الاعتراف بالدولة الفلسطينية.. عندما باتت مستحيلة!

تشكّل سلسلة الاعترافات بالدولة الفلسطينية المرتقبة موجة جديدة من الإقرار الرسمي الدولي بحق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم. وهذه الموجة التي بدأت في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة، تستكمل اليوم تزامناً مع مؤتمر نيويورك حول حل الدولتين، بمبادرة من كل من فرنسا والسعودية، والذي من المفترض عقده في الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر الجاري، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

قبيل انعقاد مؤتمر نيويورك، عقدت الجمعية العامة اجتماعاً يوم الجمعة في ١٢ أيلول/سبتمبر بهدف إعطاء زخم لقضية حل الدولتين، قبيل انعقاد المؤتمر الدولي المقرر الإثنين المقبل والذي دعيت إليه إضافةً إلى الدول والكيانات الرسمية، عدد من المنظمات الإقليمية والدولية. لقد نتج عن اجتماع الجمعية العامة تصويت ١٤٢ دولة لصالح الإعلان، مقابل رفض عشر دول له، وامتناع ١٢ دولة عن التصويت. الدول التي رفضت الإعلان هي: الولايات المتحدة، إسرائيل، الأرجنتين، المجر، باراغوي، ناورو، ميكرونيسيا، بالاو، بابوا غينيا الجديدة، وتونغا. أما الدول التي امتنعت عن التصويت فهي: التشيك، الكاميرون، الكونغو الديمقراطية، الإكوادور، إثيوبيا، ألبانيا، فيجي، غواتيمالا، ساموا، مقدونيا الشمالية، مولدوفا، وجنوب السودان.

في الحقيقة، تشكّل سلسلة الاعترافات المؤيدة لقيام دولة فلسطينية، سواء تلك التي أعلنت عام ٢٠٢٤ من قبل إسبانيا وإيرلندا والنرويج، أو تلك المرتقب إعلانها هذا العام، على هامش اجتماعات الجمعية العامة، من قبل فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا وفنلندا ونيوزيلندا ومالطا والبرتغال وأندورا ولوكسمبورغ وسان مارينو(حسب تصريحات رسمية، إلا إذا استجد ما ليس بالحسبان). وبغض النظر عن الدوافع وراء هذه الاعترافات المتتالية، سواء أكانت أخلاقية أو سياسية أو تنبع من تقاطعات مصلحية أو ظرفية تبعاً لظروف كل بلد أو تتويجاً لمسار الضغط الشعبي الدولي المناهض لإسرائيل والذي تنامى في أعقاب حرب الإبادة الجماعية – بغض النظر عن كل هذا، الا أنّ الاعترافات الدولية هذه تعد نصراً للفلسطينيين وتتويجاً لنضالهم على امتداد عقود، لا سيما بعد التضحيات الهائلة التي بذلها أهل غزة على امتداد أكثر من ٢٣ شهراً من حرب “طوفان الأقصى”..

من المؤسف القول إنّ المجتمع الدولي بدأ يُردّد لازمة حل الدولتين وبدأ يقر بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة، فقط عندما استحال تطبيق هذا الأمر على أرض الواقع؛ ليُصبح أقصى الطموح إلقاء كلمة متلفزة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة

غير أنّ المأمول من هذه الدول كان أن توفر الأرضية لقيام الدولة الفلسطينية عندما كان هذا الأمر سهل المنال عقب توقيع اتفاقيات أوسلو (١٩٩٣) إذ كان من المفترض الشروع بترتيبات قضايا الحل النهائي بين كل من السلطة الفلسطينية وإسرائيل، تؤسس لإمكانية حكم ذاتي من قبل القيادة الفلسطينية، على أراضي عام ١٩٦٧. ولكن المسار الذي سلكته إسرائيل في ما بعد، بموافقة ومباركة أميركية، مضى عكس ذلك تماماً بدليل تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية، وبناء مجمّعات استيطانية ضخمة، وتقطيع أوصال الضفة الغربية، واستكمال إجراءات تهويد القدس، ومحاصرة مقر المقاطعة وقتل ياسر عرفات (٢٠٠٤)، وقطع شريان غزة عن مساحة الوطن الفلسطيني (تم هذا للأسف بفعل انقسام داخلي بدأ عام ٢٠٠٧)، ثم تراكمت خمس جولات من الحروب على القطاع، كان آخرها حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل والتي ستُدشّن عامها الثالث بعد أسبوعين. هذا فضلاً عن الآثار السلبية لسياسات التنسيق الأمني مع المحتل، وضمور المشروع الوطني الفلسطيني، وسقوط الكثير منه في غياهب الفساد والبيروقراطية، واضمحلال دور منظمة التحرير الفلسطينية، وسقوط السلطة الفلسطينية في الامتحان الوطني، مترافقاً مع انقسام فلسطيني-فلسطيني، بدأ عام ٢٠٠٦ ولم ينته لغاية يومنا هذا. كل ما أشرت إليه أعلاه أسّس لواقع سياسي وعسكري وميداني، بات من المستحيل معه قيام دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة والقطاع والقدس الشرقية، كما كان مأمولاً. وليس أدل على ذلك، ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي مجرم الحرب، بنيامين نتنياهو مؤخراً: “لن تكون هناك دولة فلسطينية. وبالفعل، لن تقام أي دولة فلسطينية”.

أما مناسبة الكلام فكانت خلال تدشينه بشكل رسمي المشروع الاستيطاني التوسعي الجديد على أراضي ما يعرف بمنطقة الـ E1، يمتد على مساحة نحو ١٢ كيلومتراً مربعاً شرق القدس. علماً أن هذا المشروع الإستيطاني سيشق الضفة الغربية المحتلّة ويفصلها عن القدس الشرقية إذ يقع بجوار مستوطنة “معاليه أدوميم” حيث يخطط القائمون على المشروع لبناء حوالي ٣٤٠٠ وحدة سكنية، مع بنى تحتية مرافقة، كانت الحكومة الإسرائيلية قد رصدت لها نحو مليار دولار ككلفة استثمارية في المشروع. أما الموقف الأميركي من قيام الدولة، فهو موقف معروف ورافض لأي كيانية سياسية أو جغرافية للفلسطينيين، تبعاً للرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية وبحال اضطرت الادارة الأميركية يوماً ما، للاعتراف بأي دولة فلسطينية، فإنهم يريدونها دولة منزوعة السلاح ومنزوعة السيادة. بمعنى آخر، تغيير اسم الكيان من “السلطة الوطنية الفلسطينية” إلى “دولة فلسطين”، مع الإبقاء على مهامها والتي يجب أن تنحصر برأيهم بإدارة السكان في تدبير حياتهم اليومية.

لو أنّ الدول التي اعترفت بحل الدولتين أو بصدد الاعتراف بذلك، مضت في مسار تجريم إسرائيل ومعاقبتها دولياً، ووقف تصدير شحنات الأسلحة إليها، ومقاطعة بضائعها التجارية والاقتصادية، ووقف تعاملاتها مع مؤسسات تدعم جيشها، ومقاطعتها ديبلوماسياً في سياق عزلها دولياً، لكانت النتيجة فلسطينياً مختلفة كلياً، إذ أن مساراً كهذا – إذا فعلاً وُضع موضع التنفيذ – كان ليوقف حرب الإبادة الجماعية، ويهيّىء الظروف لبدء ضمور الكيان باتجاه تفككه كلياً. وهذا ما سيعطي للفلسطينيين أرضاً تقام عليه دولتهم السليبة، بدلاً من إقرار دولة لا أرض لها لتقام عليه وشعبها موضوع أمام خيار أحادي الجانب: التهجير من القطاع والضفة، ناهيك بالمؤسسات الفلسطينية المُشرذمة.

إقرأ على موقع 180  خطة كوخافي: جيش إسرائيلي جديد.. وتوازن رعب مع حزب الله وحماس

ومن باب الإنصاف ليس إلا، فإنّ بعض الدول غير العربية وغير المسلمة التي اعترفت مؤخراً بالدولة الفلسطينية أو بصدد الاعتراف بها، اتخذت سلسلة من التدابير التي تؤدي فعلياً إلى عزل الكيان، وهي مشكورة على ذلك بطبيعة الحال.

في الختام، من المؤسف القول إنّ المجتمع الدولي بدأ يردّد لازمة حل الدولتين وبدأ يقر بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة، فقط عندما استحال تطبيق هذا الأمر على أرض الواقع؛ ليُصبح أقصى الطموح إلقاء كلمة متلفزة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

Print Friendly, PDF & Email
عطالله السليم

كاتب وباحث سياسي

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  أحمد سعدات يقرأ المشهد الفلسطيني: الوقت من دم