

هدى بركات، الروائية اللبنانية المولودة في بشري عام 1952، واحدة من أبرز الأصوات النسائية في الأدب العربي الحديث. غادرت لبنان في سنوات حربه الأهلية إلى فرنسا حيث استقرّت، لكنها لم تغادر العربية ولا قضاياها. تكتب بلغة مُكثفة ومشحونة بالأسئلة الوجودية، ويغلب على رواياتها التوغّل في المناطق المعتمة من الروح البشرية: المنفى، الفقد، الذاكرة، العطب، والبحث عن معنى وسط الخراب.
نالت بركات جوائز أدبية عديدة، كان آخرها جائزة الشيخ زايد للكتاب (2025) عن روايتها «هند أو أجمل إمرأة في العالم»، بعد مسيرة كانت قد توّجتها سابقًا بجائزة “البوكر” العربية و”جائزة نجيب محفوظ” وغيرهما.
من هند إلى هنادي
الرواية تنطلق من ظلّ إمرأة فائقة الجمال تُدعى هند، لكنها تغيب باكرًا، تاركة وراءها أثرًا يطغى على كل من حولها. الأخت الباقية، هنادي، تصير نسخة نقيضة: جسدها مشوّه بمرض نادر يجعلها ضخمة الأطراف ومرفوضة اجتماعيًا. هكذا تُبنى الرواية على مقابلة بين “أجمل امرأة” و”أقبح جسد”، بين المثال الذي يغيب والواقع الذي يتضخّم. لكن هدى بركات لا تُقدّم هنادي كضحية فقط، بل كوعي جديد يقلب المعايير ويكشف زيف الصور النمطية عن الجمال والحب والانتماء.
ابتكار صوت القبح
ما فعلته هدى بركات في هذه الرواية هو قلب المعادلة الجمالية: تحويل القبح من لعنة إلى مساحة للكشف، ومن stigma إلى لغة جديدة للتعبير. فهنادي لا تحاول الانتصار للجمال الضائع، بل تكتب سرديتها من قلب العطب. هنا تنكشف براعة الكاتبة في تحرير النص من ثنائية الضحية والجلاد، لتجعل من التشوّه نفسهُ “هوية سردية”، قادرة على إنتاج معنى أعمق من مجرد صورة جميلة.
هدى بركات كعادتها تحفر في الباطن: المرض ليس مرضًا عضويًا فقط، بل استعارة عن مجتمع مأزوم، عن جسد عربي مثخن بالندوب، يبحث عن مرآة صافية فلا يجد سوى وجوهًا متكسّرة. كأن هنادي تحمل في تضخّم أطرافها تضخّم أزمات أوطاننا، وفي تشوّهها تجسيد انهياراتنا اليومية. بذلك تتحوّل الرواية إلى ما يشبه “تجسيدًا أنثروبولوجيًا” لفكرة الجمال المفقود في زمن الخراب.
اللغة بين البساطة والانكسار
لغة الرواية تخلّت عن البلاغة الزخرفية لصالح جُمل قصيرة، لاهثة أحيانًا، كأنها تقف على حافة الانقطاع. هذا الاختيار ليس عفويًا؛ إنه جزءٌ من المعنى. فالقارئ يشعر أن السرد يُقال بلسان مُرتبك، مُثقل بالجسد المشوّه، وكأن اللغة نفسها تأثرت ببطلتها. تلك اللغة لا تزيّن ولا تُخدّر، بل تواجه القارئ ببرودتها الحادّة، بصدقيتها العارية.
الرمزية بين لبنان وفرنسا
المكان حاضر بقوة: لبنان المتصدّع الذي ينهار اقتصاديًا وسياسيًا بعد الانفجارات والأزمات المتتالية، يقابله فضاء باريس ببرودته وغربته. هنا يظهر المنفى لا كحلم خلاص، بل كمساحة أخرى للاغتراب. فرنسا لا تُقدّم علاجًا حقيقيًا لهنادي، بل تزيد غربتها، في حين يبقى لبنان كجرح لا يُشفى. الرمزية واضحة: لا الخارج يُنقذ، ولا الداخل يُعيد الحياة، وإنما الذات وحدها التي تستطيع مواجهة قبحها وخلق جمال بديل.
ثنائية الموت والحب
من أجمل ما تقدّمه الرواية هو فكرة الحب الممكن برغم العطب. لقاء هنادي مع رجل مكسور ومشوّه بدوره يفتح أفقًا للحب المختلف، حيث يتحرر الإنسان من معايير الجمال النمطية. لا يعود الحب علاقة بين “مكتملين”، بل بين هشاشتين تعترفان بعجزهما. في هذه النقطة، تنقل بركات القارئ إلى مساحة فلسفية عميقة: الحب كخلاص لا يأتي من الكمال، بل من الاعتراف بالنقص.
ما ابتكرته هدى بركات
يمكن القول إن الجديد في هذه الرواية هو تفكيك وهم الجمال كمعيار مطلق. فالقبح لم يعد عيبًا يُخفيه النص، بل أصبح صوتًا رئيسيًا. هكذا تحوّل القارئ إلى شاهد على تلاشي الحدود بين الجميل والفظيع، بين الحياة والموت. هذا الابتكار يتجاوز تقنية السرد، ليطرح سؤالًا فلسفيًا: ماذا يبقى من الإنسان حين يُسلب منه جماله؟ وما القيمة الحقيقية للحب إذا كان مبنيًا على صورة زائلة؟
الجوائز وتكسير المرايا
فوز رواية هند بجائزة الشيخ زايد لا يُقرأ فقط كتقدير شخصي للكاتبة، بل كما يراه البعض بأن الأدب العربي صار أكثر استعدادًا للاحتفاء بالمهمّشين وبالأصوات التي تُعيد التفكير في معاييرنا الثقافية.
هدى بركات لم تكتب رواية سهلة أو تجارية، بل كتبت نصًا يُقلق القارئ، ومع ذلك حصد الاعتراف الأكبر. هذا يدل على تحوّل في الذائقة الأدبية العربية نحو قبول المغامرة الجمالية والفكرية.
وإن كنت أخالف – برأيي المتواضع – عالم الجوائز وسياساته واستراتيجياته، فإن المهم في رواية «هند أو أجمل امرأة في العالم» أنها ليست مجرد حكاية عن أخت جميلة وأخرى مشوّهة. إنها رحلة في معنى أن نكون بشرًا في عالم يُقدّس الصورة وينسى الجوهر. هدى بركات قدّمت نصًا يُقاوم السطحية، نصًا يجعل القارئ يعيد التفكير في ذاته قبل أن يحكم على الآخر.
في زمنٍ نُصابُ فيه جميعًا بتضخّمات وانكسارات، تأتي هذه الرواية لتُكسّر المرايا وتُذكّرنا أن الأدب قادر على أن يجعل من القبح نفسه جمالًا جديدًا، جمالًا صادقًا، يكتب للآتين من بعدنا.