متى ينزل حزب الله عن الشجرة؟

لننطلق ممّا جرى الأسبوع الماضي في بيروت، بدءاً من الجدال والإشكال في ما يخصّ "احتفال الصخرة" في الروشة وصولاً إلى خطاب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في ذكرى اغتيال الشهيد السيد حسن نصرالله. كُتبَ الكثير عمّا حدث في الروشة، حتى يخيّل لي أنه سيكتب يوماً ما عن "واقعة الصخرة" في كتاب التاريخ اللبناني في حال شهدنا إنجاز "تحرّره" من "الفيتو السياسي التوافقي" الذي يلازم بشكل مؤذٍ كل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان.

لا يمكن اعتبار مشهد “احتفال الصخرة” وما سبقها وما تبعها خطوة عابرة، فهي منذ اللحظة التي تمّ فيها الإعلان عن إقامة الاحتفال، خلقت حالة من الانقسام السياسي بدءاً من فكرة الإعلان دون علم وخبر وصولاً إلى اعتراض نواب بيروت ولاحقاً إصدار رئيس الحكومة تعميمه، ثمّ ما لبث أن اتخذ الأمر بعداً طائفياً بعد كسر قرار الحكومة لا سيّما في ما يتعلّق بموضوع إضاءة الصخرة.

أخطأ حزب الله في مقاربة الحدث، وهو إن أراد القول بأن هذه المناسبة هي جامعة لكل اللبنانيين، وهي ليست كذلك بحكم واقع الإنقسام اللبناني، فإن طريقة الإعلان عن الاحتفال قبل التقدم بعلم وخبر من الدولة ومن ثمّ تحدّي قرار الحكومة بصرف النظر عمّا إذا كان يراه الحزب وجمهوره منصفاً أم لا، وصولاً إلى استعراض القوة والتحدّي الشخصي لرئيس الحكومة نواف سلام من خلال حضور القيادي وفيق صفا والتصريحات التي صدرت عنه والعبارات التي صدرت من مناصري وبعض إعلاميي الحزب بحضوره، كلها تشير إلى نهج يصرّ حزب الله على عدم مغادرته وهو ما يرفضه جزء كبير من اللبنانيين حتى من الذين يعتبرون أنهم “أصدقاء” للحزب، وهو نهج الاستقواء الداخلي.

رسائل الحزب

لا يستطيع الحزب بشكل مفاجئ أن يقفز ليس فوق التركيبة والطبيعة الطائفية للبلد بل أيضاً فوق كل الرواسب الطائفية والمذهبية التي ما تزال تفتك بالمجتمع اللبناني بسبب غياب المصارحة والمصالحة الحقيقيتين أولاً وبسبب التراكمات التي تلتها ثانياً، بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي وتحديداً في بيروت وصولاً إلى خطيئة ٧ أيار(مايو) ٢٠٠٨ إلى يومنا هذا. فالمسألة لم تعد مجرّد قرار لرئيس حكومة يعترض عليه حزب ما، بل إن الإمعان في إظهار فائض القوة والتحدّي من خلال تجاهل قرار سلام، ومشاهد الاستفزاز التي رافقت “الاحتفال” والتي فشل استعراض صور الشهيد رفيق الحريري والرئيس السابق سعد الحريري في تغطيتها، أعاد إلى الأذهان واقعة الهجوم على حركة المرابطون في بيروت في العام ١٩٨٥ من قبل “حركة أمل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” بإيعاز سوري آنذاك واستحضار ٧ أيار(مايو) 2008. لذلك، فشل حزب الله في تحويل ذكرى اغتيال السيد حسن نصرالله إلى مناسبة وطنية جامعة، بل تحوّلت المناسبة إلى أداة لخصوم الحزب للتصويب على الحزب، كما للحزب نفسه استخدمها للتغطية على إخفاقه أو عدم وضوحه في ملفات عدة وأهمها مسؤوليته في عدم قدرته على مواجهة إسرائيل والاستعاضة عن ذلك بتخوين رئيس الحكومة والتصويب عليه سياسياً، وهو ما يزيد الطين بلّة ويساهم في زيادة الشرخ بين الحزب وقاعدته الشعبية وبين شرائح لبنانية مختلفة.

من هنا، كان يستطيع الحزب، كشريك في الحكومة التي يُخوّن رئيسها باستمرار، في حال لم يرد فعلاً استغلال المناسبة لإظهار فائض القوة بكسر قرار رئيس الحكومة، وبالتالي موقع رئاسة الحكومة وهيبة الدولة، بصرف النظر عن صوابية القرار أم لا، أن يكتفي بإضاءة العلم اللبناني على الصخرة وبخاصة أنه لم يحدث لأي حزب لبناني أن استخدم الصخرة في احتفالاته وذكرى قادته. من هنا، وبدل استغلال المناسبة لتقريب وجهات النظر بين الناس وخاصة أن السيد نصرالله اغتالته إسرائيل التي ما تزال تحتلّ وتقتل اللبنانيين، قرّر الحزب استغلالها لإيصال رسائله مجدداً، بيد أنها لم تكن موجّهة إلى إسرائيل، بل إلى الداخل اللبناني بشكل مؤسف، مع الاستمرار أيضاً في استغلال عاطفة الناس من خلال الإمعان في لعبة الضحية والتهميش والتهديد الوجودي للطائفة الشيعية، وهي الممثلة في الحكومة وفي المجلس النيابي والمناصب القضائية والمالية والجيش والقوى الأمنية والأمن العام وغيرها. نعم، كان يمكن تفادي ذلك، وكان يمكن أن تمرّ المناسبة من دون أي ضجيج، لكن عدم اتباع الحزب الأصول في الحصول على إذن كباقي الأحزاب وتعمّد كسر قرار رئيس الحكومة وبالتالي عدم مراعاة حساسية الاعتبارات الطائفية والمذهبية التي لا ينفكّ يشدد عليها ويذكّر بها عند كل نقاش أو قضية، جعلت من التجمّع واقعة، ومن التعبير وسيلة للتحدي ولإظهار فائض القوة.

لعبة شراء الوقت

ومن “واقعة الصخرة” إلى خطاب الشيخ نعيم قاسم في ذكرى السيد نصرالله. أعاد قاسم في خطابه الأمور إلى نقطة الصفر، برفضه المطلق بحث موضوع سلاح الحزب ورهانه على لعبة شراء الوقت وبالتالي رمي الكرة في ملعب الحكومة بموضوع استراتيجية الأمن الوطني. والملاحظ أن حزب الله يتجاهل في أدبياته، أن الظرف الداخلي كما الإقليمي لا يشبه بأي شكل عام ٢٠٠٦، داخلياً وإقليمياً ودولياً. من هنا ينبغي القول إن إحدى مشاكل مقاربة الحزب لهذه القضية، هو الاستمرار في استخدام لغة التخوين لكل من يناقش قضية السلاح، وقد ذهب قاسم بعيداً فيها بالقول أن كلّ من يطالب بحصر السلاح بيد الجيش اللبناني، إنما يخدم المشروع الإسرائيلي وإن كان بعنوان وطنيّ. إذاً، نحن هنا أمام استمرار لغة التخوين والتحدي، والتي ليس فقط لا تبني وطناً، بل تدفع باقي مكوّنات المجتمع اللبناني إلى طلب التقسيم وهو ما يخدم إسرائيل.

إقرأ على موقع 180  لبناننا الداشر بين واشنطن.. وطهران!

أيضاً، يستمرّ حزب الله بلعبة التناقضات والازدواجية في مقاربته لقضية حصر السلاج، فهو يخوّن الحكومة لكنه يشارك بها في الوقت نفسه؛ يوافق على القرار ١٧٠١ ثم يتنصّل منه؛ يمدح خطة الجيش ثمّ يهاجمها أو يعتبر أنه التزم بها في حين أن المرحلة الأولى لم تنته بعد في ظلّ معلومات عن استمرار وجود مخازن أسلحة في جنوب الليطاني في المناطق التي لا تحتلّها إسرائيل، وهنا الدولة مطالبة بتوضيح هذه النقطة.

ربما كان يستطيع الحزب أن يستمرّ في لعبة شراء الوقت والمناورة بالازدواجية في حال لم يكن هناك احتلال إسرائيليّ لقسم من الجنوب، ولا تهجير لنصف أهله، ولا دمار يكاد يشبه الدمار في غزة في بعض الأماكن. فالوقت هنا وإن كان في صالح الحزب فهو ليس في صالح لبنان، ولا يستطيع الحزب تجاهل تبعات الاستمرار في هذه السياسة وفصل نفسه عن البلد. أيضاً، لا يستطيع الهروب من مسؤوليته في ما آلت إليه الأوضاع في الجنوب بالاستمرار في مهاجمة الدولة وتحديداً الحكومة. إن ما يطالب به رئيس الحكومة هو خيار طبيعي وبديهي لأي دولة عبر التاريخ. ففي الحقب التاريخية المختلفة، تفرض الحروب نتائج على الأرض، تدفع بأصحاب القرار إما إلى التموضع لتجنيب البلد المزيد من الدمار والعزلة أو بالاستمرار في العناد والمكابرة لأسباب حزبية فئوية على حساب الوطن ككلّ.

إعادة التموضع والبراغماتية

المطالبة بحصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية لا تعني استهداف أي مكون لبناني؛ فالطائفة الشيعية فاعلة ومؤثرة وحاضرة بقوة في الدولة، ولبنان لن يقبل بمنطق السلام أو الاستسلام أو التطبيع مع المحتل الإسرائيلي. المقاربة تحتاج إلى الجرأة كما إلى الوطنية. وما من شكّ بأن لبنان مهدّد من إسرائيل التي لا تخجل بمطامعها التوسّعية. وما من شكّ بأنه ما من ضمانات فعلية في حال تمّ حصر السلاح، لكن استمرار الوضع الحالي بوجود السلاح نفسه لا يشكّل أي ضمانة أيضاً ولا يحمي لبنان والجنوب بخاصة من الاحتلال والاغتيالات والاعتداءات وتجرريف القرى وتحويلها إلى منطقة عازلة.

هناك تبدّلات في المنطقة العربية ترسم الديبلوماسية العربية خطوطها العريضة، بدأت في إعادة دمج سوريا في المنظومة العربية الدولية مرورا بالاتفاقيات الأمنية العربية-الإسلامية وصولا إلى معالجة القضية الفلسطينية وهي الأساس. وأمام لبنان خياران لا ثالث لهما: إما الانضمام إلى هذه المنظومة العربية وبالتالي الحصول على الغطاء وتفعيل الضغط للانسحاب الإسرائيلي ووقف الاعتداءات وتقوية الجيش اللبناني وإعادة الاستثمارات العربية وما يعنيه ذلك من إعادة إعمار وتحريك لعجلة الاقتصاد وتحسين الوضع المالي رأفة بالجنوب أولاً، أو الاستمرار في المكابرة وبالتالي المزيد من العزلة الإقليمية والدولية وتحويل لبنان مجدداً إلى ساحة رسائل بتوقيع إقليميّ إسرائيليّ.

قالت الحكومة كلمتها ومعها شريحة كبيرة من اللبنانيين؛ الكرة الآن بملعب حزب الله، فهل يتحمّل مسؤولية استمرار الاعتداءات الإسرائيلية وتحويل لبنان إلى غزة ثانية وإلى ساحة تصفية حسابات إقليمية باسم الدفاع عن لبنان، أم أنه يختار البراغماتية وإعادة التموضع ضمن النسيج اللبناني العربي؟

Print Friendly, PDF & Email
حياة الحريري

أكاديمية وباحثة سياسية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "الحرب بالنقاط".. هل تتدحرج إلى حرب شاملة؟