

وبالغعل، أبلغت القيادة اليابانية نظيرتها السوفيتية بالأمر، إلا أن الأخيرة “نامت” على الأمر ولم تبلغ واشنطن بفحوى العرض الياباني لحسابات خاصة بها، تتعلق بالشرق الأقصى وجزر سخالين المتنازع عليها مع اليابانيين، لكن الثابت هو أن الولايات المتحدة كانت قد علمت بالأمر بعد أن استطاعت استخباراتها فك رموز الشيفرة اليابانية، ومع ذلك قامت بضرب هيروشيما في 6 آب/أغسطس 1945 بقنبلة نووية كانت شدتها تصل إلى 13 ألف طن من الـTNT، ثم ألحقتها، بعد ثلاثة أيام، بضرب مدينة ناغازاكي بنظيرة تساوي الأولى في شدتها.
يقول حديث الوثائق إن الجنرال الأميركي ماك آرثر، قائد قوات الحلفاء في اليابان، قد استدعى الإمبراطور الياباني “هيروهيتو” إلى مقر إقامته، لكي يُبلغه ببعض “رغبات قوات الحلفاء”، ويطلب إليه شخصياً أن “يكون مسؤولاً عن تنفيذها”. وحسب الوثائق إياها، كان الإمبراطور في لحظة قدومه إلى المقر يُردّد طوال الوقت: “أهكذا؟”، وكان اليابانيون “لا يملكون إلا أن ينتحبوا في الشوارع”، وفقاً لتلك الوثائق.
وما يُمكن استخلاصه من تلك الوثائق أن الولايات المتحدة كانت تسعى، من خلال هيروشيما وناغازاكي، إلى إرهاب الإتحاد السوفيتي، أكثر منه إلى إخضاع القوة اليابانية، وصولاً إلى إثبات “علو كعبها” على امتداد الكوكب. ما جرى أن الولايات المتحدة مضت، ما بين 1945 – 1951، نحو تفتيت البنية العسكرية اليابانية بغرض “خلق دولة ديموقراطية”، والثابت أنها نجحت بتحقيق هدفها، عبر تلك التحولات، في وضع اليابان داخل “القمقم” الذي ما تزال حبيسته حتى الآن؛ فالقوة الإقتصادية اليابانية لا تعدو أن تكون “ذيلاً” لنظام غربي ما انفك يُمسك بمسكار “حنفيتها” الذي يستطيع من خلاله التحكم بمعايير علو وانخفاض تدفق الماء منها.
خلال 543 يوماً، امتدت ما بين 8 تشرين أول/أكتوبر 2023 و19 كانون ثاني/يناير 2025، ألقت الطائرات الإسرائيلية على قطاع غزة، وهو بثلث مساحة هيروشيما أو أقل أيضاً، ما زنته 79 ألف طن من الـ”TNT”، أي نحو ستة أضعاف الملقى على هذي الأخيرة، كان هذا قبل أن يتجدّد العدوان صبيحة 18 آذار/مارس الماضي بذريعة “مماطلة حماس في تنفيذ اتفاق الهدنة الموقع في 19 كانون ثاني/يناير المنصرم”، وألقت في الجنوب اللبناني على مدى 67 يوماً ما يعادل نصف القوة التفجيرية لهذا الرقم الأخير، في حين تكفل “الأصيل” الأميركي القيام بفعل مماثل لهذا الفعل الأخير في اليمن على امتداد نحو سنة ونصف.
ينتهي الصراع عندما يظهر “هيروهيتو” الغزي، جنباً إلى جنب نظيريه اللبناني واليمني، ثم يذهب هؤلاء إلى “ماك أرثر” الإسرائيلي في مقره العسكري، وليقل، حينها، “هيروهيتو” الغزي: “أهكذا؟”، ولينتحب العرب في الشوارع كما يشاؤون، ولا بأس بعدها من أن تصبح المنطقة “بائع ترانزستور متجول”، وفقاً لتوصيف استخدمه ديغول قبيل اجتماعه برئيس الوزراء الياباني، ساتو
قيل الكثير عن أسباب تجدد العدوان على غزة بدءاً من 18 آذار/مارس المنصرم، ومثله أيضاً على الجنوب والضاحية الجنوبية في لبنان، وعلى اليمن، أو على جبهة “أنصار الله” بشكل أدق، ولربما كان كل ما قيل صحيحاً في جله، بدءاً من تغير موازين القوى على رأس هرم السلطة في تل أبيب وانزياح ثقلها باتجاه العودة نحو استئناف العدوان بعد وصول إيال زامير إلى رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي يساهم في تهدئة حلفاء بنيامين نتنياهو من اليمين المتطرف، ويساعد في استقرار حكومة هذا الأخير، ثم وصولاً إلى مشاريع دونالد ترامب التي ارتقت إلى مناسيب كان من الصعب على أي رئيس أميركي أن يُجاهر بها حتى الأمس القريب، وهذي المشاريع كانت من حيث النتيجة خادمة لعملية استمرار العدوان الإسرائيلي.
من الواضح أن تل أبيب تستنسخ النموذج الأميركي في هيروشيما وناغازاكي، بدعم وإسناد أميركيين لتحقيق أهدافهما المشتركة، وكل ما يقال عن المفاوضات التي يجري الحديث عنها، والتي تشير بعض التقارير إلى وجود مناخات “مشجعة” على التفاؤل حيال إمكانية “العودة إلى اتفاق الهدنة من جديد” أو التوصل إلى صفقة وقف نار وإطلاق أسرى بالتزامن مع مع زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى واشنطن، مطلع الأسبوع المقبل، هو محض “تقطيع” للوقت، والمؤكد أنه حتى لو ثبتت واقعية ذلك التشخيص، وعادت غزة إلى الإتفاق الذي قد يحفظ بعض ما تبقى منها، فإن ذلك لن يكون أكثر من مرحلة مؤقتة لن تتمتع بديمومة طويلة حتى لو أفضى “التناغم” الروسي الأميركي، الحاصل منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، إلى “يالطا” جديدة، لسبب بسيط هو أن الولايات المتحدة ستبقي على قبضتها التي أطبقت من خلالها على منطقة الشرق الأوسط إبّان إقرار “يالطا” الأولى في شباط/فبراير 1945، بل وستكون القبضة أشد إطباقا من سابقتها التي احتوت على بعض النفوذ السوفيتي في المنطقة.
لا يُمكن لصراع ما، من نوع القائم في المنطقة منذ أيار/مايو 1948، أن ينتهي بجولة أو ألف جولة، مهما تكن الخسائر المتراكمة على الضفاف العربية، ومهما يكن حجم التدمير الحاصل على هذي الأخيرة، وهو ينتهي، فحسب كما يرى صانع القرار في واشنطن وتل أبيب، على الطريقة التي انتهى بها الصراع مع اليابان بعد هيروشيما التي فقدت بريقها بعد طبعتها المستنسخة في غزة.
بمعنى آخر، ينتهي الصراع عندما يظهر “هيروهيتو” الغزي، جنباً إلى جنب نظيريه اللبناني واليمني، ثم يذهب هؤلاء إلى “ماك أرثر” الإسرائيلي في مقره العسكري، وليقل، حينها، “هيروهيتو” الغزي: “أهكذا؟”، ولينتحب العرب في الشوارع كما يشاؤون، ولا بأس بعدها من أن تصبح المنطقة “بائع ترانزستور متجول”، وفقاً لتوصيف استخدمه الجنرال شارل ديغول قبيل اجتماعه برئيس الوزراء الياباني، ساتو، في أواخر خمسينيات القرن الماضي. ديغول قال في حينها “ماذا سأقول له، إذا كان يُصر على أنه ليس إلا بائع ترانزستور متجول”.