ألفونسو السادس.. ترامب!

جولةُ جمْعِِ الجِزيةِ والإتاوة. تلك هي حقيقةُ ما سُمِّيَ بـِ"القمةِ الخليجيةِ الأميركية". أيُّ قِمَّةٍ؟ هذه اللفظةُ مُصابةٌ بمرضِ الانفصامِ البِنيويّ والمعنويّ والدَلاليّ. اِسمٌ بغير مُسمَّى، ووصْفٌ بِلا موصوفٍ. القِمة تكونُ بين أندادٍ لا بين سيِّدٍ وعبيد. يستدعي السيّدُ عبيدَهُ، فيأتونَ لِيدفعُوا الجِزَى والإتاواتِ والضرائب عن بقائهم في خَراجِ المُلْكِ والعرش. المَلِكُ الأميركيُّ ترامب تحصَّل على تريليون دولار. طَأطَأ حكَّامُ الخليجِ رؤوسَهم ودفعُوا.

سيِّدُ البيتِ “الأسودِ” لديهِ سياسةٌ تبدأُ من جنْيِ المالِ العربي ولا تنتهي بمصادرةِ الأرضِ والتاريخِ بلْ تتجاوزُهُما إلى المَحوِ ومحاولةِ كتابةِ التاريخِ كما تراهُ الصهيونيةُ الرأسماليةُ، والصهيونيةُ “العربيةُ” التي أخذت تترسَّخُ تحت عنوانِ “السلام” و”اتفاقاتِ أبْراهام” والاختراعِ الخبيثِ المُسمَّى بـِ”الديانة الإبراهيميّة”.

لقد كان ابن خلدون على حقِّ عندما وصفَ قبل نحوِ سبعةِ قرونٍ الحكامَ العربَ في زمانِهِ بأنهم أبعد الأمم عنِ السياسة، لكنَّهُ لم يتخيَّلْ أنَّهم سيظلُّون على هذا النهجِ حتى زمانِنا. ولم يتصوَّرْ أنَّهمْ سيُواصلونَ الفصلَ بين السياسةِ والأخلاقِ إلى هذا الحدِّ. الخُطورةُ في جولةِ الجِزيةِ الترامبيّةِ لا تقفُ عند الأموال فحسبُ، بلْ هي في بَلوَرةِ الجوهرِ الإسرائيليّ – الصهيوني لدى السلطاتِ الخليجيةِ بما يقودُ إلى مزيدٍ من الذلِّ والخذلانِ والشرذمةِ وتقسيمِ المقسَّمِ تماماً مثلما حصل بين “ألفونسو السادس” [ملك ليون وقشتاليا في إسبانيا] وبعضِ عربِ الأندلس قبل نحوِ عشَرةِ قرون. آنذاكَ كان “ألفونسو” يستدعي “المعتمِدَ بن عبَّاد” أميرَ “طُليْطِلة” ليدفعَ له الأموالَ مقابلَ حمايةِ سلطتِه، فانتهى الأمرُ باحتلالِ “طليطلة” وسقوطِ الإمارات العربية في عصر ملوكِ الطوائف. ترامب اليوم هو نفسُهُ “ألفونسو” ذلك الزمان. لم يتغيَّرْ شيءٌ سوى الأسماء. والكارثةٌ حقَّاً هو أنَّنا لا نجدُ في تجاربِ التاريخِ أمَّةً سكتتْ على حُكَّامها مثلما هو عند العرب. ولا نجدُ حكَّاماً يرفضونَ تصحيحَ أخطاءِ الماضي مثلما هو لدى غالبيّةِ الحكَّامِ العرب.

لا يخفى على أيِّ مراقبٍ موضوعي أنَّ ما يُحكى عن السلام في المنطقة – بعد هذه الجولة التي كرَّست إلغاء دولة سوريا، وتبعيَّةَ لبنان تحت شعار السيادة – هو خديعةٌ متجددةٌ تريدُها واشنطن وتل أبيب لتهيئة الظروف لاحقاً من أجل التفرُّغ لإيران والعراق ومصر. سواء بالقوَّة أو بالابتزاز السياسي والاقتصادي. والأخطر إستراتيجياً هو استهدافُ مصر

أمَّا الخطورةُ الأعمقُ إستراتيجيّاً فهْيَ أنَّ الخليجيين دفعُوا الأموالَ مُقتنعِينَ لا مُرغمينَ فحسْبُ. أيْ إنَّهم يعيشونَ “القابليّةَ الذاتيّةَ للاستعمار” بعبارة المفكِّر الجزائري المعاصر “مالك بن نبي” أو “العبودية الطوعية” بتعبير المفكِّر الفرنسي “إتيان دي لا بوسّيه”. وهذا يعني بوضوحٍ أنَّهم دفعُوا الأموالَ ولا يستطيعونَ أن يَقولوا إنَّ الدفعَ فُرِضَ عليهم، ولا يمتلكونَ حتّى ورقةَ اللعبةِ الإعلاميةِ لتبريرِ عبوديتِهم، وأوهامِهم بأنَّهم شركاءُ الولاياتِ المتحدةِ فيما هُمْ وُكلاؤُها منَ الدرجةِ العاشرةِ بعدَ الكيانِ الإسرائيلي.

ما حصلَ عليه “ألفونسو ترامب السادس”(تريليون دولار) كان يكفي – لو توافرتِ الكرامة – أنْ يحارِبَ الفقرَ في كل العالم، وأنْ يُحرِّرَ فلسطين لا غزةَ وحدَها، أو على الأقلّ كان يُنقذُ أهلَ غزَّةَ والضفّةِ منَ المجاعةِ والدمارِ والموت. وعندما نعرفُ أنَّ حجمَ الديونِ المترتِّبةِ على الدولِ العربيّةِ غيرِ الخليجيّة يراوحُ في حدودِ 500 مليارِ دولار ندركُ معنى الانحراف التاريخي لما حصل، فَنِصفُ ما أخذهُ ترامب هذه المرةَ كافٍ لتسديدِ الديون العربيّة، والنِصفُ الثاني يكفي لنقلِ العربِ منَ التخلُّفِ إلى التنميةِ والتقدُّم. ولا ننسى ما دفعَه الخليجيُّون- وباعترافِ رئيس ِوزراء دولة قطر السابق حمد بن جاسم– من أموالٍ لتخريبِ السودان وليبيا واليمن وسوريا ولبنان، وإشعال الحروب خدمة للمشروع ِالأميركي – الإسرائيلي في المَنطِقة، ولتغيير معالمها من أجل إنشاء إسرائيل الكبرى، لتكونَ المركزَ الرأسماليَّ الإقليميَّ الذي يُديرُ الاقتصادَ، ويلعبُ بملوكِ الطوائفِ الجدُدِ تحت مظلّة “الديانة الإبراهيمية” ومن وراءِ الخديعةِ الصهيونية بما يُسمُّونه لقاء العقل اليهودي بالمال العربي.

ها هو “ترامب ألفونسو السادس” قدِ اِستدعى مرةً جديدةً المعتمدَ بن عبّاد وإخوته الأمراء، ولم يتردَّدْ [ولا نقول: لم يخجلْ] في القولِ: إنَّ جولتَهُ في الخليج هيَ في صالح إسرائيل. أخذ أموالاً وجمعَ “الجولاني” ووليَّ العهد السعودي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان [بواسطة تقنية الإنترنت]، وتمَّ التوافق بينهم على توزيع النفوذ في سوريا: إسرائيل في الجنوب، وتركيا في الشمال، وأميركا في الشرق، أمَّا الساحل السوري غرباً فمؤجَّلٌ إلى ما بعد معالجةِ الوضع في أوكرانيا إذ يقتضي الأمر التنسيق مع روسيا، وربّما يكون له وضعٌ خاصٌ ذو أبعادٍ إستراتيجيّة متقاطعة تنافسياً بين واشنطن وموسكو. كلُّ ذلك يعني أنَّ سوريا – الدولةَ الواحدةَ اِنتهتْ. وأنَّ ما يُسمَّي بالشرعيةِ العربيّةِ والأميركية التي أُعْطِيَتْ لـِ “الجولاني” ربَّما تستمرُّ بضعةَ أشهرٍ فقط لاختبارِ قدرتِهِ الداخليةِ على تنفيذِ التزاماتهِ بالتطبيعِ السريعِ معَ الكيانِ الإسرائيلي، والانضمام إلى اتفاقيّات أبراهام، وضبطِ سيطرتِهِ على الفصائلِ المسلَّحة التي تختلف معه بالتكتيكات، وإلَّا فإنَّه هو نفسهُ سيكون عُرضةً للإزاحة، إذْ لا فائدةَ منه إذا لم يُنَفِّذْ هذه التعهُّدات. ولا سيّما أنَّ في الإدارةِ الأميركيةِ تيَّاراً قويَّاً يمثِّلُهُ نائبُ الرئيس “جي ديه فانس” ووزيرُ الخارجية ” ماركو روبيو”، وهما غيرُ مقتنعينِ بأنَّ “الجولاني” قادرٌ على تلبية المطالب وإن كان يريدُ كما قالَ هو عينُهُ.

إقرأ على موقع 180  مبادرة قطرية "في الوقت الضائع" بين طهران وواشنطن!

جولةُ الجزيةِ والترتيباتِ الإستراتيجية التي قام بها “ألفونسو الجديد” على طليطلة المُستعادة وجوارها في منطقة الخليج وإشراكِ أردوغان – السلطان سليم، تمثِّل في الظرف الراهن مرحلة خطيرةً جدَّاً. ولا يخفى على أيِّ مراقبٍ موضوعي أنَّ ما يُحكى عن السلام في المنطقة – بعد هذه الجولة التي كرَّست إلغاء دولة سوريا، وتبعيَّةَ لبنان تحت شعار السيادة – هو خديعةٌ متجددةٌ تريدُها واشنطن وتل أبيب لتهيئة الظروف لاحقاً من أجل التفرُّغ لإيران والعراق ومصر. سواء بالقوَّة أو بالابتزاز السياسي والاقتصادي. والأخطر إستراتيجياً هو استهدافُ مصر. حمى الله شعب مصر.

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إنفجار بيروت بعيون تل أبيب: إبعاد الحرب أم إقترابها؟