

وفقًا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة «أودوكسا» لمصلحة صحيفة «لو فيغارو» المحافظة، يُؤيد ٦٤% من الفرنسيين انتخاب رئيس فرنسي جديد، أي إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، بدلًا من تعيين رئيس وزراء يكون الخامس في أقل من عامين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يدعو ٥٦% منهم إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة لإيجاد مخرج للأزمة الدستورية وفق استطلاع آخر أجرته شركة « فيريان».
المعارضة الممثلة باليمين المتطرف، أي حزب «التجمع الوطني» بقيادة “مارين لوبان” واليسار المتطرف، أي حزب «فرنسا الأبية» كما بقية اليسار المتشرذم من الخضر إلى الاشتراكيين يؤكدون عدم التصويت على الثقة، وذلك ما أن طرح “فرانسوا بايرو” هذه المبادرة. فقط الحزب الاشتراكي تردّد قبل أن يصطف مع الأغلبية الساحقة أي أكثر من ثلثي المجلس النيابي.
في هذا السياق، أطلق المعلقون الفرنسيون على طرح الثقة صفات متعددة. منهم من وصفه بالـ«هراكيري» أو الانتحار السياسي أو القفز من قطار سريع. في الواقع، يحاول بايرو التلاعب (يستخدم البعض عبارة “التذاكي”) على الأحزاب المعارضة، فبسبب الحاجة الملحة لخفض الدين، وضع طرح الثقة تحت شعار فضفاض: «هل توافقون على أن الوضع يتطلب اجراءات استثنائية»؟ تؤيدون بنعم؟ أم ترفضون بلا؟ أي لا حديث عن الاجراءات وطرق المعالجة وتداعيات هذا أو ذاك من الخيارات.
من هنا فإن المعارضة وعدم التصويت على الثقة ليس محورها هذا السؤال، بل الاجراءت التي تقرّرت من دون أي مشورة مع النواب.
ما هي دلالات ذلك؟
هذا يدل على أن ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو في أزمة سياسية عميقة أسبابها هيكلية منذ وصول ماكرون إلى الحكم عام ٢٠١٧، أي الولاية الأولى. كلنا نتذكر كيف أن انتصار ماكرون كان «مفاجأة» بفضل مارين لوبان، فالأصوات التي نالها كانت أصوات «لمنع اليمين المتطرف من الوصول إلى الإليزيه»، وليس تأييداً لبرنامجه.
وكما هي العادة في سياق الانتخابات الرئاسية، حصلت انتخابات نيابية فحصل تكتل الرئيس على أكثرية ، إلا أن هذه الأكثرية التي تجمّعت حول اسمه تشكلت من أسماء جديدة من دون جذور سياسية في المناطق وبدت عاجزة عن نقل «نبض المواطنين» ولكنها سمحت له أن «يفعل ما يريد» خصوصاً على الصعيد الاقتصادي. وأبرز خطواته تعليق «الضريبة على الثروة» التي كانت تُعرف بـ”ضريبة التضامن”. ثم قرار رفع عدد سنوات العمل قبل التقاعد من ٦٠ إلى ٦٤ وتخفيف قيمة المساعدات الصحية وإقرار مساعدات للشركات الكبرى بحجة محاربة البطالة.
عهد ماكرون الأول (٢٠١٧ – ٢٠٢٢) إلى جانب الشق الاقتصادي الرأسمالي الحاد، تلوّن بنوع من التصرفات الحمقاء مثل استعمال «تعابير أدبية» أكل الدهر عليها وشرب.. وهو ما نمّ عن لغة فوقية متعالية ميّزت خطابه السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى حد وصفه العاطلين عن العمل بـ”الكسالى”.
كل هذا ترافق مع ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والفقيرة.. ولم يتأخر جواب الشارع. الجواب جاء من خلال ظاهرة «السترات الصفر»، وهي الجموع التي تنادت للتظاهر وإقفال الطرقات في شتى أرجاء فرنسا.
ماكرون مجدداً.. رئيساً!
فجأة.. جاءت جائحة “كوفيد 19” (كورونا) لتنقذ ماكرون: خلت الطرقات من المتظاهرين وخلال ثلاثة أشهر قبعَ الفرنسيون في منازلهم واعتقد الجميع أن الأزمة مرّت خصوصاً بعد أن قرّر ماكرون سياسة دعم الأعمال في كافة المرافق تحت شعار «أياً تكن التكلفة»؛ وهي المساعدات التي تلقاها الفرنسيون والحرفيون والشركات الكبرى والصغرى استناداً إلى أرقام أعمالهم السابقة للجائحة وقد تكلّفت الخزينة بسبب ذلك «٥٥٠ مليار يورو»، ليتضخم العجز المالي للدولة بشكل رهيب ليصل إلى ٥،٧% أي ضعف الحد الأدنى الأوروبي.
برغم ذلك، أُعيد انتخاب ماكرون للمرة الثانية ولكن للمرة الثانية ساهمت “مارين لوبان” بنجاحه إذ تشكل تحالف جمهوري وظيفته “منع اليمين المتطرف من الوصول إلى الحكم».
ولكن الانتخابات النيابية عام ٢٠٢٢ التي أعقبت بقاءه في الإليزيه لم تأتِ بأغلبية تسمح له بالحكم، بينما أصبح حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف أكبر حزب في البرلمان الفرنسي.
عملياً؛ وصلت ثلاث كتل إلى البرلمان: اليمين، اليسار والوسط الداعم للإليزيه، وكانت الأعداد شبه متقاربة، وهكذا ضعفت سيطرة ماكرون على البرلمان مع ارتفاع ديون فرنسا إلى ٣٣٤٦ مليار يورو.
من بورن إلى بايرو
حاول الرئيس ماكرون التغلب على نقطة ضعفه المتمثلة بعدم توفر أغلبية له في البرلمان، فاختار “إليزابيت بورن” لرئاسة الحكومة (2022-2024). «تكفلت» ثاني إمرأة تترأس حكومة في فرنسا بعد “إديث كريسون” بتمرير إجراءات حكومية قاسية من دون أن يتم التصويت عليها في البرلمان، بدعم من اليمين الذي كان «ينتظر لقطف ثمار ضعف النظام»، ما زاد من حدة الاستقطابات في المشهد الفرنسي، وكانت النتيجة استقالة بورن الآتية من اليسار، ووقع اختيار ماكرون بعد ذلك على «غبريال أتال» المقرب منه والذي واجه معارضة شديدة.
تعيين أتال رئيساً للحكومة من جهة (من كانون الثاني/يناير 2024 حتى أيلول/سبتمبر 2024) ومواجهة هذه الخطوة باعتراض سياسي شديد من جهة ثانية، دفعا ماكرون لخوض مقامرة محفوفة بالمخاطر من خلال الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة في العام ٢٠٢٤ في محاولة لتمرير ميزاية ٢٠٢٥، ولكن النتيجة كانت انتخاب برلمان مُجزّأ للغاية في حين خسر تجمع الرئيس مقاعد عديدة وتقلصت قدرته على المناورة. فكان أن لجأ إلى اليمين الجمهوري ليتحالف مع كتلته. عندها جاء “ميشال بارنييه” المخضرم والأكبر سناً في تاريخ رؤساء الحكومات واستطاعت حكومته إقرار الميزانية من دون تصويت أيضاً برغم وعوده للاشتراكيين، فسقط في أول تصويت على الثقة.
جاء “فرانسوا بايرو“، الشخصية المخضرمة من أيضاً من الوسط آخر حلفاء ماكرون ليكون رئيس الوزراء الرابع لماكرون منذ إعادة انتخابه. ولكنه بدا منذ ولادة حكومته في كانون الأول/ديسمبر 2024 عاجزاً.
ومرة أخرى تأتي الأزمة المالية لتعترض طريق الحكم. يحاول بايرو تمرير ميزانية العام ٢٠٢٦ التي تتضمن توفيرًا للميزانية بقيمة ٤٤ مليار يورو (٥٢ مليار دولار)، ومن دون حوار، مع تجميد المعاشات التقاعدية، وتخفيضات في الرعاية الصحية، وإلغاء عطلتين رسميتين، مع رفض لإعادة ضرائب الأثرياء الملغاة ورفع الرسوم والضرائب على الشركات الكبرى، أي نسخة طبق الأصل عن فلسفة ماكرون الرأسمالية.
وعندما تأكد بايرو من أن هذه الميزانية لن تمر في البرلمان عمد إلى الدعوة لتصويت على الثقة، وهي مقامرة أو يمكن وصفها بأنها نوع من “الانتحار السياسي”.
ما هي خيارات ماكرون؟
تبدو جميع الأوراق في يد ماكرون من الناحية الدستورية إلا أن تشرذم القوى بين قوتين أساسيتين هما اليمين المتطرف واليسار المتطرف وما يتفرع عن ذلك من توترات سياسية يمنع أي إمكانية لنوع من المهادنة.
النقطة المحورية هي أن سياسة ماكرون منذ وصوله إلى الحكم أدت إلى تراجع القدرة الشرائية وارتفاع مستويات الفقر وانهيار الطبقة المتوسطة، وهذه الطبقات في فرنسا إما أن تكون مع اليمين المتطرف أو مع اليسار المتطرف.
ومن المستبعد أن يلجأ ماكرون إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة لأن النتيجة ستكون مماثلة وسيخسر فريقه أيضاً عدداً من المقاعد، وبالتالي سيضطر إلى تعيين رئيس وزراء جديد.
السؤال من هو رئيس الوزراء؟ وإلى أي كتلة ينتمي؟
هنا وجب إلقاء نظرة تحليلية على كتلة اليسار الممتدة من «فرنسا الأبية» أي حزب “جان لوك ميلانشون”، إلى الحزب الاشتراكي مروراً بالخضر والحزب الشيوعي الفرنسي. هذه الكتلة منقسمة: فالحزب الاشتراكي مدعوما من كتل صغيرة يرفض مد يده إلى حزب «فرنسا الأبية» لأسباب بعيدة عن السياسة الداخلية ومتعلقة بمواقف ميلانشون من الحرب على غزة. وبرغم دعوات حزب الخضر لتجاوز هذه النقاط. إلا أن الحزب الاشتراكي محاصر داخلياً بالعديد من مؤيدي اسرائيل، الذين برغم شجبهم لارتكابات بنيامين نتنياهو يرفضون أي دعوة لمحاسبة الدولة العبرية.
وفي حال أراد ماكرون الاستعانة بتحالف فريقه مع الحزب الاشتراكي، ذلك أن التوصل إلى اتفاق مع الاشتراكيين يبدو أحد الخيارات القليلة الممكنة، سيجد أمامه سداً منيعاً مؤلفاً من اليمين الذي يرفض طروحات الاشتراكيين وكذلك من «فرنسا الأبية» التي بدأت بالإشارة إلى الحزب الاشتراكي بوصفه “الخائن لليسار»!
قد يأتي رئيس الحكومة الجديد من يسار الوسط ولكن لن يحصل على أي أكثرية ويمكن لماكرون أيضًا اختيار تكنوقراط. إذ لا توجد قواعد تحدد من يجب عليه تعيينه، أو أي موعد لذلك. ومن غير المستبعد أن يتولى بايرو المنصب مؤقتاً لتسيير الأعمال ولكن لن يستطيع إقرار ميزانية العام 2026.
من هنا يدعو التجمع الوطني اليميني وحزب “فرنسا الأبية” لاستقالة ماكرون.
***
كما يقول المثل الشعبي “تأتي الأخبار السيئة زرافات زرافات”.
بعيدًا عن مصير الحكومة واختيار رئيس وزراء وإقرار ميزانية، تستعد فرنسا لشهر أيلول/سبتمبر متوتر:
– ففي 10 أيلول/سبتمبر (الثلاثاء): حركة شاملة للمواطنين تحت شعار «أوقفوا كل شيء» (Bloquons Tout)، التي انطلقت على وسائل التواصل الاجتماعي، وتخطط لاحتجاجات وطنية في كافة الأراضي الفرنسية.
– في ١٢منه: وكالة “فيتش” تراجع التصنيف الائتماني لفرنسا، ومن المحتمل أن تُقرر خفضه.
– في ١٨ منه: النقابات الفرنسية تُنظّم إضرابات ومظاهرات شاملة.
وأخيراً من هنا حتى نهاية الشهر تُنظّم قطاعات عديدة اضرابات انتقائية للضغط على أرباب العمل لرفع الأجور والقبول بالعودة إلى نظام التقاعد السابق.