

نظام “بيروت كوين” (Beirut Coin) يُمثّل النموذج الأكثر جرأةً لهذا التحوّل: عملة رقمية محليّة تُسجَّل حركاتها عبر شبكات واي فاي مجتمعية، وتستمد قيمتها من كمية الوقود المخزَّن في البيوت كغطاء نقدي. المفارقة تكمن في إدارة العقود الذكية عبر مجموعات واتساب عائلية، حيث تتحول الدردشات العابثة إلى منصاتٍ مالية تُدير 32% من التداولات التجارية الصغيرة وفقًا لمصرف لبنان المركزي. هذا النظام ليس مجرد بديلٍ اقتصادي، بل بيانٌ سياسي مُحمَّل باليأس والأمل وإثباتٌ لقدرة المجتمعات على ابتداع أنساقٍ موازية تُحاكي الدولة في أداء وظائفها الأساسية.
في المقابل، تشهد المؤسسات الدينية تحوّلاً جذريًا نحو لعب دور “الدولة المُصغَّرة”. وتكشف دراسة المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (2025) أن 81% من المساجد والكنائس تحوّلت إلى مراكز خدماتية شاملة، تتراوح بين اللقاحات ضدّ الأمراض إلى دروس البرمجة (الكومبيوتر). الخطاب الديني نفسه يخضع لإعادة تشكيلٍ دراماتيكية: 64% من الخطب تُوجَّه نحو “لاهوت البقاء اليومي”، حيث تتحول من الفتاوى إلى أدلّة عملية لإصلاح المولدات الكهربائية أو استخراج المياه الجوفية!
التقاطعات بين المجالين التكنولوجي والديني تبلغ ذروتها في ظاهرة “الزكاة التضامنية الرقمية”. تطبيقات مثل “فريضة 24” تُحوّل الفريضة الدينية إلى نظام مالي مقاوم للانهيار، حيث تُجمع الأموال عبر رموز QR مُعلَّقة على جدران الأحياء تُوزَّع عبر منصّاتٍ ذكية يراقب استخدامها في مشاريع الطاقة الشمسية المحلية. هذه الهجينة بين المقدّس والتقني تُنتج اقتصادًا موازيًا يعتمد على “الائتمان الأخلاقي”، حيث تكتسب السمعة الدينية للعائلات وزنًا مماثلًا للقدرة المالية في تحديد مصداقية التعاملات.
واللافت للانتباه في هذه التحولات هو ظهور “الدولة الافتراضية” ككيانٍ هجين. مسحٌ أجرته جامعة هارفارد (2025) يظهر أن 58% من اللبنانيين يعتبرون أن انتماءهم الأول بات لمجموعات الواتساب والتلغرام التي تُدير شؤون الأحياء، بينما 43% يُعرِّفون عن هويتهم عبر المحافظ الرقمية، وحتى الطقوس الدينية تخترق الحواجز المادية كمثال حجاج افتراضيين يتدرّبون على الطواف حول نموذج ثلاثي الأبعاد للكعبة في تطبيقات الواقع المعزّز، بينما تُبث صلوات الجمعة عبر منصات البث المباشر التي تُموَّل من عائدات الإعلانات الرقمية.
هذه الديناميكيات تُشير إلى ولادة نموذجٍ وجودي فريد: مجتمعٌ يُعيد ابتداع مقوّمات الحياة عبر خلطٍ غريب بين التكنولوجيا البدائية والمتقدمة؛ بين الموروث الديني والابتكار الرقمي. السؤال الذي يطفو على السطح: هل نشهد ميلاد “عقد اجتماعي جديد” قادر على تجاوز فكرة الدولة؟ أم أنّ هذه الممارسات هي مجرّد ردود فعل عابرة لغياب السلطة؟ الإجابة قد تكمن في تلك اللحظة الساخرة عند منتصف الليل، حيث تُوقَّع عقود الزواج المدني عبر “بلوك تشين” (Blockchain) بينما تُباركها شموعٌ في كنيسة افتراضية، وتُسجَّل التفاصيل في سجلاتٍ رقمية محمية بكلمات مرورٍ مستوحاة من الإنجيل.
تكشف دراسة المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (2025) أن 81% من المساجد والكنائس تحوّلت إلى مراكز خدماتية شاملة، تتراوح بين اللقاحات ضدّ الأمراض إلى دروس البرمجة (الكومبيوتر). الخطاب الديني نفسه يخضع لإعادة تشكيلٍ دراماتيكية: 64% من الخطب تُوجَّه نحو “لاهوت البقاء اليومي”، حيث تتحول من الفتاوى إلى أدلّة عملية لإصلاح المولدات الكهربائية أو استخراج المياه الجوفية!
تشريح الفوضى الخلاقة في عصر ما بعد الدولة
في قلب العاصفة اللبنانية، تذوب الحدود بين التكنولوجيا والدين والعنف في بوتقة الوجود اليومي. مختبر الانهيار يختبر نماذج حكم بديلة تعيد تعريف مفهوم السيادة عبر خلط غريب بين العقود الذكية والفتاوى الدينية والعقود الشفهية. “بيروت كوين” (Beirut Coin)، وكما أسلفنا أعلاه، لم تعد مجرّد عملة رقمية، بل نظام حكم موازٍ تسجّل معاملاته عبر واي فاي الأحياء الفقيرة. في الجهة المقابلة، تتحول المساجد إلى مراكز خدمات شاملة، بينما تُعاد صياغة الخطاب الديني ليشمل إرشادات إصلاح المولدات الكهربائية باستخدام أدوات بدائية.
الميليشيات المحلية تكتب فصلًا جديدًا من سوسيولوجيا العنف المنظّم، حيث تتحول من مجموعات مسلحة إلى كيانات اقتصادية عملاقة تسجل نموًا سنويًا يقترب من 120%. عروضها الخدماتية تتراوح بين حماية شخصية بنظام اشتراك شهري (15% من الدخل) وأنظمة تأمين تعتمد على قوانين تعويضات قَبَلية معدّلة. الأكثر إثارة هو تحول هذه الكيانات إلى ممول رئيسي للمشاريع الصغيرة، حيث تقدم قروضًا بضمانات غير تقليدية كـ”رهن المهارات” أو “السمعة الاجتماعية”، في نظام مالي موازٍ يعيد إنتاج العقد الاجتماعي على أنقاض الدولة الفاشلة.
في الخلفية، تبرز ملامح “الدولة الافتراضية” التي تعيد تعريف الانتماء عبر منصات التلغرام التي تدير شؤون الأحياء، بينما تتحول الطقوس الدينية إلى عروض افتراضية في الواقع المعزّز. كل هذا يحدث تحت سمع المولدات الكهربائية التي تئن بأنغام الانهيار، بينما تُسجّل التفاصيل في سجلات رقمية مشفرة بكلمات مرور مستوحاة من آيات قرآنية، في تناغم سوريالي يختصر مأساة عصرٍ يبحث عن يقينيات جديدة في قلب الفوضى الخلاقة.
الممارسات اليومية كمدونةٍ اجتماعية جديدة
المفارقة الأعمق تكمن في كيفيّة تحويل الفراغ المؤسسي إلى مختبر للابتكار الجذري. العقود الذكية التي تدمج لغة البرمجة بالشروط الفقهية، وأنظمة المراقبة بالكاميرات التي تعمل بالطاقة المولدة من ذات المشاريع التي تراقبها، تصنع نسخة مقلوبة من الحداثة: تكنولوجيا متطورة تخدم أنظمة بدائية. هذا التزاوج الغريب ينتج “لاهوتاً عملياً”.
التحدي الأنثروبولوجي الأكبر يتمثّل في قراءة هذه الممارسات ليس كردود أفعال مؤقتة، بل كنموذجٍ ناشئ لإدارة المجتمعات ما بعد الوطنية. الاستبيانات الميدانية تكشف مفارقات صادمة: 62% من سكان الضواحي يفضلون دفع “ضرائب الظل” للميليشيات لقدرتها على الالتزام بالوعود أكثر من الدولة، بينما 41% من القروض الصغيرة تُسدّد عبر مقايضات غير نقدية كإصلاح المولدات أو تدريس البرمجة. هذه الأرقام لا تعكس مجرد انهيار الدولة، بل ولادة نظام معياري جديد تُحدّده “اقتصاديات العنف” و”الرأسمالية الروحية” في آن.
لبنان هنا ليس مجرد حالة دراسة، بل نبوءة مجسّدة لعالم تذوب فيه اليقينيات الكبرى. كل مولّد كهربائي يُشغّل ببنزين مهرّب يصبح بياناً فلسفياً عن مقاومة الوجود، وكل عقد حماية موقّع على واتساب يُعادل دستوراً مصغّراً للعلاقة بين الفرد والسلطة. في هذا المشهد السوريالي، يكتب الإنسان العادي – دون وعي – فصلاً جديداً من تاريخ المقاومة الوجودية، حيث يصير البقاء اليومي إبداعاً اجتماعياً يسبق التنظير الأكاديمي بمراحل. الفجوة بين الممارسة الأرضية والخطاب النخبوي تطرح سؤالاً جوهرياً: أليس هذا التشظي المؤسسي بالذات هو البوتقة التي تُعيد صهر مفاهيم الحرية والعدالة والانتماء في عصر اللايقين؟
(*) راجع الجزء الأول: ما بعد الدولة، ما قبل النظريّة.. التشظي مختبراً للحرية الجديدة (1)