

منذ ما قبل الاستقلال اللبناني عام 1943، مرورًا بمحطات نكبة فلسطين وثورة يوليو بزعامة جمال عبد الناصر وانقلابات سوريا والعراق والفورة النفطية الخليجية، وحتى لحظة التحول الكبرى التي يعيشها المشرق العربي اليوم، ظلّ سُنّة لبنان جماعة سياسية لا تنفصل عن مجالها الحيوي، العربي والإسلامي، بل تنغمس فيه بوصفه امتدادًا طبيعيًا لكيانيتها، لا مجرد جغرافيا خارجية.
هذا التفاعل لم يكن وجدانيًا أو انفعاليًا فحسب، بل تجسّد عملياً من خلال الإنشداد إلى التجربة الناصرية وجمهورية الوحدة المصرية السورية إلى احتضان الفدائيين في جنوب لبنان (العرقوب)، ودعم ثورة الجزائر، إلى مساندة الثورة السورية، وصولاً إلى التفاعل الإيجابي مع التحولات السورية الأخيرة. في كل هذه المراحل، ظلّ سُنّة لبنان يحاولون إنتاج هوية سياسية لا تُختزل بالطائفة، بل تُقاس بمدى انخراطهم في قضايا الأمة.
ومع صعود الموجة الطائفية في العقدين الأخيرين اللذين أعقبا الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، وتحوّل لبنان إلى ساحة تتقاطع فيها محاور إقليمية ودولية، انحسر هذا الدور لمصلحة “لبنان أولاً”، الشعار الذي رفعه تيار المستقبل غداة مقتلة رفيق الحريري.. قبل أن تُعيد الثورة السورية عام 2011 بث الروح في طائفة كانت تشعر بالتهديد في مواجهة “الأمر الواقع” اللبناني، من جهة والدعم الذي يحظى به من المحور السوري الإيراني من جهة ثانية. فكان من الطبيعي أن تتحوّل البيئة السنية في لبنان إلى داعم سياسي وروحي للثورة، بقدر ما رأت فيها امتدادًا لصراعها الداخلي مع رموز الوصاية.
رفيق الحريري وأحمد ياسين
منذ منتصف القرن الماضي، لعبت المناطق السنية دورًا أساسيًا في احتضان القضية الفلسطينية، بدءًا من صيدا وقرى العرقوب وبرج البراجنة وطرابلس، وصولاً إلى أحياء بيروت التي تحوّل شطرها الغربي، مع اندلاع الحرب الأهلية، إلى عاصمة سياسية للفلسطينيين الهاربين من الأردن. لم يكن ذلك احتضانًا جغرافيًا فقط، بل اندماجًا وجدانيًا وهوياتيًا، بحيث تماهى النضال الفلسطيني مع وجدان سني لبناني تربى على سردية الأمة الواحدة والمصير الواحد.
ومع صعود الحركات الإسلامية في فلسطين، مثل “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ازداد هذا التفاعل ليتخذ بُعدًا دينيًا وقوميًا، لا سيما بعد اغتيال مؤسس حركة “حماس” الشيخ أحمد ياسين عام 2004، وهذا التفاعل بلغ حد مشاركة رئيس الحكومة السابق الشهيد رفيق الحريري في اللقاء التأبيني لياسين في دار الفتوى حينذاك.
وشكّلت تجربة “حزب الله” في المقاومة لحظة تلاقٍ موضعية في التسعينيات وبلغت ذروتها مع تحرير الجنوب اللبناني في العام 2000، لكن سرعان ما بدأت العلاقة تهتز مع اغتيال رفيق الحريري ومن ثم انخراط الحزب في الحرب السورية إلى جانب نظام بشار الأسد. هذا الاصطفاف قضى على ما تراكم من تقاطع سياسي أو وجداني بين السنّة والحزب، ولكن سرعان ما أدى انخراط حزب الله في حرب الإسناد دعما للمقاومين في غزة في خريف العام 2023 إلى ترميم الضرر وهو مسار بلغ ذروته مع استشهاد الأمين العام لحزب الله الشهيد السيد حسن نصرالله ووريثه الشهيد السيد هاشم صفي الدين.
غير أن الزلزال الحقيقي تمثل بسقوط سقوط نظام بشار الأسد في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 2024 وصعود أحمد الشرع إلى سدّة الحكم في دمشق. هذا التغيير فتح الباب أمام تحوّل نوعي في تعاطي سُنّة لبنان مع الدولة السورية الجديدة. فالتجربة مع أحمد الشرع، كانت مشدودة نحو إعادة صياغة علاقة دمشق مع محيطها السنّي، وخصوصًا في لبنان. وفي هذا الإطار، برزت محاولات حثيثة لإعادة بناء الثقة مع الإسلاميين اللبنانيين، من سياسيين ودعويين، ممن حاول النظام السوري السابق تشتيتهم ومنع تصلب عودهم بذرائع عديدة.
مع أحمد الشرع.. ولكن!
في لقاءات غير معلنة جمعت دوائر مقربة من الرئيس أحمد الشرع بشخصيات سنية لبنانية هويتها إسلامية حركية، ظهر خطاب مختلف: لم يكن خطاب مجاملة أو استرضاء، بل توجه صريح نحو “اندماج المسلمين السُنّة في لبنان بالدولة والانخراط في المؤسسات”، لا بوصفهم حالة احتجاج على إحباط ما، بل كشريك دستوري في إعادة البناء السياسي. كانت الرسالة واضحة: لقد ولى زمن الإسلام السياسي كقوة تغيير جذرية، والمطلوب اليوم هو التموضع ضمن مشروع الدولة الوطنية، لا على هامشها ولا ضدها.
هذا الخطاب، الذي كرّره الرئيس الشرع شخصيًا في أكثر من مناسبة، ترافق مع موقف واضح من الإسلاميين، خلاصته: ليس مطلوبًا منهم التخلي عن هويتهم، بل ترجمتها في سياق الدولة لا الثورة. وفي خلفية هذا التوجه، بدا أن النظام الجديد في دمشق يتبنى رؤية استراتيجية تقوم على تصفية بقايا المشاريع الإسلاموية السياسية في الإقليم، سواء أكانت جهادية أو حزبية أو سلطوية مقنّعة، تمهيدًا لإعادة هندسة الفضاء السنّي في المشرق العربي وفق معادلة الدولة لا الجماعة؛ حكومة الشام بديلاً لحكومة إدلب.
وفي الوقت الذي كانت هذه التحولات السورية تتبلور، كان الإقليم يشهد بدوره عملية إعادة تموضع. فقد تلاقت إرادة دمشق الجديدة مع إرادة إقليمية ودولية تقودها ثلاث عواصم: واشنطن دونالد ترامب، رياض محمد بن سلمان، ودمشق أحمد الشرع. جمعت الرياض ترامب بالشرع، في لحظة وصفت بأنها تأسيسية لإعادة ضبط التوازن السني في المنطقة، بعيدًا عن إرث الإخوان المسلمين من جهة وإرث الوصاية الإيرانية من جهة ثانية. هذا اللقاء أكثر من رمزي. الدولة السورية الجديدة باتت جزءًا من منظومة إقليمية تتصدّرها السعودية وتركيا والولايات المتحدة، ما شجّع شرائح واسعة في البيئة السنية اللبنانية على التعاطي مع الشرع بوصفه شريكًا محتملاً في إعادة إنتاج استقرار المشرق العربي.
واللافت للانتباه أن هذا الانفتاح لم يُسقط الحسّ النقدي من الخطاب السني اللبناني. فعلى الرغم من تأييدهم السياسي الضمني لتجربة الشرع، لم يتردّد مفكرون ودعاة وساسة سنّة في انتقاد ممارسات أمنية اتُّهمت بها سلطات دمشق الجديدة، لا سيما في الساحل والسويداء، حيث وقعت انتهاكات بحق مدنيين بذرائع أمنية عديدة. وقد أكدت هذه الأصوات أن دعم التجربة السورية الناشئة لا يعني الصمت عن تجاوزات ميدانية أو تكرار أساليب النظام السابق.
هذا النقد لم يكن عدائياً ولا شعبويًا، بل استند إلى منطق الشراكة المشروطة، إذ أن ما يُميز الخطاب السني اللبناني اليوم هو قدرته على التمييز بين مسار سياسي إصلاحي يجب دعمه وممارسات ميدانية طائفية تستوجب النبذ والنقد والمساءلة.
سُنّة لبنان.. أهل استقرار
وفي لبنان، لم تكن تداعيات أحداث السويداء السورية محصورة داخل الجغرافيا السورية، بل امتدت ارتداداتها سريعًا، حيث استشعرت القيادات السنيّة والدرزية معًا منزلقات ومخاطر الخطاب الطائفي. ومع تصاعد الضغوط على وليد جنبلاط من داخل بيئته وخارجها، برزت مواقف سُنّة لبنان – دينيًا وسياسيًا – كعامل توازن فعّال. وقد شكّل موقف مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان نقطة ارتكاز، إذ عبّر بوضوح عن تضامن وجداني مع ضحايا السويداء، من دون الانجرار إلى خطاب التحريض. كذلك لعب رؤساء الحكومات السابقون (نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة، تمام سلام) دورًا محوريًا في تحصين جنبلاط سياسيًا، والدفاع عن “خط الاعتدال”.
لم يكن هذا التفاعل ظرفيًا، بل عكس إدراكًا عميقًا بأن استقرار لبنان يتطلب حماية خطوط التواصل بين مكوناته، وفي مقدمتها العلاقة السنية–الدرزية، التي مثّلت منذ نهاية الحرب الأهلية أحد أعمدة السلم الأهلي. ومن هنا، فإن موقف سُنّة لبنان لم يكن مجرد تعاطف مع ضحايا، بل مبادرة سياسية لحماية التوازن الداخلي، وتثبيت قواعد شراكة وطنية في لحظة كانت الفتنة تطرق الأبواب.
وهكذا، يؤكّد سُنّة لبنان اليوم أنهم ليسوا فقط طرفًا في معادلة طائفية، بل ركيزة في معادلة الإستقرار الداخلي والإقليمي؛ هم يجمعون بين حسّهم القومي ووعيهم السياسي؛ بين الوفاء لقضايا الأمة والعقلانية في بناء الدولة الوطنية. وفي زمن تُعاد فيه كتابة خرائط النفوذ، فإنهم لا يقفون على الهامش، بل يُشاركون من موقع الشريك لا التابع، الحليف لا المُلحق، الضامن لا المزايد. ومن موقعهم هذا، يبدون أحد أكثر المكونات اللبنانية وعيًا بمسؤولية اللحظة، وإدراكًا أن دعم دمشق الجديدة لا يمرّ إلا عبر شرط بيروت المستقرة.