إسرائيل إن صارت “كبرى”.. جيش عربي بأمرتها (2/1)

..إذا صارت كبرى وسمح التاريخ بذلك، فالتاريخ يقف اليوم عند المفارقة الكبرى: الصراع بين الاحتلال ومقاومة لا يتوقف، والنصر في هذا الصراع كان على مرّ التاريخ حليف المقاومة، في معظم الأحيان.

إذا سمح التاريخ بأن تقوم دولة إسرائيل الكبرى يعني أن تتكلّل جهود الحكام العرب بالنجاح، فهذه الدولة هي إلى حدّ كبير من صُنعِ الحكّام العرب، وبضاعة تخرج من مصانع سياساتهم، على الرغم من صحة كل ما يُقال عن دور الدعم الحربي الأميركي، وعن دور بريطانيا في إنشاء الكيان اليهودي وتسليحه في وجه الفلسطينيين العزَّل، وعن دور فرنسا في تزويد هذا الكيان بسلاح نووي منذ نشوئه، وعن دور ألمانيا النازية في التعاون مع الوكالة اليهودية في تجميع يهود أوروبا ونقلهم إلى فلسطين.

بعد التنظيم الجديد الذي فرضه الاستعمار البريطاني/ الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي على المشرق العربي وتقسيمه إلى دول غير مستقلة عنه، بل مستقل بعضها عن بعض، وزرع في فلسطين دولةً فاصلة (هي إسرائيل) تَحول دون التواصل بين سوريا ومصر، وتفصل المشرق عن المغرب، وذلك بموجب مقررات المؤتمرات الامبريالية التي كانت تعقدها الدول الاستعمارية (وبخاصة مؤتمر لندن 1907)، ها هي المنطقة نفسها تعيش في عشرينيات القرن الحالي وضعاً شبيهاً تحت وطأة الاستعمار الأميركي/ الإسرائيلي وإمعانه في تقسيم المنطقة بما يتوافق مع المرحلة الأولى من مراحل انتقال إسرائيل إلى إسرائيل كبرى، أي الانتقال من احتلال فلسطين إلى احتلال المناطق المحيطة بفلسطين، وفقاً لخارطة المشرق العربي، كما رسمها المشروع الصهيوني ووافق عليها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بقوله: “إسرائيل مساحتها صغيرة ويجب أن تتوسع”.

المساعدة العربية لإسرائيل

الناظر بعين فاحصة إلى العلاقة بين العمل الحربي الإسرائيلي ضد الفلسطينيين وضد المساندين لهم في مقاومة إسرائيل، وبين تأييد قسم كبير من الحكام العرب للعمل العسكري الإسرائيلي، لأسباب وخلفيات تعود إلى التداخل الذي أقامه المستعمر الغربي بعد الحرب العالمية الأولى بين إقامة دولة يهودية قوية في فلسطين، وإقامة دول عربية ضعيفة حولها يضمن إبقاءها ضعيفةً حكّامٌ عرب أرسى المستعمر نفسه آلية لا توصِل إلى سدّة الحكم إلّا أصحاب النوايا الصادقة في الولاء لإسرائيل؛ هذا الناظر يرى بوضوح أن تلك العلاقة هي استمرار بشكل جديد للعلاقات القديمة التي كانت قائمة سراً بين زعماء عرب وبين الجيش الإسرائيلي في المراحل الأولى من احتلاله للأرض الفلسطينية، حين ساعد أولئك الزعماء ذلك الجيش على قمع الثورات الفلسطينية التي هبّت في وجهه سواء أثناء حرب فلسطين الأولى والثانية أو أثناء ثورة القسام وثورات الحجارة، إلخ..

جيش عربي بأمرة إسرائيلية

لا يُستبعَد أن يظهر لاحقاً إلى العلن جيش عربي بقيادة إسرائيل، مثلما كان لا يُستبعَد سابقاً أن يظهر قادة وزعماء عرب، على ما صرّحت به غولدا مائير منذ خمسينيات القرن الماضي بأن “العرب ستفاجؤون ذات يوم بأننا وضعنا لهم رؤساء يهود”! فقد لعبت تلك المساعدة العربية “السرية” التي سُمّيَت فيما بعد “خيانة الحكّام العرب لشعوبهم” دوراً كبيراً في انتصار إسرائيل في حروبها على الفلسطينيين، أما الشكل الجديد للمساعدة، الذي يتراوح بين السر والعلن، ويُسمّى تسميات شتّى، فإنّ دوره هو أن يضمن لإسرائيل النصر على محور المقاومة (حماس، حركة الجهاد الإسلامي، حزب الله، حوثيو اليمن، إيران وكل من يساند أو يتعاطف معه).

العرب ما زالوا يحبّذون الحدود والاستقلالات عن بعضهم البعض، فيُمعنون بذلك في النكوص عن توحيد المنطقة، بالمزيد من الاختصام والاقتتال فيما بينهم، ممهّدين السبيل أمام نجاح المشروع الصهيوني في توحيد المنطقة إسرائيلياً، ليسود بعد ذلك عصر الهيمنة الإسرائيلية: فسيفساء من الهويات الثقافية الثانوية تنزع عنها الهوية الجامعة، ويُلبَِِس كُلٌّّ منها لبوس هوية سياسية قائمة بذاتها مستقيمةً في دولة ضعيفة اقتصادياً وعسكرياً  

فإذا تمّ لإسرائيل وحلفائها العرب الانتصار عليه، فإن المرجلة التالية لمسار هذا التعاون العسكري بين الجانبين هو تكوين جيش عربي إسرائيلي مهمته محاربة كل حركة وكل سلاح وكل فصيل وكل فرد يقاوم هيمنة إسرائيل على المقدرات العسكرية العربية، وهي هيمنة قد تقود إلى تكوين “ناتو إقليمي” تقوده إسرائيل، وها نحن منذ الآن نرى إسرائيل تستخدم جيوش بعض الأنظمة العربية لتحارب بها أعداء إسرائيل في فلسطين ولبنان، كما في الممالك والإمارات الخليجية والعربية المُذهبّة؛ يذودون عنها فيطالبون أعداء إسرائيل بالتخلي عن سلاحهم، وذلك منذ أن وُلِد الكيان الغاصب ووُلدت حوله دولٌ حكّامها خَدَمٌ له، وشعوبها ترفضه وترفض تقسيم المنطقة إلى دول مستقلٌ بعضها عن بعض بغرض إبقاء كلّ منها في حالة من الضعف الاقتصادي والعسكري، ولكنها بالفعل غير مستقلة عن المستعمر الذي أوجدها بقرارات سايكس بيكو، بل تدين بالولاء له، ومن ورائه وعلى نحو خفيّ تدين بالولاء لإسرائيل. وقد اعتاد الحكام العرب أن يخونوا ثورات شعوبهم، وأن يقاتلوا إلى جانب عدوّهم، ليكتمل الانقلاب من عربي إلى عبري، وتتحقق نبوءة “سنصبح نحن يهود التاريخ.. ونعوي في الصحراء بلا مأوى، كما يُردّد الشاعر العراقي مظفر النواب.

توحيد المشرق عربياً يسير عكس اتجاه سايكس بيكو، وتوحيده إسرائيلياً يسير في اتجاه المزيد من سايكس ييكو:

في حين أنّ توحيد المنطقة عربياً يقوم على إلذهاب في اتجاه معاكس لسايكس بيكو، وإلغاء مفاعيله المتمثلة في دول وحدود واستقلالات وأناشيد وعدم تكامل اقتصادي وعدم تناغم سياسي، فإنّ توحيد المنطقة إسرائيلياً يتم عبر المزيد من السايكسبيكويات، ولو بمعدّل سايكس بيكو كل قرن، فإسرائيل تمضي ببطء ولكن بإصرار، وتملأ المدى الزمني بحروب تارةً، وتطبيع تارةً أخرى، يساعدها على ذلك أنّ العرب ما زالوا يحبّذون الحدود والاستقلالات عن بعضهم البعض، فيُمعنون بذلك في النكوص عن توحيد المنطقة، بالمزيد من الاختصام والاقتتال فيما بينهم، ممهّدين السبيل أمام نجاح المشروع الصهيوني في توحيد المنطقة إسرائيلياً، ليسود بعد ذلك عصر الهيمنة الإسرائيلية: فسيفساء من الهويات الثقافية الثانوية تنزع عنها الهوية الجامعة، ويُلبَِِس كُلٌّّ منها لبوس هوية سياسية قائمة بذاتها مستقيمةً في دولة ضعيفة اقتصادياً وعسكرياً، ومستقلة عن سواها من الدول الضعيفة الأخرى، لكنها جميعاً غير مستقلة عن الدولة النووية الوحيدة القوية اقتصادياً وعسكرياً، إسرائيل، فتضع هذه الدول الضعيفة تحت إمرتها، عبر اتفاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية تضمن لإسرائيل سيطرةً كاملة.

وكما آلية توحيد المشرق العربي إسرائيلياً تتم بواسطة مندوب (أو “مفوض سامي”) أو مبعوث إسرائيلي إلى أي بلد عربي ليُلقّن تعليماته إلى حاكم هذا البلد العربي (كما يفعل اليوم المندوبون والمبعوثون الأميركيون ـ الإسرائيليون إلى العواصم العربية) وليس باحتلال عسكري مباشر، كذلك يتمّ توحيد الجيوش العربية تحت إمرة إسرائيل عبر تعليمات تصدر إليهم بالطريقة نفسها، لا عبر ثكنات مشتركة، عِلماً بأن هذا الأمر قد يحدث أيضاً في ظروف معيّنة، إذا اقتضت ذلك.

في حين أنّ توحيد المنطقة عربياً يقوم على إلذهاب في اتجاه معاكس لسايكس بيكو، وإلغاء مفاعيله المتمثلة في دول وحدود واستقلالات وأناشيد وعدم تكامل اقتصادي وعدم تناغم سياسي، فإنّ توحيد المنطقة إسرائيلياً يتم عبر المزيد من السايكسبيكويات، ولو بمعدّل سايكس بيكو كل قرن

وظيفة إسرائيل الرأسمالية ووظيفتها الصهيونية

لإسرائيل وظيفتان: الأولى، خدمة المشروع الصهيوني في الاستيلاء على كامل سوريا الكبرى وتحويلها إلى إسرائيل كبرى، والثانية، ضمان مصالح الدول الاستعمارية في المنطقة (وبخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) عبر إرغام الدول العربية على خدمة هذه المصالح، طوعاً بالاتفاقيات السلمية، أو قسراً بالحروب وتغيير الحكام. تضافر هاتين الوظيفتين ليس واضحاً بما فيه الكفاية، فهناك من لا يرى في إسرائيل سوى كونها موقعاً متقدماً للاستعمار الغربي في بلادنا، وهناك من يراها دولة يهودية عنصرية لا غير. والحق، إنّ العقيدة الصهيونية استطاعت أن تدمج بين الوظيفتين دمجاً مُحْكَماً. لكن الغرب الاستعماري سيتخلّى آجلاً أم عاجلاً عن إسرائيل، وتتخلّى عنه إسرائيل، عندما تزول وظيفتها الثانية وتنتهي صلاحيتها، أي حين لا تعود الدول الاستعمارية بحاجة إلى دور إسرائيل، فتتفرّغ إسرائيل عندئذٍ لوظيفتها الصهيونية المحض. هذا التفرّغ هو بالضبط ما سوف يُنهي عملية الدعم القائم على “التعاطف” مع دولة اليهود، ويُعيد كراهية أوروبا لليهود مرة أخرى. وقد بدأت هذه الكراهية تعود إلى الظهور في أوروبا وأميركا ضاربةً عرض الحائط بتهمة العداء للسامية، التي صارت ممجوجةً في كل مكان. وما دامت إسرائيل تقوم بوظيفتين إحداهما خاصة بها تتعلق بتنمية قدراتها للهيمنة على المنطقة، والأخرى خاصة بالدول الاستعمارية تتعلق بتقديم الخدمات التي تحتاجها من دول المنطقة، فإن الوظيفة الأخيرة سوف تتوقف عن العمل عندما تصبح إسرائيل كبرى، والويل عندئذٍ لأوروبا من “جَورِ مظلومٍ حَكَم”.

(*) غداً في الجزء الثاني والأخير: الويل لأوروبا من إسرائيل.. إذا صارت “كبرى”!

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  مجتمع الإستخبارات يضج بالأسئلة: هل من تشابه بين "موت" إبستين وماكسويل؟
حسين جواد قبيسي

كاتب لبناني مقيم في فرنسا

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "فورين بوليسي": نتنياهو عندما يُكرّر خطأ بوش الإبن!