حين تلتقي البروتستانتية السياسية بالصهيونية.. التلمودية!

العودةُ حقٌّ تُقرّره إرادةُ شعب، لا يحتاج إلى تأشيرةٍ من أحد، ولو كان ذلك «الأحد» أقوى دول العالم نفوذاً ومالاً وسلاحاً. نعم، ليست كلّ أمنيات الرئيس الأميركي دونالد ترامب قابلةً للتحقّق. فالرجل، من خلال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يريد امتلاك غزّة بالقوّة لتحويلها إلى «أرضٍ جميلةٍ للتنمية» وإسقاط حقّ الغزّيين في العودة. وعلى الضفّة الأخرى، يرى نتنياهو في مقترح ترامب «رؤيةً لليوم التالي» للحرب على غزّة، ويكرّر أنّ «إسرائيل لم تكن أقوى ممّا هي عليه اليوم»، وأن الحرب لن تنتهي قريبًا، وأنّ «شرقاً أوسط جديداً» سيُفرَض على المنطقة.

لماذا فلسطين؟ ومن أين جاء التفويض؟

لا عقيدة لترامب سوى «البيزنس»، هذه أيديولوجيّته الأولى والأخيرة. يحبّ المال والتجارة والصفقات، لكنه في الهوى صهيونيّ متطرّف، وهو يشترك مع محيطه في الرواية التي تُسوّغ الدولة اليهودية سياسياً ودينياً. بالنسبة إلى هؤلاء، فلسطين «أرض الدولة اليهودية»، والمسيح، وِفق قراءتهم، لم يأتِ بعد، فمَن ظهَر سابقاً ليس هو المسيح الحقّ. وبناءً على هذا الفهم، يجب قيامُ الدولة لاستدعاء النبوءة.

كانت فلسطين هي «الهِبة» الغربية، لثلاثة دوافع متشابكة:

1. حاجةُ الغرب إلى ذراعٍ شرطية على المعابر البحريّة الحيويّة، خصوصاً قناة السويس وباب المندب. لذا كان لا بدّ من «بوليس» دائم في قلب المشرق.

2. الرغبةُ في التخلّص من اليهود داخل أوروبا.

3. تحقيقُ “وعد بلفور” المسنود إلى تقاليد بروتستانتية واسعة التأثير: «عودةُ اليهود إلى الأرض الموعودة تُعجّل المجيءَ الثاني للمسيح». هنا يتقاطع إرثُ البروتستانتية مع حسابات القوة، فيجد ترامب مكانَه الطبيعي: حمايةُ إسرائيل بوصفها مركزَ ثِقَلِ الغرب في الشرق الأوسط.

إسرائيل التوراتية تجسيد لسياسة تُدار كنصّ. ففي دولةٍ تُهيمن عليها يمينيّاتٌ متطرّفة، تُدار السياسات كتنفيذٍ مباشرٍ للعقيدة. لذلك يتكرّر على لسان نتنياهو أنّ الحرب لم تنتهِ، وأنّها لن تنتهي «إلا بتطهير أرضهم»، وِفق سرديّتهم، من شعبٍ يُرى امتداداً لخصومةٍ قديمةٍ مع «قبائل فلسطو» التاريخيّة. هكذا تُصبح السياسة امتداداً للنصّ، لا تفاوضاً على واقعٍ قائم.

ما تعيشه أرض فلسطين المحتلة ليس مجرّد نزاع حدود أو ترتيبات أمنية قابلة للتسويات؛ إنّه ثمرة تحالفٍ لاهوتي-سياسي خرج من رحم البروتستانتية الإنجيلية، و قراءةٌ توراتية صارت سياسة، ونبوءةٌ باتت خارطة طريق

«النيو-مسيحيّة»: المظلّةُ التي تحتضن ترامب

لا يلزم أن يكون ترامب لاهوتيّ العقيدة كي يقع داخل ما نسمّيه «النيو-مسيحيّة»، والمقصود بها البروتستانتية الحديثة بتفرّعاتها الهائلة (أكثر من 2000 طائفة). طيفٌ واسعٌ منها يُسوّق نفسه بوصفه «مسيحياً»، بينما يحمل أفكاراً لا تمتّ إلى التقليد المسيحي/الكاثوليكي ولا حتى الأورثوذوكسي بصلة. وهو يُسخَّر، في جانبٍ كبير منه، لخدمة المشروع الصهيوني. بهذه المظلّة تضرب الصهيونية عصفورَين بحجر واحد:

1. ترسيخ صورة أنّ «المسيحية» حليفةٌ لها، فتتخلّى شرائحُ مسيحية عن القضية الفلسطينية.

2. تشويهُ جوهر المسيحية نفسها، في التقاءٍ مصلحيّ بين «النيو-مسيحيّة» والصهيونية.

أما عند ترامب، فالمسألة ليست لاهوتاً فحسب، بل عقيدةٌ اقتصادية: صفقاتٌ واستثماراتٌ وخرائطُ نفوذ. ومن هنا حرصُه على «مصالح إسرائيل وأولويّاتها» كما يتخيّلها معسكرُه:

أولاً؛ الترحيل او الإبادة لإقامة دولةٍ واحدة. هي اسرائيل خصوصاً بعدما صُوِّرت المقاومةُ، بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر «خطراً وجودياً»، فنال المشروعُ الصهيوني دعماً عالمياً عريضاً غير مشروط، وصار «الترانسفير» يُروَّج بوصفه طريقاً إلى «السلام».

ثانياً؛ التوسّع نحو سوريا ولبنان. لذا، في لبنان، الهدفُ لا يتوقّف عند «حزب الله»، فالأطماعُ أبعدُ جغرافياً واستراتيجياً ضمن التصوّر نفسه لـ «اليوم التالي»: معالم تاريخية، وتوسّع لاهوتي، وأمنٌ إسرائيليّ ممتدّ، ومسرحٌ إقليميّ يُعاد تشكيلُه تحت المظلّة ذاتها.

ما تعيشه أرض فلسطين المحتلة ليس مجرّد نزاع حدود أو ترتيبات أمنية قابلة للتسويات؛ إنّه ثمرة تحالفٍ لاهوتي-سياسي خرج من رحم البروتستانتية الإنجيلية، و قراءةٌ توراتية صارت سياسة، ونبوءةٌ باتت خارطة طريق. منذ أن أعادت الإصلاحات البروتستانتية الاعتبارَ للعهد القديم مركزاً للعقيدة، تشكّل في بريطانيا ثم الولايات المتحدة تيار يرى «إعادة» اليهود إلى فلسطين خطوةً لازمة في «خطةٍ إلهية» لآخر الزمان. هكذا تحوّلت آياتٌ عامّة عن إبراهيم إلى تفويضٍ مفتوح لدولةٍ حديثة، وأضحى دعمُ إسرائيل، عند قطاعات واسعة من الساسة والوعّاظ، التزاماً دينياً قبل أن يكون خياراً سياسياً. وقد ترجمته بريطانيا وعداً يسبق القانون، ثم حملته واشنطن خطاباً يعتبر إسرائيل «معجزةً يجب حمايتها».

ومع هذا الغطاء تُستدعى مفردات «الهيكل» و«الأرض الموعودة» لإعادة تشكيل الجغرافيا والذاكرة، ويدفع الواقعُ في القدس نحو كسر “الستاتيكو” في المسجد الأقصى والكنائس القديمة التي تُنكّل يومياً، بوصفهما خطوةً على طريق نبوءةٍ لا تعترف بحاضرٍ ولا بحقوق شعبٍ قائم.

كلما اشتدّت النار على الدولة الصهيونية، استُدعيت «قضية الهيكل». وِفق الرواية التوراتية، إنه مبنى خشبي صغير المساحة، احتاج لسبع سنوات من العمل. الأرقام بحدّ ذاتها لا يطيقها المنطق. فعلمُ الآثار لم يحسم، بقرن من الحفريات ادّعاءات تثبت أو أخرى تدحض وجود هيكل سليمان. نقوشٌ تُقرأ على وجه وتُفكّك على وجهٍ آخر؛ بين من يرى أثراً لداود وسليمان ومن ينفي وجودهما التاريخيّ أصلاً.

الخُلاصة الوحيدة الصامدة: لا دليل قاطعاً يُجيز هدمَ مسجدٍ قائمٍ باسم أطلالٍ لم تُرَ، خصوصاً وأن ثمّة ما يشير بقوّة الى أنّ الرواية قد تكون أسطورة لاحقة صيغت لتعزيز الهوية الدينية والسياسية لليهود.

هكذا باتت أسطورة الهيكل خليطاً بين النصوص الدينية القديمة، والتأويلات العقائدية، والرمزية السياسية الحديثة. فمن منظور التاريخ والأركيولوجيا، يبقى وجوده محلّ جدل كبير، ومن منظور السياسة، تحوّل إلى أداة نزاع حول القدس وهويتها.

إقرأ على موقع 180  "وعد بلفور".. وزلازل المشرق الآتية إذا انهزمت المقاومة

فالمسجد الأقصى ليس حجارةً فحسب، هو رمزٌ وهويةٌ وذاكرةٌ مشتركة للمسلمين والمسيحيين الفلسطينيين، وعقدٌ وطنيّ قبل أن يكون رمزاً دينياً.

لكن هل يُهدم “الأقصى”؟ الاحتمالُ قائم، فالرغبةُ معلَنةٌ لدى تياراتٍ نافذة في السلطة الإسرائيلية. لكن الهدم، إن وقع، لن يكون نهايةَ الطريق، بل قد يكون بداية نهايتهم. فالقدس خُطفت قروناً، لكنّ الشعوبُ المقاومة أطولُ نَفَساً من الحكومات المحتلّة، والهويةُ أصلبُ من جرافة.

«إسرائيل الكبرى»: مسطرةٌ لاهوتية تُمدَّد وتُقصَّر

«من النيل إلى الفرات»، قراءةٌ مخصوصة لسفر التكوين تتحوّل إلى مشروع سياسيٍّ يتمدّد ويَنكمش وِفْقَ موازين القوى: الليطاني مرّة، الجولان مرّة، وشرق الأردن مرّة. الجوهرُ واحدٌ: تحويلُ وعدٍ ديني إلى برنامجٍ لا يعترف بشعبٍ أصليّ ولا يُطيق حدوداً واقعيّة.

تختلف القراءةُ العربية المسيحية جذرياً للنص التوراتي، وترفض تحويل النصوص إلى أدوات لاستعمارٍ، خصوصاً وأنّ المسيحية خرجت من فلسطين، من بيت لحم والقدس والجليل، لا من روما أو فيتنبرغ أو جنيف. وفي الذاكرة المسيحية العربية شراكةٌ طويلة مع المسلمين: ففي الحروب الصليبية الآتية من الغرب، ومن البروتستانتية والماسونية، ذُبح المسلم والمسيحي الشرقي معاً؛ واليوم تتكرّر المعادلة بصيغةٍ أخرى.

الصراعُ إذاً ليس موضعياً، ولا هو نزاع حدود صغير؛ إنّه اشتباكٌ مع إمبراطوريةٍ بروتستانتية «متهوِّدة» تتبنّى مشروعاً إحلالياً وتدافع عنه كأنّه جزءٌ من عقيدتها. بريطانيا زرعت البذرة، وأميركا رعت الشجرة، وكلتاهما قرأت الكتابَ على نحوٍ يرخّص للاستعمار. حتى سرديةُ تأسيس الولايات المتحدة استعارت قصة «الخروج» إلى «أرض موعودة»، فقُتل السكّان الأصليون. لذا يبدو الحديثُ عن انفصال واشنطن عن تل أبيب وهماً، فالقاسمُ الدينيُّ عميق، والربطُ الأيديولوجي أعمق.

تراجعُ مسارات التسوية ليس قدراً، بل نتيجة معادلاتٍ مختلّة: يُطلب من الفلسطيني أو اللبناني نزعُ سلاحه قبل انسحابِ الاحتلال؛ تُطالَب الدولةُ بضمان «أمن الخط الأزرق» فيما تُنتهك سيادتُها، ويُدعى الفلسطيني للاعتراف بدولةٍ لا تعترف بوجودِه

عمليّاً، البيئةُ الاستراتيجية تتغيّر. لم يعد ميزانُ القوّة أحادياً. إيران فرضت معادلات ردع جديدة، ساحاتُ سوريا ولبنان وفلسطين تبدّلت، تركيا ليست كما كانت، وروسيا والصين لاعبان حاضران. كلُّ تحولٍ خارجي يضغط على الداخل الإسرائيلي، وهو مجتمعٌ «قبلي» متنازع: علمانيون، متديّنون قوميون، حريديم، شرقيون وغربيون، إثيوبيون، وفلسطينيون. هناك من سمّاهم «أربع قبائل» تتباعد مدارسُها وحياتُها اليومية، وقادةٌ أمنٌ حذّروا من «كراهية اليهودي لليهودي» قبل أي خطرٍ خارجي. الاقتصادُ معلّقٌ على جنودِ الاحتياط، وهم أنفسُهم أعمدةُ التكنولوجيا والخدمات، وكلُّ حربٍ طويلة تكسرُ عجلةَ النموّ. الجوازاتُ الأجنبيةُ المخبّأة في الأدراج تذكيرٌ بأنّ الهجرة العكسية احتمالٌ واقعي لا مجرّد خيال.

تراجعُ مسارات التسوية ليس قدراً، بل نتيجة معادلاتٍ مختلّة: يُطلب من الفلسطيني أو اللبناني نزعُ سلاحه قبل انسحابِ الاحتلال؛ تُطالَب الدولةُ بضمان «أمن الخط الأزرق» فيما تُنتهك سيادتُها، ويُدعى الفلسطيني للاعتراف بدولةٍ لا تعترف بوجودِه. نصوصُ الاتفاقات تجنّبت كلمة «انسحاب»، واستبدلتها بـ«إعادة انتشار»، وهي لغةٌ تُبقي الاحتلال وتُجَمّل صورته. ما جرى في غزّة أسقط الأقنعة: شعاراتُ حقوق الإنسان انهارت تحت دبّابة، وبقيت الحقيقةُ العارية: الحقّ يُنتزع ولا يُمنح.

بين «صفقة» تُسوَّق تنمية و«نبوءة» تُقدَّم قدَراً، يكمن المحرّك الأعمق للتحالف مع إسرائيل: بروتستانتية مُسيَّسة تصل اللاهوت بالسياسة وبالسوق، حيث يلتقي ترامب بعقلية التاجر مع لاهوتٍ يرى في تثبيت إسرائيل تعجيلاً للخلاص؛ فتربح الصهيونية ويبقى الثابت دولة تُدار كعقيدة وتحالف بروتستانتي–صهيوني يمنحها الغطاء، في مقابل شعبٍ يتمسّك بحقٍّ لا تُسقطه صفقةٌ ولا تُبطله نبوءة.

الاختبار أوسع من فلسطين. أيُدار العالم بنبوءاتٍ مُفصَّلة للجيوش أم بقيم العدل والمساواة وحقوق الشعوب؟ الجواب يُكتب الآن في غزّة والقدس، وفي جامعات الغرب، وفي حوارات المؤمنين، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، الرافضين تحويل الدين إلى ترخيص للقتل. هناك شعبٌ يريد أن يعيش حرّاً على أرضه، ومشروعٌ يسعى لمحوِه بالنصّ وبالسلاح؛ وبينهما تُختبَر إنسانيّتنا: أنقف مع نصٍّ يُستعمل لإزاحة أهل وطن وإبادتهم، أم مع إنسانٍ لا يطلب سوى اسمه وبيته وإيمانه.. لا فوق أنقاض وعودٍ لم تُبنَ قط.

Print Friendly, PDF & Email
إيڤون أنور صعيبي

كاتبة وصحافية لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  غزة.. شرارة لإنفجار إقليمي أم رسالة ردع لإيران؟