السلام الترامبي “عبر القوّة”.. تلطيف لـ”الاستعمار الجديد”

حسن صعبحسن صعب16/05/2025
خلال زيارته التي أعطاها طابعاً تاريخياً إلى كل من السعودية وقطر ودولة الإمارات هذا الأسبوع، كرّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكثر من مرة عبارة "نحن نؤمن بالسلام عبر القوة". العبارة نفسها قالها مراراً قبيل وصوله إلى البيت الأبيض، في معرض تأكيده على حسم ملفي حرب غزة وحرب أوكرانيا وإبرام تسوية مع إيران، مُطالباً بمَنحه جائزة نوبل للسلام!

“السلام من خلال القوّة”

مفهوم “السلام باستخدام القوّة” ليس مفهوماً جديداً، أو خاصاً بالرئيس الأميركي الحالي؛ بل هو مفهوم قديم يعني أن قوّة السلاح هي العنصر اللازم لتحقيق السلام. وهذه العبارة قديمة جدًا، اشتهر باستخدامها العديد من القادة، بدءًا من الإمبراطور الروماني هادريان في القرن الأوّل الميلادي، وحتى رونالد ريغان في ثمانينيات القرن العشرين. وكثيرًا ما ارتبط هذا المفهوم بالواقعية السياسية.

وهذه الأطروحة الترامبية (السلام عبر القوّة) ما هي إلّا تتويجٌ لمسارٍ تاريخيٍّ طويل لتطوُّر “مبادئ القوّة” في الاستراتيجية الأميركية عبر عقود مُتمادية من الزمن، انطلاقًا من مبدأ “فنّ خلق القوّة” الذي أوضحه أستاذ الاستراتيجيا، لورنس فريدمان، في كتابه “تاريخ الاستراتيجية”، إذ عَرّفها بأنها: “فنُّ خلق القوّة، وهو فنٌّ يصعب إتقانه أو الإمساك به”. مبدأٌ ظلّ سائدًا حتّى مطلع عقْد الأربعينيات من القرن الماضي، قُبَيْلَ الحرب العالميّة الثانية. ثمّ جرى التنظير بعد ذلك لمبدأ “استخدام القوّة”، وهو المبدأ الذي تُوِّجَ بإلقاء القنبلتين النوويّتين على مَدينتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان خلال تلك الحرب (1945)، وأدّى إلى انتهاء الحرب واستسلام اليابان. وهو ما كان يعني أميركيًّا تحقيق “السلام من خلال القُوّة.”

في سياق إعلانه عن وقف النار في غزة، (15 كانون الثاني/يناير 2025)، قال الرئيس الأميركي “المنتخب” دونالد ترامب: “سنواصل الترويج للسلام عبر القوّة في المنطقة، والبناء على زَخم وقف إطلاق النار لتوسيع اتفاقات السلام”، ليَفتح بهذا قوس أسئلة لن يُغلق في المستقبل المنظور عن إمكانية فَرْض “السلام” عنوة، وما إذا كان هذا المسلك القسري سيفيد “ثقافة السلام”، أم سينتهي بتمهيد الطريق لحرب جديدة؟

طروحات السلام الملغومة

للوهلة الأولى، قد يقبل الكثيرون كلام ترامب هذا، ولو مع تهديده باستخدام القوّة العسكرية، وذلك باعتبار أن الغاية تُبَرّر الوسيلة؛ والغاية هنا هي وقف الحروب والصراعات وفَرْض “السلام”، حسب المواقف المُعلنة لترامب قبل وصوله إلى سدّة رئاسة الولايات المتحدة. لكن من يُدَقّق في أبعاد تلك المواقف “الترامبيّة” المُغَلّفة بدوافع إنسانية، يُدرك مدى ارتباطها الوثيق أو العضوي بمُحَدّدات وآليات صنع القرار السياسي الأميركي، أوّلاً، كما بأهداف الولايات المتحدة الكونيّة والإقليميّة ثانياً؛ فضلاً عن ضرورة انسجام هذه المواقف مع الاستراتيجية الإسرائيلية التوسعيّة التي تبغي أيضاً فَرْض “السلام” على دول وشعوب المنطقة عبر القوّة المُطلقة وغير المُقَيّدة، لا بقوانين ولا بقِيم أخلاقية؛ من دون التقليل من تأثير العامل الشخصي المُرتبط بسعي ترامب المحموم لتتويج نفسه صانعاً للسلام في العالم، عبر منحه جائزة نوبل للسلام، في أقرب فرصة لأنه سينجح حتماً في وقف “قتل الناس الأبرياء وإرساء السلام”، على حد تعبيره!

والقصد هنا القول إن شعار ترامب المُلتبس ليس من إبداعاته الشخصية، كما أوحى بذلك، بل هو تعبير مُلتوٍ أو مُلطّف عن استراتيجية جديدة – قديمة للولايات المتحدة، تسعى من خلالها للخروج من نفَق الأزمات الداخلية، المالية والاقتصادية بالخصوص (تجاوزت ديون أميركا الحكومية سقف 36 ألف مليار دولار)؛ كما من التحدّيات الخارجية لهيمنتها شبه المُطلقة على السياسة والاقتصاد في العالم، والتي بدأت بالتراجع خلال السنوات الأخيرة.

تطبيق أجندة إدارة ترامب بفَرْض “السلام” (أو الاستسلام) بالقوة يتم، في بعض مساراته، عبر استثمار “الإنجازات” التي يُحقّقها الحلف الأميركي – الإسرائيلي، تحديداً في منطقة الشرق الأوسط (من غزة ولبنان وسوريا إلى اليمن)، أو عبر التهديد باستخدام القوّة ضدّ إيران، بذريعة منعها من إنتاج سلاح نووي، بحيث تخضع الدول أو القوى الرافضة للهيمنة الأميركية – الإسرائيلية، وتوافق على طروحات السلام “الترامبيّة” الملغومة، فتُوفّر بذلك على الولايات المتحدة دفع فواتير الحروب المُكلِفة أو الصراعات المُتمادية في الشرق الأوسط، وتؤمّن لها، في الوقت عينه، بيئة مُستقرّة وآمنة لمصالحها الحيويّة (النفط والغاز والموارد الطبيعية الأخرى، الأسواق الاستهلاكية..)؛ ناهيك عن ترسيخ وجود وبقاء الكيان الإسرائيلي في نسيج هذه المنطقة إلى الأبد!

“مبدأ” ترامب بين القانون والسياسة

من المؤكّد أن العالم (الشعوب المُستضعفة والمَقهورة بالخصوص) بات منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية – والتي خَلّفت عشرات ملايين الضحايا (أكثر من 60 مليون شخص) – يرفض استخدام القوّة العسكرية بلا ضوابط، ومن أجل تحقيق أهداف سياسية استئثارية، حيث ثبّتت المؤسسات الدولية التي نشأت بعد الحرب هذه المسألة ضمن مواد ميثاق هيئة الأمم المتحدة والمؤسسات والمنظّمات الدولية والإقليميّة ذات الصلة.

يقول المحلّل السابق في الاستخبارات الأميركية، جورج بيب: “إن مَضيتم بعيداً جداً في مد غصن الزيتون، فقد يستغل خصومكم ذلك. لكن في المقابل، إن مضيتم بعيداً جداً في موقف حربي، فقد ينتهي بكم الأمر إلى الحرب من خلال القوّة بدل السلام من خلال القوّة”

لقد جرت صياغة مبدأ حظر استعمال القوّة أو التهديد باستعمالها في ميثاق هيئة الأمم المتحدة على الشكل التالي:

“يمتنع جميع أعضاء منظمة الأمم المتحدة في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوّة، أو استعمالها ضدّ سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي وجه آخر لا يتّفق ومقاصد الأمم المتحدة” (الفقرة 3 من المادة 2 من ميثاق هيئة الأمم المتحدة).

أما مجلس الأمن الدولي، المعني بالتدخّل العسكري أو ما يسبقه من أشكال تدخّل أخرى، فيقول في المادة 41:

إقرأ على موقع 180  مصير صفقة القرن بعد هزيمة ترامب

“لمجلس الأمن أن يقرّر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلّب استخدام القوّات المسلّحة لتنفيذ قراراته؛ وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير؛ ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجويّة والبريدية والبرقية واللاسلكية، وغيرها من وسائل المواصلات، وقفا جزئياً أو كلّياً، وقطع العلاقات الدبلوماسية”.

فهل هذا ما يُطَبّقه ترامب في اليمن وغزة، أو تجاه إيران والصين وروسيا وكوريا الشمالية، ودول أخرى في العالم؟ ولا ننسى هنا استهزاء ترامب سابقاً بمؤسسة الأمم المتحدة وغيرها من المؤسّسات الدولية التي لا تتّفق معه في أفكاره أو سياساته التوسعيّة والحربيّة، وسعيه حالياً لإضعاف تلك المؤسسات مالياً، “التي لا تتماشى مع أولويات الإدارة”، كما جاء في الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب بمراجعة مشاركة بلاده في المنظمات الدولية ربطاً بمشروع ميزانية العام 2026.

إشارة قوة أم فشل؟

وفي خطوة تعكس مدى “التزام” إدارة ترامب بمبدأ “السلام من خلال القوّة” المُستوحى من الحقبة الريغانية، أعلن ترامب، منح شركة “بوينغ” عقداً بقيمة 20 مليار دولار لتطوير مُقاتلة “أف 47” من الجيل السادس لمصلحة القوّات الجويّة الأميركية، التي تأتي ضمن برنامج “الهيمنة الجوّية للجيل التالي”، وقال إن هذه المُقاتلة “ستكون الأكثر تقدّماً والأكثر فتكاً. ونحن على ثقة من أنها تتفوّق، بشكل كبير، على قدرات أي دولة أخرى”، مُعتبراً أن “أعداء أميركا لن يتوقّعوا هذا أبداً. ونأمل ألّا نضطرّ إلى استخدامها”؛ فيما شدّد وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث على أن تطوير المُقاتلة الجديدة “يبعث برسالة واضحة إلى حلفائنا أنّنا لن نرحل، وإلى أعدائنا أنّنا قادرون على استعراض قوّتنا حول العالم من دون عوائق لأجيال مُقبلة”!

وفي شباط/ فبراير الماضي، وافق الرئيس ترامب على إعادة شحن قنابل ثقيلة (إم كيه – 84) إلى “إسرائيل” التي تخوض حرب إبادة ضدّ الشعب الفلسطيني، وكانت إدارة جو بايدن قد أوقفتها، وذلك تحت شعار كرّره ترامب في المناسبة، بأن القرار يُعبّر عن إيمانه بـ”السلام عبر القوّة”!

هذه القرارات “الترامبيّة” هي تعبير عن الفشل الأميركي في السيطرة على العالم عموماً، وبالخصوص على العديد من المؤسّسات الدولية التي تؤدّي أدواراً مهمّة في منع الحروب والصراعات، أو الحد من تأثيراتها السلبية على مختلف الصعد، وبما يتناقض مع النهج الأميركي الأحادي، غير القانوني وغير الأخلاقي، والذي بات ترامب ومسؤولو إدارته يُجاهرون به على الملأ، عبر فرض “السلام” من خلال القوّة العسكرية الأميركية حصراً، ومن دون أي قيود أو ضوابط.

ويقول المحلّل السابق في الاستخبارات الأميركية، جورج بيب، إن الترويج لمفهوم السلام من خلال القوّة “يتخطّى على الأرجح مجرّد شعار”، بنظَر إدارة ترامب، ويضيف المسؤول في معهد كوينسي للدراسات، الذي يدعو إلى الحد من النزعة العسكرية: “إحساسي العميق هو أنهم جدّيون في استخدام هذا المفهوم كمبدأ يتّبعونه”. لكنّه شدّد على ضرورة إيجاد توازن في هذه المُقاربة، موضحاً أن (الرئيس الأسبق) ريغان اتّبع نهجاً مزدوجاً يقوم على تعزيز القوّات المسلّحة بموازاة “دبلوماسيّة ذكيّة”، في التعامل مع الاتحاد السوفياتي السابق.

ويُحذّر الخبير بيب الإدارة الجديدة بالقول: “إن مَضيتم بعيداً جداً في مد غصن الزيتون، فقد يستغل خصومكم ذلك. لكن في المقابل، إن مضيتم بعيداً جداً في موقف حربي، فقد ينتهي بكم الأمر إلى الحرب من خلال القوّة بدل السلام من خلال القوّة”.

خلاصة

يختلف الخبراء حول جدوى خيار ما يسمّى “السلام من خلال القوّة”. ففيما يرى بعضهم أن القوّة ليست الوسيلة الوحيدة لتحقيق السلام، وأن السلام الحقيقي يأتي عبر التفاهم والاعتراف المتبادل بالفوائد التي يعود بها السلام على الأطراف المعنيّة؛ يؤكّد البعض الآخر أن فرض السلام بالقوّة العسكرية قد ينجح في أماكن ويفشل في أماكن أخرى. ويبقى الأساس في هذا الأمر هو تحقيق العدل وعدم وجود غايات ضيّقة أو مصالح خاصة لدى الأطراف المولجة بفرض السلام، سواء داخل كلّ بلد يُعاني من نزاعات بَيْنيّة، أو بين دول مستقلّة وذات سيادة.

أخيراً، وحتى يكون للحقيقة نصيب من شعار ترامب السابق الذكر، يجب استبداله بشعار “الاستثمار من خلال القوّة”، والذي ينسجم مع عقليّة رجل العقارات الانتهازي، والمُنتشي بفائض القوّة العسكرية لبلاده، والذي يعتبر فلسطين (وغزة) مجرّد صفقة تجارية “رائعة” أو مُربحة؛ وكذلك الأمر بالنسبة للسعودية والإمارات وقَطَر ومصر (قناة السويس)، وصولاً إلى قناة بَنما وجزيرة غرينلاند ودولة كندا، وكلّ بلد أو منطقة توجد فيها ثروات تُسيل لعاب الرئيس “الاستثنائي” في تاريخ أميركا… والعالم!

Print Friendly, PDF & Email
حسن صعب

كاتب وباحث لبناني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ما بعد 11 سبتمبر اللبناني: شهران قد يُغيِران وجه المنطقة