غزة بعد طهران.. اختبار التهدئة أو الانفجار المقبل

بعد اثني عشر يومًا من المواجهة العنيفة بين إيران والاحتلال الإسرائيلي، انتهت الجولة باتفاق على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، جوهره الأساس تفادي انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية شاملة.

لم تكن هذه المواجهة لتفضي إلى ما أفضت إليه لولا تدخل الولايات المتحدة عسكريًا باستهداف منشآت نووية إيرانية، في خطوة حملت رسائل ردعية ظاهرة، وهدفت في جوهرها إلى حماية الاحتلال الإسرائيلي من شبح الاستنزاف، بعد أن بدأت الضربات الإيرانية تضرب عمق الجبهة الداخلية وتكشف هشاشة العمق الاستراتيجي داخل الأراضي المحتلة.

ومع أن الاشتباك كان ثنائيًا في ميدانه، إلا أن آثاره كانت شاملة، وقد أعاد الهدوء الإقليمي المفاجئ الأنظار إلى ساحة الحرب التي لم تهدأ قط: قطاع غزة. فغزة التي كانت المنطلق الأول لدينامية التوتر منذ 7 أكتوبر 2023، بقيت الجبهة المفتوحة والأكثر دموية، بينما تحوّلت باقي الساحات إلى اشتباكات منضبطة، تُدار تحت سقوف سياسية.

اليوم، وبينما تسعى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى تقديم مشهد سياسي يُروّج لنجاح “السلام عبر القوة”، وتبحث إسرائيل عن لحظة تتويج سياسية تُخرجها من مأزق الاستنزاف، تُطرح غزة من جديد كمفتاح الاستقرار.. أو كمفجر للجولة التالية.

فرصة التتويج السياسي من بوابة غزة

بالنسبة لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، فإن الشكل الذي انتهت به المواجهة مع إيران قدّم له مادة سياسية مثالية لتسويق ما يعتبره تتويجًا لـ”ضرب رأس الأخطبوط”، بعد سنوات من استهداف “أذرعته” في المنطقة، في إشارة إلى قوى المقاومة.

فقد روّج نتنياهو إلى أن الحرب على إيران أزالت الخطر الوجودي الذي تمثله الجمهورية الإسلامية، سواء في مشروعها النووي أو منظومتها الباليستية، إلى جانب قدرتها على دعم وتمويل الحلفاء في المنطقة.

وفي سياق هذا التصعيد، نجح نتنياهو في إعادة تجنيد الداخل الصهيوني خلف خياراته الحربية، مستندًا إلى إجماع نادر بين الائتلاف والمعارضة، وكذلك بين المستويين الأمني والسياسي، على ضرورة استهداف إيران. كما استطاع تجميد أزمة قانون التجنيد مؤقتًا بعد تعديل صيغته، ما أقنع أحزاب الحريديم بعدم إسقاط الحكومة، في خطوة هدفت إلى ترميم شرعيته السياسية التي تآكلت بعد فشل السابع من أكتوبر.

وبحسب استطلاعات الرأي الأخيرة، بدأ مؤشر ثقة الجمهور بنتنياهو، خصوصًا داخل كتلة اليمين، بالتعافي. وقد عزّز هذا التحسن عاملان رئيسيان: تجاوز أزمة التجنيد، وتوجيه الضربة لإيران.

لكن في المقابل، أدرك نتنياهو أن إطالة أمد الحرب مع إيران كان من شأنها أن تُحوّل هذا الرضا الشعبي إلى ضغط داخلي، في ظل الخسائر التي ألحقتها الصواريخ الإيرانية بالجبهة الداخلية الإسرائيلية، وضربها لعقدة الاحتلال الأهم: غياب العمق الاستراتيجي. لذلك، جاء التدخل الأميركي بمثابة مخرج حاسم لإنهاء المواجهة قبل الانزلاق إلى سيناريو الاستنزاف.

كما تم التفاخر بالقدرة على ضبط المواجهة مع إيران، فإن المشهد لن يكتمل من دون إنهاء التوتر في غزة، التي تبقى جوهر الصراع، وساحة الاختبار الحقيقية لأي حديث عن استقرار إقليمي في المرحلة المقبلة

استراتيجيًا، لم تحقق الحرب على إيران كل أهدافها، ولم تُحدث الهزة العميقة المطلوبة في بنية النظام الإيراني. لكنها منحت إسرائيل هامشًا ميدانيًا لتوجيه ضربات دقيقة للبنية التحتية النووية والعسكرية، وتعطيل مشاريع حيوية، والظهور بمظهر القوة الفاعلة في الإقليم، وإن كانت حسابات الردع ما تزال غير محسومة بالكامل لمصلحة الاحتلال.

لكن أين تلتقي كل هذه الحسابات مع غزة؟

الجواب يكمن في أن مشهد عودة الأسرى الإسرائيليين من القطاع هو اللحظة الوحيدة القادرة على تتويج مسار نتنياهو السياسي–العسكري، وتقديمه كمن أنجز “أهداف الحرب”. فنتنياهو، المتهم سابقًا بالتخلي عن ملف الأسرى، بات بحاجة لصيغة يُعيد من خلالها تسويق روايته: أن الحرب الممتدة منذ 7 أكتوبر لم تكن عبثية، بل مدروسة، وانتهت باستعادة الجنود ومشاهد “النصر الرمزي”.

أما الرهان على خطة رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير بعنوان “عربات جدعون” كخيار حسم عسكري في غزة، فقد أثبت فشله، كما أن المقاومة الفلسطينية أظهرت قدرة ميدانية فائقة على الصمود، بل واصلت توجيه ضربات موجعة، آخرها مقتل 7 جنود في عملية واحدة في مدينة خان يونس بجنوب قطاع غزة.

وفي المقابل، يتزايد الضغط الدولي، خصوصًا من الإتحاد الأوروبي، الذي بدأ يتعامل مع استمرار الحرب في غزة ككارثة إنسانية لا يمكن تبريرها. وفي ظل هذه المعادلات المتراكبة، يجد نتنياهو نفسه أمام مفترق طرق حاسم:

-إما استكمال مسلسل “مراكمة الانتصارات” بمخاطرة عسكرية جديدة في قطاع غزة قد تؤدي إلى انتكاسة ميدانية، وتآكل مكاسبه الانتخابية.

-وإما التقاط اللحظة الحالية، وختم الحرب بصفقة تبادل تُقدم كإنجاز سياسي واستراتيجي، يُمهد الطريق أمام الذهاب لانتخابات تشريعية مبكرة، يجري الإعداد لها داخل “الليكود”، وسط تقديرات بأن يكون موعدها بحدود مطلع العام المقبل.

وفي هذا الإطار، قد سبق لنتنياهو أن صرّح بأن أفق إنهاء الحرب في غزة قد يكون بحلول تشرين الأول/أكتوبر القادم، أي بعد نهاية العطلة الصيفية للكنيست، وهو ما يتقاطع مع تقديرات رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي الذي رجّح أن تمتد الحرب حتى نهاية العام 2025.

لكن هذا البُعد السياسي، برغم أهميته، ليس العامل الوحيد في صياغة القرار؛ فالمؤسسة الأمنية – من “الشاباك” إلى “أمان” – إضافة إلى مواقف الوسطاء وشكل الصفقة، ستُحدد شكل النهاية الممكنة للحرب، وطبيعة “الوقائع الاستراتيجية” التي يطمح نتنياهو لفرضها ميدانيًا، بما يسمح له بادعاء تحييد غزة من معادلة الصراع.

المقاومة والحسابات الدقيقة

في حسابات المقاومة الفلسطينية، يُمثّل الشكل الذي انتهت به الحرب بين إيران والاحتلال الإسرائيلي مكسبًا استراتيجيًا واضحًا، فالحليف المركزي – سياسيًا، ميدانيًا، ولوجستيًا – بقي متماسكًا، بل وأثبت أنه عصيّ على الاجتثاث العسكري. وهذا المعطى لا يفتح فقط أفقًا لترميم البنية العسكرية للمقاومة الفلسطينية، بل يُعيد ضخ الزخم في بنية محور المقاومة بأكمله، كمحور لم يُكسر برغم الضربات التي تلقاها، برغم الجهد الأميركي–الإسرائيلي المشترك.

إقرأ على موقع 180  "الدرزية السياسية".. زمن البحث عن طوق نجاة مفقود (3)

صمود إيران، في جوهره، شكّل حائط صد رئيسي أمام مشاريع إعادة هندسة الشرق الأوسط على المقاس الإسرائيلي، وتثبيت الهيمنة الأميركية عبر تسويات كبرى تُقصي القوى المقاومة من أي معادلة. ولو جرى تحييد طهران كما خُطّط له، لكان الهامش المتاح أمام المقاومة الفلسطينية للتنفس والمناورة قد تقلّص إلى أقصى حدوده.

ومع أن هذا الشكل من التهدئة فوّت مرة أخرى على المقاومة فرصة الدفع باتجاه تسوية إقليمية شاملة تشمل وقف الإبادة في قطاع غزة – كما حصل سابقًا مع اتفاق حزب الله المنفصل في تشرين الاثني/نوفمبر 2024 – إلا أن النتيجة ليست سوداوية بالكامل. فالقيمة الاستراتيجية لثبات إيران تبقى حاضرة، كضمانة إقليمية لصمود غزة ومجابهة الإملاءات الأميركية–الإسرائيلية.

ميدانيًا، تتعامل المقاومة مع خطة “عربات جدعون” الإسرائيلية كجزء من مسار استنزاف طويل. فهي تدرك أن الاحتلال يسعى لتثبيت سيطرة ميدانية منخفضة الكلفة، وتحاول أن تفشل هذا المسار عبر رفع كلفة التمركز اليومي للقوات الإسرائيلية، لا سيما في الأرواح، لإعادة فتح النقاش داخل إسرائيل حول جدوى استمرار العمليات، وثمن البقاء العسكري في قطاع غزة.

في موازاة الميدان، تخوض المقاومة معركة الرأي العام؛ إذ تدرك أن أخطر ما يواجهها ليس فقط السلاح، بل التطبيع السياسي والإعلامي مع الإبادة، وتحويلها إلى مشهد عابر. ولهذا تسعى إلى إبقاء غزة في قلب الاهتمام الدولي، وتحريك الرأي العام عالميًا عبر الماكينات الإعلامية والمنصات الحقوقية، والتصدي لتحويل المجازر اليومية إلى خبر هامشي.

على مستوى الاتصالات السياسية، تُبدي المقاومة مرونة حذرة في التعاطي مع الوسطاء، خصوصًا بعد التعقيد الذي أفرزه مقترح المبعوث الرئاسي الأميركي ستيف ويتكوف المُصمم على مقاسات المطالب الإسرائيلية، وبالتنسيق المباشر مع الوزير الإسرائيلي رون ديرمر، المسؤول عن ملف التفاوض والمقرّب من نتنياهو والوثيق الصلة بالأميركيين. وبرغم ذلك، تُبقي المقاومة الباب مفتوحًا لأي مبادرة جدية تُفضي إلى وقف فعلي للإبادة، من دون المساس بجوهر مطالبها الوطنية.

إلى جانب ذلك، تُواصل المقاومة التصدي لمخططات “الهندسة الاجتماعية” التي تسعى إسرائيل لتكريسها تحت لافتة “المساعدات الغذائية”، أو عبر تفخيخ المجتمع بجيوب الفوضى وتغذية الميليشيات المرتبطة بالمحتل، إذ تدرك المقاومة أن صمود الجبهة الداخلية هو أساس المعركة، وأن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ترقب باهتمام مدى صلابة هذا الصمود، باعتباره العامل الحاسم في فشل مشروع الاحتلال لإعادة إنتاج غزة ككيان منزوع الإرادة.

في هذا الإطار، فإن المقاومة تُدرك أن استكمال هذا المشهد يتطلب حضورًا إقليميًا أقوى، وضغطًا أميركيًا مباشرًا لفرض وقف حقيقي لإطلاق النار، وبخاصة في ظل سعي إدارة ترامب لتسويق “السلام عبر القوة” كعنوان لسياستها الخارجية. فكما تم التفاخر بالقدرة على ضبط المواجهة مع إيران، فإن المشهد لن يكتمل من دون إنهاء التوتر في غزة، التي تبقى جوهر الصراع، وساحة الاختبار الحقيقية لأي حديث عن استقرار إقليمي في المرحلة المقبلة.

أدرك نتنياهو أن إطالة أمد الحرب مع إيران كان من شأنها أن تُحوّل هذا الرضا الشعبي إلى ضغط داخلي، في ظل الخسائر التي ألحقتها الصواريخ الإيرانية بالجبهة الداخلية الإسرائيلية، وضربها لعقدة الاحتلال الأهم: غياب العمق الاستراتيجي. لذلك، جاء التدخل الأميركي بمثابة مخرج حاسم لإنهاء المواجهة قبل الانزلاق إلى سيناريو الاستنزاف

غزة.. البوابة التي لم تُغلق بعد

وأمام هذا المشهد المركب، تبقى غزة المنهكة، أمّ البدايات وأمّ النهايات، تتأرجح عند لحظة مفصلية قد تُشكّل بوابة لإنهاء أطول الحروب، أو مدخلًا لجولة جديدة من التصعيد، مدفوعة بالمزيد من الرهانات على أن ينجح فائض القوة في انتزاع “النصر المطلق” الذي يركض خلفه بنيامين نتنياهو منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

العامل الأشدّ حسماً في رسم ملامح المرحلة المقبلة سيظل الموقف الأمريكي، الذي ما يزال حتى اللحظة يتبنى المقاربة الإسرائيلية لشكل نهاية الحرب: تصفية المقاومة الفلسطينية، وتحييد قطاع غزة سياسيًا وأمنيًا، وتمكين الاحتلال من سيطرة أمنية مع إدارة غير مباشرة عبر وكلاء محليين، بالتوازي مع تسهيل التهجير القسري المُعاد تسويقه تحت لافتة “الهجرة الطوعية”.

هذه المقاربة – التي تتكرر بشكل فجّ في كل مقترحات ويتكوف ومقاربات الإدارة الأمريكية – لا تؤسس لهدوء، بل لإطالة أمد الحرب، واستمرار معادلة الإبادة المفتوحة. ومع ذلك، فإن أي تحوّل في الموقف الأمريكي، أو مجرد رضوخ لواقع استحالة الحسم العسكري، وتقديم مقاربة تراعي الحد الأدنى من مطالب المقاومة في وقف العدوان وإنهاء الاحتلال المباشر لأجزاء من القطاع، قد يفتح نافذة حقيقية نحو وقف إطلاق نار متوازن: يُحاكي مصالح نتنياهو السياسية، والحاجة الأمريكية لتسجيل “نجاح إقليمي”، ويمنح المقاومة ما يثبت قدرتها على الصمود وفرض شروط الحد الأدنى من العدالة.

الجدير ذكره أن دعوة ترامب لإلغاء محاكمة نتنياهو أو منحه عفواً أحدثت هزة سياسية في الوسط السياسي الإسرائيلي، خصوصًا أن هذه السابقة لا مثيل لها، وتقاطعت مع ما أعلنته هيئة البث الإسرائيلية بأن دعوة ترامب هي جزء من خارطة طريق أميركية ستفضي إلى “الصفقة” التي تضمن عدم محاكمة نتنياهو، شرط التزامه بما هو مطلوب منه.

Print Friendly, PDF & Email
أحمد الطناني

كاتب فلسطيني مقيم في غزة

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  باقون كزهور النرجس