فلسطين.. حرب ابادة الصورة والكلمة

فى صباح لم يبدأ بعد، برغم أن الصباحات والمساءات فى غزة متشابهة حد الوجع المُزمن، فلا شىء سوى مزيد من القتل والتجويع والمرض والصواريخ ورصاص القناصة يصطاد الأطفال كما الكبار وهم يقفون طوابير طلباً لمساعدات قد لا تصل، بل هى مصيدة أخرى ضمن خدع حرب الإبادة.

هناك، وفى ذلك الصباح، استمروا فى مطاردة الرواية التى هى بالنسبة لهم كما المُقاوم أكثر خطورة على كيانهم الهشّ من القنبلة. راحوا يغتالون الكلمة، ويبيدون الصورة، أو هكذا تراءى لهم، رغم أن أنس الشريف وزملاءه محمد قريقع وإبراهيم ظاهر ومؤمن عليوة ومحمد نوفل ليسوا أول ولا آخر من تطارده آلات إبادتهم. لأن مجرم الحرب يعمل دوماً على طمس الحقيقة التى ستُدينه مرة.. ومرات.

***

الصباح مُثقَّلٌ بالدخان والدم. وبين أنقاض حى الزيتون فى غزة، كان أنس الشريف يحمل كاميرته كما يحمل المُقاوم بندقيته. لم يكن مجرد صحافى، بل كان عيناً للناس، وضميراً حياً فى زمن التواطؤ. وبينما كان يوثق لحظات القصف الإسرائيلى على المدنيين، استُهدف أنس بشكلٍ مباشرٍ، رغم وضوح هويته الصحفية، ورغم أنه كان يرتدى سترة الصحافة.

***

اغتيال أنس لم يكن حادثاً عرضياً، بل رسالة واضحة: من ينقل الحقيقة يُقتل. لقد وثّق أنس، فى أيامه الأخيرة، مشاهد الأطفال تحت الأنقاض، وصرخات الأمهات، ودموع المُسعفين، فصار هو نفسه مشهداً من مشاهد الألم الفلسطينى. أنس ورفاقه ليسوا الأولين ولن يكونوا الأخيرين طالما حرب إبادتهم ومخططاتهم مستمرة. ورغم أن الأعداد للإعلاميين والصحافيين الفلسطينيين تطول وتطول إلّا أن هناك آخرين كُثر لم تدون أسماؤهم. لم تكن حروب إبادتهم للكلمة تقف عند حدود الأرض التى احتلوا واستعمروا بل طالت الصحافيين فى مدن وبلدان كثيرة، فلم يكن غسان كنفانى الأول ولا الأخير الذى مُزّقت أشلاءه فى بيروت، بل هناك إعلاميون وكُتاب فلسطينيون طاردتهم آلة الموت الصهيونية فى أحياء وبلدان بعيدة.

***

الصهاينة يحاربون السردية كما يغتالون ذاك الشيخ المتمسك بشجرة زيتونة تقتلعها جرافاتهم من الأرض، متصورين بأنهم بذلك يقضون على الزرع والإنسان معاً. إلّا أن الأرض تنبتُ الزهر والزيتون والمقاومة كما تنبت شقائق النعمان فى سهول وجبال فلسطين.

***

تُردّد تلك المذيعة السؤال على ضيفها مجرم الحرب مرتدى البدلة وربطة العنق المزركشة “لماذا لا تسمحون للصحافيين الأجانب ومراسلى وكالات الأنباء ومحطات التلفزة الأوروبية والأميركية بدخول غزة؟”. فيعيد هو، كما غيره من مجرمى حرب الإبادة، الإجابة الممجوجة نفسها التى تتكرر منذ أكثر من سبعين عاماً، لتبقى سرديتهم هم فقط لا غير. حتى إن كثيراً من العرب صدقوها وأعادوا ما تنشره الجيوش الإلكترونية الصهيونية وهى المسيطرة على إعلامهم أيضاً، بل حتى على كثير من المؤسسات الإعلامية الأميركية والأوروبية. ألم تفتضح الروايات فى “نيويورك تايمز” عندما نتعرف على أن الصحافيين فى تلك الصحيفة، وكثيراً من العاملين فى غيرها، كانوا جنوداً فى جيش الاحتلال؟ وفيما المذيعة تُكرر السؤال لأكثر من ضيف، قامت مجموعة من 200 من الصحافيين والمراسلين الأجانب بتوقيع عريضة تطالب بالسماح الفورى لهم بالدخول إلى غزة لتوثيق ما يجرى، معززين طلبهم بأن هذا المنع يشكل تعتيماً ممنهجاً، وهو يمسُّ جوهر حرية الصحافة والإعلام التى نصت عليها الاتفاقيات والمواثيق الدولية، وأهمها المادة 19 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية. كما أشاد هؤلاء الصحافيون والصحفيات بشجاعة الصحافيين الفلسطينيين الذين يواصلون العمل رغم الجوع والقصف، وفقدان أفراد عائلاتهم، مؤكدين أن الدفاع عن حرية الصحافة فى غزة هو دفاع عن الحقيقة فى كل مكان.

***

عمل هؤلاء الإعلاميون المهنيون، ربما، على إعادة التذكير بدورهم. وفى ظل تعتيم وتزييف للحقائق سقطت فيه كثير، بل ربما كل مؤسساتهم. ففى ظل الأزمات والحروب يتطلع المراقبون للإعلام ليكون مرآة حقيقية للواقع. إلا أن الإعلام الغربى كشف عن انحياز تلك المؤسسات، بل تواطؤها فى إعادة تكرار الخطاب الصهيونى. فمؤسسات كبرى كـ”نيويورك تايمز”و”بى بى سى”و”سى إن إن” تبنَّت فى كثير من تغطياتها- حتى فى المصطلحات والمفردات- ما يساوى الضحية بمجرم الحرب، مثل “اشتباكات” بدل “قصف” و”مقتل صحافى” بدلاً عن “اغتيال صحافى”، متجاهلة كل تاريخ هذا الكيان منذ احتلاله لفلسطين ومخططاته التوسعية التى لم تكن أكثر وضوحاً منها اليوم. ورئيس وزراء الكيان ومسؤولوه يردّدون “حقهم” التاريخى فى الأرض من النهر إلى النهر! وهنا ساهمت تلك المؤسسات، وغيرها، ومعها الكثير من الهيئات الإعلامية العربية، فى اغتيال الصحافيين والإعلاميين الفلسطينيين مرتين: مرة عندما أصابتهم صواريخ جيش الاحتلال، ومرات عندما يعيدون تكرار الرواية الصهيونية.

هنا يصبح الصمت الإعلامى أو التزوير شريكين فى جريمة الإبادة والتطهير العرقى ويصبح الإعلام كالقنبلة “الذكية” آلة حرب تغتال الحقيقة كما يغتالون هم أهلنا فى فلسطين ولبنان وسوريا.. ووو!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  بوصلة غزة.. صراعنا أولاً مع الغرب الإستعماري
خولة مطر

كاتبة من البحرين

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  إسرائيل تُقحم "الترسيم" في إنتخاباتها.. شريك لبناني "جديد"!