سوريا الجديدة تنهض بالاستقواء بالخارج أم بتحصين الداخل؟

منذ تعيين نفسه رئيساً للجمهورية السورية، في كانون الثاني/يناير الماضي، دأب الرئيس السوري أحمد الشرع، على كسب ود الأطراف الإقليمية الفاعلة في الملف السوري وذلك لتحصين موقعه في الحكم على الرغم من أنّ هذه الأطراف ليست على وئام فيما بينها ليس بمقاربتها للملف السياسي السوري فحسب، بل في شبكة تحالفاتها وتقاطعاتها الإقليمية. كيف يُترجم ذلك؟

يحاول أحمد الشرع إرضاء تركيا والسعودية ومصر والإمارات والولايات المتحدة الأميركية وروسيا وأوروبا، في آنٍ معاً، على الرغم من أن كل طرف من هذه الأطراف الإقليمية والدولية له أجندته أو مقاربته الخاصة حيال الملف السوري، كما متطلباته من خلال الحكم الجديد. يدرك الشرع في قرارة نفسه أنّ مفتاح الحلّ يكمن في واشنطن ذلك أنه يريد رفع العقوبات كي تتحسّن الأوضاع المعيشية للمواطنين والتي إن لم تتحسن في المدى المنظور، قد تؤدي إلى تآكل شعبيته تدريجياً، لأنّ حاجيات المواطن الأساسية في الوقت الحالي (من صحة ودواء وغذاء ولقمة العيش وفرص عمل وخدمات أساسية)، هي ما يصبو إليه أي مواطن سوري، بعد سنوات من توالي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. كما يُدرك أن أي نظام سيحكم سوريا يجب أن ينال المشروعية العربية.. وهذه المشروعية ممرها الإلزامي المملكة العربية السعودية أولاً.

وفي هذا السياق، فإنّ تقارير صحفية عدّة كانت قد أشارت مؤخراً إلى أنّ سلّة من ثمانية شروط طرحتها إدارة دونالد ترامب على السلطة السورية الجديدة قبل رفع العقوبات الاقتصادية وإعادة ربط المصارف السورية بنظام “السويفت” العالمي. وفصلّت بعض المصادر الصحفية هذه الشروط كالتالي: تشكيل جيش مهني وعدم وضع المقاتلين الأجانب في مناصب قيادية حساسة، الوصول إلى جميع منشآت السلاح الكيماوي وبرنامج هذه الأسلحة، اطلاق سراح المخطوفين الأميركيين ولا سيما الصحافي أوستين بينيت تايس وكشف مصير غيره من المفقودين الأميركيين، تسلم عائلات “الدواعش” من معسكر الهول الواقع تحت سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) في شمال شرق سوريا، الالتزام العلني بالتعاون مع التحالف الدولي في محاربة “داعش”، السماح لأميركا بتنفيذ عمليات على الأراضي السورية ضد أي شخص تعتبره واشنطن “إرهابياً ويُشكّل تهديداً لأمنها القومي، إصدار إعلان رسمي عام يحظر جميع “الميليشيات الفلسطينية” وأنشطتها السياسية في سوريا وترحيل أعضائها “لتهدئة المخاوف الإسرائيلية”، منع تموضع إيران في الساحة السورية وتصنيف كل من  “الحرس الثوري” و”حزب الله” كتنظيمين إرهابيين. وفي خطوة ربطها بعض المراقبين ببدء تنفيذ هذه الشروط، أقدمت السلطات السورية على اعتقال عنصرين من “حركة الجهاد الإسلامي”، في الثاني والعشرين من أبريل/نيسان الماضي، في خطوة لا يُمكن فهمها إلا تنفيذاً للشروط الواردة أعلاه كونها تستهدف حركة فلسطينية مقاومة لصيقة الصلة بطهران.

وفي هذا السياق، ثمة خشية حقيقية من أن يؤدي رضوخ السلطات السورية لهذه السلة من الشروط الأميركية، إلى تطبيع العلاقات بينها وبين الكيان الإسرائيلي في مرحلة لاحقة، لا سيما في ضوء ما تردد من معلومات عن نجاح دولة الإمارات في جمع أحد أبرز المسؤولين المقربين من الشرع بمسؤول إسرائيلي في أبو ظبي قبل نهاية الشهر الماضي.

ويضغط الإسرائيليون على الواقع السوري الجديد بأشكال شتى سواء بعمليات التجريف للبنية العسكرية والأمنية السورية أو بتنفيذ عمليات أمنية يبقى معظمها بعيداً عن الأضواء إثارة قضية الأقليات وادعاء حماية المكونات العلوية والدرزية والمسيحية في حال تعرضها للخطر.. وكل ذلك بهدف تكريس منطقة عازلة في سوريا في بادئ الأمر، كتمهيد لتطبيع علني مع الكيان الإسرائيلي، ولا سيما أنّ الكلام حول مسارات التطبيع بين إسرائيل من جهة، وسوريا ولبنان من جهة أخرى، بدأ يتصاعد في الإعلام، بعد أن كان هذا الكلام يدور همساً في السابق في الصالونات السياسية.

وليس خافياً أن لبنان وسوريا، يواجهان ظروفاً ضاغطة في ضوء ترابط اقتصاد البلدين وفي ضوء نتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان واستمرار قضية النازحين السوريين عنصر قلق لكل بلدان الجوار السوري ولا سيما لبنان.

ويشي مسار السلطة السورية الانتقالية لغاية الآن بأنّ قاعدة ارتكاز حكمها هي الاستقواء بلون طائفي ومذهبي وبالمقاتلين الأجانب الذين كانت حكومة إدلب قد منحت معظمهم الجنسية السورية فضلاً عن اتقان لعبة توازنات الخارج، إلا إذا كانت القيادة السورية الجديدة تعتبر أن تحصين الداخل هو على شاكلة مؤتمر حوار وطني فولكلوري عُقِدَ في شباط/فبراير المنصرم، أو على طريقة معالجة أحداث الساحل السوري (6-7 آذار/مارس الماضي) ولا سيما من خلال لجنة تقصي حقائق لم ينتج عنها سوى تمديد عملها من دون الوصول إلى خلاصات تقضي بالمحاسبة، وزاد الطين بلة أن سلوك السلطة لم يمنع حدوث فتن طائفية جديدة تشبه في مضامينها ما حدث في الساحل السوري، والذي عاد وتكرّر مع جماعات طائفية أخرى، في جرمانا وصيدانيا والأشرفية، في اليومين الأخيرين من شهر نيسان/أبريل الماضي.

كل هذه الأحداث ما كانت لتقع لو أن السلطة الجديدة نظّمت حواراً وطنياً حقيقياً بين مكونات الشعب السوري في الوطن والمهجر، وصولاً إلى وضع خارطة استنهاض وطني للاقتصاد والمجتمع، ووضع آليات لعدالة انتقالية مؤسساتية تلغي احتمالات الانتقام والتشفي وتفجير الأحقاد. ويتساءل مراقبون عمّا إذا كانت السلطة السورية غير قادرة أم غير راغبة في منع كل هذا المسار المتعرج لغاية الان؟

إقرأ على موقع 180  بارنيه الملتزم لبنانياً.. أمام تجربة حكومية صعبة

ومن المعروف أنّ “هيئة تحرير الشام” تضمّ خليطاً غير متجانس من الأفراد والمجموعات، وهي نفسها كانت قد تفاجأت بسقوط النظام بشكل دراماتيكي، في الثامن من كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي. أما بخصوص عدم الرغبة بولوج طريق النهوض، فإنّ الدستور الجديد المؤقت الذي أعلن عنه في آذار/مارس الماضي، يشي بشكل لا لبس فيه، إلى ملامح حكم تفردي- إقصائي- أوتوقراطي، يعيد انتاج نظام آل الأسد البائد، بصورة ديكتاتورية أخرى، ولكن هذه المرة، مع وجود مظاهر لحكم ديني بدلاً من القاعدة العلمانية التي اتبعها الأسد الأب والإبن.

وتشي التطورات الحاصلة في سوريا بتخبط واضح لدى سلطات الحكم الانتقالي في إدارة الشأن العام. هذا التخبط مردّه إضافةً إلى ما ذكر أعلاه، إلى افتقاد “الهيئة” لكوادر وشخصيات تكنوقراطية كفؤة تستطيع أن تمسك بزمام الأمور والادارة العامة، وغياب محددات واضحة لآليات الحكم، وغياب عقد اجتماعي حقيقي يستطيع الشعب السوري أن يضمن عبره كافة حقوقه وواجباته وحرياته. هذا لأنّ الدستور نفسه أعدته لجنة صغيرة لم يُتح لها أو لم يُرد لها أن تستشير أهل الخبرة والاختصاص وهم كثر سواء داخل سوريا أو في المنافي. وكان بالإمكان الاستفادة من خبرات الشعب السوري، الكثيرة والمتشعبة في حقول وميادين عدّة، لتشكيل مجلس وطني تأسيسي تكون مهماته محصورة بإعداد دستور وطني شامل، يعبّر في مضامينه عن أهداف الثورة السورية، على غرار التجربة التونسية والتي استغرق كتابة دستورها بعد الثورة، قرابة العام ونصف العام، تضمنت مشاورات وطنية وحوارات حول الصيغ والأشكال القانونية الأنسب لتحقيق تطلعات الشعب التونسي في الحرية والديموقراطية والعدالة. بيد أنّ كل هذا المسار لم يحدث في سوريا، وبدا وكأنّ عملية صياغة الدستور أسقطت من فوق، على القاعدة الشهيرة التي راجت مؤخراً في سوريا وهي: “من يُحرّر، يُقرّر”.

هذه العوائق والثغرات التي ترافق مسيرة السلطات السورية الجديدة، تتقاطع مع الترهل المؤسساتي والفساد البنيوي والاقتصاد المنهك والمجتمع المشتّت، وكل ما ورثته السلطة الجديدة من النظام المخلوع. وإذا كانت السلطة السورية الانتقالية ستمضي في المسار الذي دأبت على ممارسته، منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، والذي يتلخّص بالاستقواء بالخارج بدلاً من حماية وتحصين الداخل، فإنّ الوطن السوري سيظلّ عرضة لشتى أنواع المحن والصعوبات التي سينتج عنها هشاشة سياسية واقتصادية واجتماعية، مع ما يرافقها من سعار طائفي يتجدّد كل حين وآخر في مناطق مختلفة. وكل هذا يأتي مترافقاً مع عدوانية إسرائيلية تصبّ الزيت على النار، لتأكل من كعكة الجغرافيا السورية، وتهدّد من وحدة أراضيها واستقرار نظامها السياسي.

 

Print Friendly, PDF & Email
عطالله السليم

كاتب وباحث سياسي

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  في أن تنتصر وتصفح