العار الذي تبدّلت كينونته في زمن التوحّش المُعولَم

كان العار يوماً آخر المعاقل التي تحتمي بها الروح قبل أن تنهار، كان يشبه ندبة خفيفة تذكّرنا أننا لم نصبح بعدُ وحوشاً كاملة، لكن شيئًا فشيئًا، ومع كل صمت تواطئي، مع كل جريمة لم تهزّ لنا جفنًا، تآكل العار كما تتآكل الذاكرة في جسد مسن، لم يعد أحد يخجل من البقاء حيًا بينما الآخرون يموتون، لم يعد أحد يأنف من التواطؤ، من التجاهل، من المشاركة الصامتة في الجريمة.

العار، الذي كان يومًا عدو الكبرياء الزائف، استحال إلى طيفٍ بلا وجه، يُرى أحيانًا في أعين المنهزمين، ثم يختفي دون أثر. إنه عصر حيث لا يعود الإنسان يخشى شيئًا، لأنه لم يعد يشعر بشيء، وفي هذا الخراب الصامت، لا يموت الضحايا وحدهم، بل تموت معهم آخر شظايا الكرامة فينا.

لم يعد العار يجد له مكانًا بيننا. في غزة، في لبنان، يموت الناس، والأحياء يبتسمون بهدوء، كما لو أن الموت لم يعد يعنيهم إلا بقدر ما يعني سقوط ورقة عن شجرة بعيدة. الصمت رهيب، أعمق من الجريمة، أعمق من الحزن، إنه إعلان نهائي عن إفلاس الإنسان أمام ذاته. كل خيبة نغذيها اليوم كانت تنمو في الظل منذ زمن بعيد، مذ وهبنا أنفسنا لفكرة أن الغرب قد اهتدى إلى شيء يشبه الوعي أو الشفافية أو الضمير. لم يكن الأمر سوى خدعة لغوية، ترفًا فكريًا، محاولة فاشلة لتغطية الوحش الذي لم يتغير قط.

***

ما يحدث اليوم ليس غفلة، ولا جهلاً، بل خبرة مكتسبة. لقد علّمتنا الحروب أن لا نرتجف أمام الجثث، أن لا نصرخ حين يسقط بيت أو يحترق طفل. الحرب على العراق، ثم ليبيا، ثم سوريا، سلسلة متصلة لترويض الأعصاب، لتحويل الألم إلى مشهد مستهلك لا يثير سوى ملل المشاهدين. العار، الذي كان يوماً طوق نجاة أخير لإنسان فقد كل شيء إلا خجله من نفسه، مات هو الآخر. لم نعد نخجل لا من التخاذل ولا من الخيانة ولا من الصمت، لأننا بالكاد نخجل من حياتنا نفسها. ما ينهار الآن ليس مجرد حضارة أو قيم، بل تلك الشعلة الصغيرة التي جعلت من الإنسان، في لحظةٍ ما، كائنًا قادراً على أن يحزن من أجل غيره.

***

الانحدار لم يكن أخلاقيًا فقط، بل تقنيًا أيضًا. عملية “البيجر” – التي استخدمتها إسرائيل بدم بارد لتحديد أماكن الأهداف البشرية وتفجيرها عن بُعد – هي أحد أحقر ما أنجبته العلاقة بين الهندسة والوحشية. آلة صامتة تُرسل تنبيهًا قاتلًا، بغير صوت ولا ضجة. لم تكن مجرّد أداة تكنولوجية، بل تجسيدًا لفكرة أن الجريمة يمكن أن تكون نظيفة، بلا شبهة، بلا دم على اليد، فقط زرّ يُضغط عن بعد. ومع ذلك، كرّمت إسرائيل منفّذيها، بل وقدّمت بيجرًا ذهبيًا كهدية بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، في واحدة من أكثر اللحظات رمزية في زواج التكنولوجيا بالقمع؛ تحالف الصفقات مع صناعة الموت الأنيق. في هذا الزمن، لم يعد القاتل يختبئ، بل يُحتفى به. لم تعد الأدوات تُستخدم لتبسيط الحياة، بل لتقليص أثر الذنب، لتجريد الجريمة من بشاعتها. البيجر، الذي صُمّم لنقل رسائل قصيرة، تحوّل إلى توقيع على جريمة بلا صوت. هكذا أصبح العار غير مرئي، مضمّنًا داخل التكنولوجيا، بلا وجه، بلا رائحة.

***

في الجانب المقابل من العالم، أحرقت داعش الأسرى أحياء، كما فعلت بالطيار الأردني معاذ الكساسبة، لا لأسباب عسكرية بل كطقس جمالي شيطاني: نار مُحاطة بكاميرات، صراخ يُركَّب عليه مؤثر صوتي، وزوايا تصوير تُظهر “العدالة الإلهية” كما يتخيلها المجرم. المشهد لم يكن قتلًا، بل أداءً ميتافيزيقيًا. أكثر ما يثير الفزع ليس الجريمة، بل تصميمها المتقن.

إنها نهاية العار، حين يُقتل الإنسان داخل عرض مصوّر يُبث للعالم، ويتلقّاه ملايين المشاهدين بين متعاطف ومتبلّد و”مُشارك”. لم نعد نحزن، لم نعد نغضب، بل بالكاد نغيّر القناة. هكذا تنتهي الإنسانية: لا بانفجار نووي، بل بمقطع فيديو.

***

حين صعد ماسابومي هوسونو، الناجي الياباني من غرق التايتانيك، إلى قارب نجاة بينما تتصاعد صرخات النساء والأطفال، لم يكن ينقذ جسده فقط، بل كان ينجو على حساب صورة الذات في عين الجماعة. في بلاده، لم يُحتفَ بنجاته، بل اعتُبر رمزاً للعار، في مجتمع يقوم على الامتثال الجماعي للقيم العليا: الشرف، التضحية، الصمت الجميل أمام الموت. ظهرت نجاته كفجوة أخلاقية، فضيحة وجودية.

بالمقابل، في الثقافة العربية الكلاسيكية، شكّل العار قوة رمزية تحكم سلوك الجماعة والفرد على السواء. صرخة “وامعتصماه” تمثل ذروة هذا التصور: نداء فردي استدعى جيشًا، ليس دفاعاً عن حدود استراتيجية، بل دفاعاً عن الكرامة الرمزية للجماعة. المعتصم لم يتحرك فقط لأجل دواعٍ عسكرية، بل خضع لضغط داخلي عميق: أن يبقى اسمه مصونًا من تهمة العار. في كلا المثالين، يظهر العار لا كعاطفة فردية، بل كمنظومة خفية تُنظّم السلوك، تُراقب الجسد، وتُحدّد مصير الهوية.

***

تُظهر الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب أن تجربة العار ترتبط بارتفاع مستويات الكورتيزول وانخفاض هرمون السيروتونين. العار، من هذه الزاوية، ليس فقط خطابًا ثقافيًا، بل استجابة بيولوجية متجذرة في الدماغ الانفعالي، وبخاصة في منطقة اللوزة الدماغية. تشير بعض النظريات الجينية إلى أن الشعور بالعار قد تطور كآلية لضبط السلوك الاجتماعي ضمن الجماعات الصغيرة للإنسان الأول: من لا يخضع للمعايير يُعزل، فيموت، ومن يلتزم ينجو مع الجماعة.

إقرأ على موقع 180  شكراً شيرين.. لا ننتمي إلا إليك

***

على المستوى النفسي، يختلف العار عن الذنب. الذنب يقول: “فعلت شيئاً سيئًا”، أما العار فيقول: “أنا سيء”. إنه ليس هجومًا على السلوك، بل على الكينونة نفسها. التجارب الحديثة بيّنت أن الأفراد الذين يعانون من مستويات مرتفعة من العار يميلون إلى الانسحاب الاجتماعي، واضطرابات الأكل، وأحيانًا إلى إيذاء الذات والانتحار. العار، إذن، ليس شعورًا عابرًا، بل تهديدًا شاملًا للهوية.

***

في الأخلاق التقليدية، كما لدى أرسطو، كان العار أداة تكميلية لحفظ الفضيلة: الخوف من العار يحفظ الإنسان من الرذيلة، كما تحميه العقوبة من الجريمة. في الأخلاقيات الحديثة، خصوصًا مع كانط، جرى فصل الفعل الأخلاقي عن العار الاجتماعي: صار الفعل يقوم لذاته، لا استرضاءً للآخر. ومع ذلك، ظلّ العار كامنًا تحت جلد الوعي، يحكم الكثير من السلوكيات الخفية حتى في أكثر البيئات ادعاءً بالتحرر.

***

في زمن الرأسمالية المعولمة، لم يعد العار يدور حول الخروج عن قيم سامية، بل حول الفشل في تحقيق الأداء: أن تفشل في النجاح، أن تخسر في لعبة السوق، أن تكون بلا شهرة أو ثروة أو صورة لامعة. صار العار متعلقًا بالإنتاجية، لا بالفضيلة، بالنتيجة لا بالنية.

لم يختفِ العار، بل أعيدت صياغته: لم يعد عارًا أن تخون أو تغدر، بل أن تفشل في تسويق نفسك، أن تكون غير مرئي، أن لا تُحقّق أي قيمة استهلاكية.

العار، هو انعكاس لصورة الآخر عنا، وهو يتبدل كما تتبدل الحقول التي ينتمي إليها الإنسان، من “وامعتصماه” إلى قوارب التايتانيك، من ميادين الشرف إلى حلبة وسائل التواصل، ومن غرف العمليات العسكرية إلى مقاطع الحرق المصوّرة، تغيّر مضمون العار، لكن حضوره بقي، يزحف من حقل إلى آخر، بهدوء مميت، كنداء داخلي لا يملك الإنسان إلا أن يسمعه، ولو بصمت.

Print Friendly, PDF & Email
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الخروج من الإتفاق النووي القديم إلى إتفاق نووي جديد