فلسفة تطوير “البحث الإسلاميّ” وأخواته.. أمثلة مُساعِدة (2)

في الجزء الأوّل، ذكّرنا بالأطر الفلسفيّة والمفاهيميّة الأساسيّة للطّرح المنهجيّ المنشود إذن، انطلاقاً من دراسة مُعمّقة للطّرح المعرفيّ الجوهريّ لدى الفيلسوف الألمانيّ – وربّما الغربيّ - الأكبر عمانوئيل كانط (ت. ١٨٠٤ م) بشكل خاصّ. أمّا في هذا الجزء الثّاني، فالهدف هو محاولة تقريب وتسهيل فهم هذا الطّرح، الذي نعتقد، فعلاً: أنّه مُجدّد ومُجدٍ، من خلال أمثلة بحثيّة تقريبيّة وتصويريّة.

وهنا، قد يقول القائلُ النّاقدُ الموضوعيّ: إنّكم ربّما تُكبّرون من حجم الموضوع بالمعنى المعرفيّ والعلميّ-العمليّ معاً، من خلال تقديمه على أنّه “طرح منهجيٌّ جديد”، ولكنّ الحقيقة هي أنّ الباحث الاسلاميّ – أو الباحث في الاسلاميّات، أو في المواضيع الاسلاميّة، أو في /و/ حول ما يشبهها جميعها – يُطبّق ما تقترحونه: عادةً ولكن، ربّما، بشكل ضمنيّ في أحيان كثيرة. بحسب هذه الزّاوية النّقديّة إذن: “المفهوم الاسلاميّ” قيد النّقاش موجود في تلك الدّراسات، وإن بشكل ضمنيّ، وبالتّالي ليس طرحكم بالجديد عمليّاً.

وقد يذهب البعض، وفي نفس الإطار العامّ واقعاً، إلى أنّنا أمام طرحٍ بديهيّ على طريقة ما سنناقشه في ما يلي.

في الحقيقة، لا أوافق على هذا النّوع من الادّعاءات التي قد تكون صادقة وموضوعيّة.. لأسباب عديدة، أهمّها:

١/ يعلم المتمرّسون نسبيّاً في هذا النّوع من الدّراسات عموماً: أنّ هناك ضعفاً أبستمولوجيّاً (“معرفيّاً”) واضحاً في أغلب الأبحاث وإن صحّ التّعبير، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر باستخراج أو باستقراء أو حتّى باستنتاج “المفهوم/التّصوّر/النّموذج الاسلاميّ” حول قضيّة مُعيّنة، عداك عن الجهود المتعلّقة ببناء تصوّر تاريخيّ مُعيّن حول حقبة أو حدث أو شخصيّة تراثيّة أو تاريخيّة (إلى آخر القائمة، الخاصّة بما سبق، أو الأعمّ منه)؛

٢/ هناك أفراد أو مؤسّسات معيّنون يُلزمون أنفسهم واقعاً بإطار حياديّ-موضوعيّ مُعيّن: ولكنّ الأمر يقتصر، بحسب خبرتي المتواضعة، على بعض الحالات التي لا تُشكّل القاعدة العامّة اطلاقاً. كما بيّنت في كتابات سابقة متعدّدة، نحن أمام حاجة ملموسة ومُلحّة للعمل على مفاهيم “الحياد العلميّ” و”الموضوعيّة” – بشكل خاصّ – ضمن إطار هذا النّوع من الدّراسات؛

٣/ لا أعتقد أنّ حقل “التّنظير/التّفكير/البحث الأبستمولوجيّ” في /و/ حول هذا النّوع من الدّراسات موجود فعلاً، أو أقلّه، لا أعتقد أنّه متعمّق بما يكفي؛

٤/ أعمّ ممّا سبق كلّه: لا زلت أتأكّد، يوماً بعد يوم، من أنّ تقبّل “الباحث الاسلاميّ” – عمليّاً ونظريّاً وفلسفيّاً، وربّما أخلاقيّاً – لكونه يبني مجرّد “تصوّر/مفهوم” حول المعنى المقصود أو المنشود، وأنّ ذهنه لا يُمكن له أن يصل إلى المعنى في ذاته (أو إلى الحقائق في ذواتها)، أقلّه ضمن إطار البحث.. لا زلت أتأّكد، أكثر فأكثر، من الطّابع الثّوريّ والعميق لهذه النّظرة على “عقلنا الاسلاميّ” (والدّينيّ/المقدّس ربّما) ككلّ.

يُصبح الباحث، مع التّبسيط الشّديد، باحثاً عن فرضيّات مُرجَّحة أو عن أدوات قياس مفاهيميّة للمعاني (وللحقائق).. بدلاً من كونه مُنظّراً أيديولوجيّاً أو مذهبيّاً في هذا الاتّجاه أو ذاك.. أو مُدّعياً للوصول إلى المعاني (والحقائق) التّاريخيّة في ذواتها (أليس هذا هو حال الكثيرين في هذه المجالات والدّراسات؟)

ولكي أحاول اقناعك عزيزي القارئ بأهمّيّة هذا الطّرح ككلّ، فلنناقش سويّاً الأمثلة البحثيّة – الاسلاميّة أو الاسلاميّة الطّابع (الخ.) – التّالية.

***

المثال الأوّل؛ يتمحور حول زاوية بحثي الأساسيّة شخصيّاً في السّنين الماضية، وهو الأقرب إلى مهنتي اليوميّة الخاصّة، أي الإدارة الماليّة والمصرفيّة. باختصار ومع تبسيط مَدروسَين:

  • في هذه الدّراسة، سأل الباحث نفسه السّؤال البحثيّ التّالي إذن: كيف يُمكننا اليوم تأويل معنى “الغَرَر المنهيّ عنه” في العقود والمبادلات الماليّة ضمن فقه المعاملات الاسلاميّ، من خلال مفاهيم النّظريّة الماليّة المُعاصرة؟ وما تبعات ذلك على المستوى النّظريّ وعلى المستوى التّقنيّ-العمليّ على السّواء، في ما يعني المؤسّسات الماليّة التي تُريد أن تلتزم بأحكام هذا الفقه الاسلاميّ طبعاً؟
  • كان الهدف هنا: ليس الدّراسة أو التّحليل أو التّفسير القانونيّ البحت، وإنّما محاولة الوصول إلى المعاني المفاهيميّة المعاصرة المُمكنة.. لمصطلح/حكم/قانون/قاعدة فقهيّ(ة) اسلاميّ(ة) تُراثيّ(ة). والقضيّة مهمّة إلى حدّ بعيد: فالغرر لغة هو الخطر (Risque)، والكيفيّة التي ينظر فيها فرد أو جماعة إلى “المخاطرة الممنوعة” في مقابل “المخاطرة المسموح بها”.. ترسم إطار الفلسفة الاقتصاديّة والماليّة لهذا الفرد أو لهذه الجماعة، وترسم إطار مؤسّساتهما وتقنيّاتهما التّبادليّة الماليّة المحتملة.. إلى حدّ بعيد جدّاً.
  • يُمكن العودة إلى التّفاصيل في دراساتنا وكتاباتنا السّابقة طبعاً، ولكنّ طريقة العمل التّأويليّ – إن جاز التّعبير – تمحورت حول الخطوات الأساسيّة التّالية:
  • تنبّهَ الباحث منذ بدايات عمله البحثيّ إلى أنّ “الغَرَرَ” مصطلح مذكور في نصوص مُقدّسة (هنا: السّنّة النّبويّة) بالنّسبة إلى عدد معيّن من النّاس. وما بين أيدينا اليوم ضمن التّراث الفقهيّ.. هو عبارة – واقعاً – عن تأويلات الفقهاء المسلمين وأئمّتهم ومُحدّثيهم (إلخ.) لمعنى هذا المصطلح (عبر العصور). تنبّهَ الباحث أيضاً إلى وجود تناقضات متعدّدة، وخلافات، ومناطق رماديّة (إلخ.): إن كان بين القدماء أنفسهم، أو بين المعاصرين (من فقهاء ومن منظرّين اقتصاديّين ماليّين إلخ).

والمشكلة هنا في الحقيقة تكمن في أنّ التّأويلات المعاصرة الغالبة تؤدّي عمليّاً إلى تحريم أدوات ماليّة مهمّة، بل ربّما جوهريّة.. ضمن عمل الأسواق الماليّة المعاصرة.

  • لذلك، فبعد تفكّر أنطولوجيّ-أبستمولوجيّ-منهجيّ مُعمّق، حاول الباحث الوصول إلى “المعاني المفاهيميّة – والنّظريّة – المعاصرة الممكنة” من خلال: (١) تقبّله وتأكيده على مبدأ أنّه غير قادر على الوصول إلى “معنى الغرر المنهيّ عنه”.. في ذاته (عمليّاً: أي أنّه غير قادر على الوصول إلى معنى الغرر كما قصده الشّارع الاسلاميّ المقدّس هنا)؛ (٢) تقبّله لفكرة أنّه لن يصل إلّا إلى.. “مفهوم” أو “نموذج-مثاليّ” مُرجّح عن أو حول هذا الغرر المنهيّ عنه؛ (٣) بنائه لأداة قياس مفاهيميّة، أي لنموذج-مثاليّ قياسيّ؛ (٤) تعميق دراسة المعالم الأساسيّة لهذا الأخير، ولمعانيها المعاصرة الممكنة؛ (٥) ثمّ مقابلة هذا النّموذج-المثاليّ بعموم المعطيات البحثيّة، لمحاولة تأويل معاني مناطق التّطابق أو عدم التّطابق بين “أداة القياس” تلك وبين “المعطيات التي بُنيت من خلالها”؛ (٦) ومن ثمّ، مقابلة هذا النّموذج-المثاليّ المُحسّن أو المُعدّل عينه مع نماذج-مثاليّة أخرى متواجدة في الأدبيّات أو متخيّلة لهدف البحث؛ (٧) وأخيراً وليس آخراً، وباختصار أيضاً، مقابلة هذا النّموذج-المثاليّ المُحسّن أو المُعدّل مع معطيات العالم العمليّ والتّقنيّ “الخارجيّ” المعاصر، المتمثّل بعالم الأدوات والتّقنيّات والمبادلات الماليّة المعاصرة (إلخ.).
إقرأ على موقع 180  ماذا عن نفاق ابن جبير في رحلته بين الفرنجة والمسلمين؟ (2)

لا شكّ في أنّ العمل هنا كان معقّداً إلى حدّ لا يُستهان به، ولكنّه تمحور حول مفاهيم منهجيّة جوهريّة ثلاثة لا بدّ من التّركيز عليها ضمن هذا المثال وضمن غيره من الأمثلة:

  • اقتناع الباحث واصراره وتأكيده على عدم قدرة ذهنه أصلاً: على الوصول إلى المعنى أو المعاني في ذواتها؛
  • تركيزه بالتّالي: على بناء وتحسين وتعديل واختبار “مفهوم قياسيّ”.
  • .. يُعمّق عَمَليَّتَه البحثيّة التّأويليّة الطّابع، من خلال محاولة فهم المعاني الممكنة لتطابقه أو لعدم تطابقه: مع المعطيات البحثيّة النّصيّة عينها؛ و/أو مع نماذج مفاهيميّة أخرى؛ و/أو مع معطيات الواقع العمليّ (كما هو الحال في موضوع كموضوعنا، يُحتّم النّظر من خلال هذه الزّاوية الأخيرة أيضاً).

في عمليّة كهذه، لا يدّعي أحد أنّه قد وصل أو سيصل إلى ال-معنى.. بل، مع التّبسيط، يطرح فرضيّة مُرجّحة، يُمكن دحضها أو دعمها من خلال دراسات لاحقة. كما عند ماكس فيبر وكارل بوبر، يُصبح “الجهد العلميّ” هنا عبارة عن عمليّة متحرّكة وتراكميّة واستمراريّة، وغير مُكتملة في ذاتها وبطبيعتها.

***

المثال الثّاني؛ يُدلّل واقعاً على نوع ثانٍ من الأمثلة، سِمَتها الجوهريّة أنّها قريبة من مثالنا الأوّل بشكل عامّ، موضوعاً وأهدافاً (وطريقةً منهجيّةً طبعاً)، أي إنّها تنطلق من التّراث الفقهيّ-الشّرعيّ الاسلاميّ خصوصاً، بهدف مُحاولة الإجابة على سؤال تأويل مصطلحات أو أحكام أو قواعد (إلخ.) قانونيّة تراثيّة-كلاسيكيّة (أو ربّما حديثة أحياناً).. تأويلها إذن من خلال المفاهيم المعاصرة.

والمثال المركزيّ الذي أقترحه هنا هو محاولة بناء “المفهوم الاسلاميّ للأسرة الصّالحة”: إذن، (١) انطلاقاً من الخطاب والأحكام والقواعد والنّظريّات (إلخ.) المعنيّة في أبواب الفقه (والتّراث الاسلاميّ المعنيّ ككلّ).. (٢) يكون الموضوع هو محاولة تأويل المعاني المقصودة من خلال الأبنية والنّماذج المعاصرة (مثلاً: مقاصد الزّواج الاسلاميّ من وجهة نظر معاصرة، دور المرأة، دور الأبّ، مقاصد تربية الأولاد، ثقافة البيت في مقابل ثقافة المدرسة، حرّيّة التّفكير داخل الأسرة إلخ.).

من الواضح، في اعتقادي، أنّ الخطوات البحثيّة الأساسيّة هي نفسها عموماً كما وصفناها في ما سبق.

***

المثال الثّالث؛ يُدلّل بدوره على نوع ثالثٍ من المواضيع، والتي يمكن ربّما اعتبار أنّها أكثر حساسيّة بالمعنى العقائديّ والمذهبيّ والعاطفيّ وما إلى ذلك. وهنا تكمن إحدى الزّوايا الجوهريّة لفهم أهميّة الإطار المنهجيّ العامّ الذي نقترحه على الباحثين: يُصبح الباحث، مع التّبسيط الشّديد، باحثاً عن فرضيّات مُرجَّحة أو عن أدوات قياس مفاهيميّة للمعاني (وللحقائق).. بدلاً من كونه مُنظّراً أيديولوجيّاً أو مذهبيّاً في هذا الاتّجاه أو ذاك.. أو مُدّعياً للوصول إلى المعاني (والحقائق) التّاريخيّة في ذواتها (أليس هذا هو حال الكثيرين في هذه المجالات والدّراسات؟).

إنّه نوع “تاريخيّ” من الأمثلة إذن، ويمكن التّدليل عليه من خلال مثال نموذجيّ أقترحه وهو: “ما هي الأحداث الحقيقيّة التي حصلت قُبيل – وعِند وبُعيد – وفاة النّبي محمّد بن عبد الله القريشيّ؟” (مثلاً، خطوط عريضة: سبب مرض الرّسول، حركة الصّحابة من حوله وتموضعاتهم المختلفة، وفاة الرّسول، الوضع الأمنيّ الحقيقيّ في المدينة، ما الذي جرى في السّقيفة تحديداً، التّموضع الحقيقيّ لأبي سفيان بن حرب وللعبّاس بن عبد المطّلب، الموقف الحقيقيّ لعليّ بن أبي طالب إلخ.).

هنا، لتقريب المعنى، يُمكننا مثلاً تخيّل الصّورة النّموذجيّة التي بنتها الباحثة التّونسيّة هالة الورديّ في عملها المعاصر الحديث المعروف حول القضيّة (أي عن آخر أيّام النّبيّ العربيّ).. يُمكننا تخيّل هذه الصّورة على أنّها “تصوّر نموذجيّ – مثاليّ أو قياسيّ”، لا يدّعي تأويل معاني النّصوص التّراثيّة في ذواتها أو فهم الذي حصل في ذاته.. بل هو مُجرّد “تصوّر مُرجّح” عن الذي جرى. ثمّ تتمّ مُقابلة هذا التّصوّر مع المعطيات النّصّيّة (وغيرها من المعطيات، ربّما الأركيولوجيّة الطّابع وما إلى ذلك)، كما مع تصوّرات أخرى متواجدة أو متخيّلة.. ضمن إطار نفس الخطوات الأساسيّة العامّة والمذكورة آنفاً.

***

المثال الرّابع؛ أخيراً وليس آخراً، يُمكن تخيّل أمثلة أكثر حساسيّة من جهة، ولكنّها تُثبت أهمّيّة طرحنا المنهجيّ بشكل متصاعد من جهة أخرى. باختصار، أدعو القارئ العزيز إلى التّأمّل والتّفكّر في الكنز البحثيّ الكبير الذي يُمكن أن نكون أمامه.. إذا ما طبّقنا الإطار المعرفيّ والمنهجيّ العامّ السّابق على مواضيع أساسيّة مثل ما يلي (دون الغوص هنا في التّفاصيل لتعذّر ذلك):

  • مثال ١: إعادة فهم “صفات الله” بحسب النّظرة الاسلاميّة.. ضمن منهجيّة علميّة، لكن من خلال مفاهيمنا (الفلسفيّة والعلميّة) المعاصرة؛
  • مثال ٢: كذلك بالنّسبة إلى مفهوم “وحدة الوجود” من زاوية معاصرة.. في ضوء تحليل الخطاب القرآنيّ بشكل خاصّ مثلاً؛
  • مثال ٣: أيضاً؛ عودة، من زاوية معاصرة، إلى قضيّة.. خلق القرآن؛
  • مثال ٤: القَدَريّة من منظور اسلاميّ؛
  • مثال ٥: “الحياة ما بعد الموت” الجسديّ من منظور اسلاميّ.. لكن من خلال مفاهيم العلم الحديث (إلخ.).

أعتقد، حقّاً، أنّنا قد نكون أمام نقلة نوعيّة في هذا النّوع من الدّراسات والأبحاث.. وهي نقلة قد تساعد واقعاً على حلّ كثير من الاشكاليّات المعرفيّة والمنهجيّة وحتّى المفاهيميّة. فهل نحن جاهزون لمناقشتها وربّما لتطبيقها؟

-اللوحات التشكيلية أعلاه للفنان اللبناني أسامة بعلبكي

(*) راجع الجزء الأول: كانط وتطوير “العقل الإسلامي”: كيف نُسرّع الثورة؟

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  فلسطين في مهب رياح الصحراء المغربية