والماء ووسائل النقل والهاتف والإنترنت الذين تتقاسمهم مافيات لها علاقة ببعض أهل السياسة. وكل ما ورد هنا هو غيض من فيض. على السلطة التي يسمونها دولة أن تسترد جميع المرافق العامة التي ينص القانون على ملكية الدولة لها، ثم الحفاظ على الممتلكات الخاصة التي هي حق مطلق. يدير النظام المجتمع بذلك. ويعاد انتظام الناس في الدولة، وتعود الثقة بأن الحكومة جديرة بالثقة، فتدور عجلة الإنتاج، وينتصر القطاع الرأسمالي الرسمي على الاقتصاد الموازي، ويكون بذلك الإصلاح ذي مضمون اجتماعي، يعطي الإصلاح السياسي معنى. للسياسة مضمون هو الاقتصاد. ولذلك سمي الاقتصاد السياسي. ويعتبر انفصال كل منهما في دائرة منعزلة ليس إلا ابتذالاً. لا سياسة دون اقتصاد، ولا اقتصاد حقيقياً دون سياسة، ولا نهوض حقيقياً دون إنتاج، وإصلاح القوانين أو ما يسمى الإصلاح السياسي يتبع ذلك. أما الانتقائية في استرداد الدولة لمرفق عام دون آخر فينم عن عجزها أمام الدولة الموازية، وعن عجز الاقتصاد الشرعي أمام الاقتصاد الموازي، والخضوع لمافيات بالتواطؤ مع بعض أهل السياسة، وتحويل هذه الأخيرة من إدارة شؤون الناس الى حماية من يفرض الخوة على الناس. وهذه تتميّز عن الضريبة والرسوم الشرعية بأن الخوة تفرضها عصابات بينما الضريبة والرسوم تستوفيها الدولة حسب القانون.

لا يُمانع اللبنانيون كلهم في دفع الضريبة لكنهم يترنحون تحت عبء الخدمات التي يفرضها الاقتصاد الموازي. يأمل اللبنانيون بعودة الدولة في العهد الجديد، وهم على استعداد للقيام بواجباتهم تجاه الدولة (الرسمية)، لكن على الدولة أن تقوم بواجبها بالقضاء على الاقتصاد الموازي. وبذلك يكون الإصلاح. وما استرداد احتكار العنف كاملاً إلا جزءٌ من ذلك. فالمطلوب إصلاح يكون ذا موضوع، والأهم هو ما يكون اقتصادياً-سياسياً، لا سياسياً محضاً، وإلا كانت السياسة مبتذلة.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  هوكشتاين يقترح على لبنان توزيع حقول وترسيماً تحت الماء