أيُّ “شرقٍ أوسط جديد” تُريدُه أميركا.. مأزوماً أم مستقراً؟

خمسون يوماً مرّت علی الاعتداء الذي شنّه الكيان الإسرائيلي علی إيران في 12 يونيو/حزيران الماضي لكن تداعيات هذا الاعتداء ما زالت مستمرة، وسط حالة ترقب لما سيأتي من تطورات إستناداً إلی الدور الذي أوكلته الولايات المتحدة لـ"إسرائيل"، سياسياً وأمنياً، وصولاً إلی "شرق أوسط جديد"، يلوّح به رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في العام 1991 وانتهاء الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ارتسمت معالم نظام دولي جديد، أساسه القطبية الأميركية الأحادية، فيما كانت منطقة الشرق الأوسط تشهد تداعيات لهذا التحول الكبير، ولا سيما لجهة ملء الفراغ الذي أحدثه هذا الانهيار.. ومع الوقت تبلورت ثلاثة مشاريع إقليمية: المشروع التركي، المشروع الإيراني، والمشروع الإسرائيلي في حين سٌجل غياب كامل لأي مشروع عربي في مواجهة هذه المشاريع الإقليمية.

وقد ظهر المشروع التركي بشكل واضح بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس رجب طيب اردوغان علی تركيا في العام 2002، وهو مزيج من الطموحات السياسية والاقتصادية والعسكرية وهدفه تعزيز مكانة تركيا كقوة إقليمية رائدة تعتمد علی موقعها الجيوسياسي ومواردها الاقتصادية مثل الطاقة والمياه والزراعة والسياحة والمعادن وإرثها التاريخي بوصفها وريثة الامبراطورية العثمانية التي سيطرت علی مساحات واسعة من الشرق الأوسط والبلقان لقرون من الزمن. هذا التاريخ الذي استخدم لتبرير دور تركيا كقوة إقليمية وتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والاسلامية كدولة علمانية ذات طابع اسلامي معتدل مما جعلها كنموذج جذّابة لدول عربية تتبنی المذهب السني في مواجهة النفوذ الإيراني الشيعي.

أما المشروع الإيراني، فقد اعتمد استراتيجية تقوم على “تشكيل” أو “المساهمة في تشكيل” نظام إقليمي بديل عن النظام السابق تكون لدول الإقليم فيه حظوة وأسبقية علی حساب المصالح الإسرائيلية وبعيداً عن أي نفوذ أميركي وأجنبي في المنطقة، على قاعدة “أهل المنطقة أدرى بشعابها”.

من الواضح أن الولايات المتحدة تريد للدولة العبرية أن تتولى بالنيابة عنها إدارة منطقة الشرق الأوسط تمهيداً لنقل الثقل الأميركي إلی بحر الصين، كما تُردّد المصادر الأميركية، والثابت أن تمدد المشروع الإسرائيلي لن يسهم في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة بل سيضعها على سكة المزيد من الأزمات وبؤر التوتر التي لا حد لها ولا مخرج، لا بالتطبيع ولا بغيره

وقد بدأت إيران بالمضي قدماً في هذا المشروع تحديداً بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988 لكنها وجدت الظروف مؤاتية أكثر بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003 والذي سقط معه النظام الرسمي العربي الذي كان العراق بوابته الشرقية. هذا الفراغ الذي ولّده الاحتلال الأميركي للعراق جعل لعاب الإيرانيين يسيل، وهم الساعون إلى إعادة تشكيل منظومة أمنهم القومي والإقليمي، غداة حرب الثماني سنوات مع العراق، فوجدوا الفرصة سانحة للتمدد حتى شواطیء البحر الأبيض المتوسط ومن ثم تشكيل ما أسمي “محور المقاومة” في مواجهة “إسرائيل” والتواجد الأجنبي في المنطقة، مستفيدين من موقعهم الجغرافي الاستراتيجي علی “طريق الحرير” وبين المنطقة الخليجية وبحر قزوين لتعزيز نفوذهم الاقتصادي والعسكري في هذه المنطقة.

وإذا كان المشروعان التركي والإيراني هما مشروعان إقليميان، ولكل منهما حساباته الأمنية والسياسية والاقتصادية، سعياً إلى تعزيز نفوذ إقليمي ما، إلا أن تنافسهما لا يُلغي حقيقة دعمهما للشعب الفلسطيني كونه شعب مشرد من أرضه ويكافح لتحريرها، وتعاملهما مع الكيان الإسرائيلي بوصفه كياناً محتلاً لأراض عربية إسلامية ومع الشعب الفلسطيني. في المقابل، كان المشروع الإسرائيلي يری نفسه متناقضاً مع باقي المشاريع ويحاول الاستفادة من مكانته في حسابات الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة من أجل توسيع احتلاله وتعزيز هيمنته وصولاً إلى “إسرائيل الكبری” التي تمتد “من النيل إلی الفرات”، كما يؤمن ويعمل علی “تجزئة المُجزّأ وتقسيم المُقسم” وهو مفهوم يحمل دلالات دينية وسياسية ويستند الی تفسيرات توراتية وسياسات توسعية تاريخية بعضها دينية مزعومة والأخری سياسية صهيونية.

وخلال الأشهر الماضية، شهدت المنطقة تطورات مهمة انعكست بشكل واضح علی هذه المشاريع الثلاثة في ضوء تراجع النفوذ الإيراني مع سقوط نظام بشار الأسد الحليف لإيران، وما حدث في لبنان من انهيار لقوة الردع التي ظلّلت لبنان طوال ربع قرن واغتيال قادة المقاومة ومحاولة توهين بيئة حزب الله واضعاف دوره السياسي في لبنان. هذه الأحداث حفّزت المشروعين التركي والإسرائيلي للتمدد ولا سيما بعد سيطرة “هيئة تحرير الشام” المدعومة سياسياً وأمنياً وعسكرياً من تركيا علی دمشق في الوقت الذي تمددت فيه القوات الإسرائيلية لتحتل ما يزيد عن 600 كلم2 من الأرض السورية والتحكم من خلال جبل الشيخ الاستراتيجي بالعاصمة السورية نفسها وصولاً إلى إعادة صياغة الوضع السوري بما يُحقّق المصالح الإسرائيلية في المنطقة.

في هذا السياق، يُمكن الربط بين أحداث 12 يونيو/حزيران (العدوان الإسرائيلي على إيران) وأحداث تموز/يوليو الماضي السورية (السويداء)، حيث اندفع المشروع الإسرائيلي لغرس أنيابه وأظافره في الجسم الإقليمي لكي يُبشّر بولادة قريبة لما يُسمى “الشرق الأوسط الجديد” بدعم أميركي، وهذه الأحداث زادت منسوب القلق من وقوع أحداث مماثلة علی طول الحدود العراقية السورية، في سياق التمهيد لتنفيذ “ممر داود”.

إقرأ على موقع 180  حكومة الحريري.. بلا ثلث معطل للجميع!

وهنا ينبغي التذكير بأمر بالغ الأهمية، سبق وأن تناولناه في مقالات سابقة، وهو اعلان الولايات المتحدة عن نقل إسرائيل من نطاق القيادة الأوروبية الأميركية (EUCOM) إلی نطاق القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM) في كانون الثاني/يناير 2021. هذه الخطوة صار بالامكان تفسيرها في ضوء التطورات التي شهدتها المنطقة في السنتين الأخيرتين، ولعل سمتها الأبرز هذا الاندراج الأميركي في تعزيز المشروع الإسرائيلي، من خلال دعمه وتعزيز التعاون الاستراتيجي معه في مواجهة التحديات الأمنية المشتركة ولا سيما “التهديد الإيراني” وبما يُعزّز الهيمنة الأميركية علی المنطقة، على حساب شعوبها ولا سيما الشعب الفلسطيني.

في الخلاصة، من الواضح أن الولايات المتحدة تريد للدولة العبرية أن تتولى بالنيابة عنها إدارة منطقة الشرق الأوسط تمهيداً لنقل الثقل الأميركي إلی بحر الصين، كما تُردّد المصادر الأميركية، والثابت أن تمدد المشروع الإسرائيلي لن يسهم في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة بل سيضعها على سكة المزيد من الأزمات وبؤر التوتر التي لا حد لها ولا مخرج، لا بالتطبيع ولا بغيره.

([email protected])

Print Friendly, PDF & Email
محمد صالح صدقيان

أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  سوريا بين «شياطين» المصالحة.. و«ملائكة» التقسيم!