وفق عشرات الوثائق البريطانية، لم يتأسس «وعد بلفور» على أسطورة «العودة إلى أرض الميعاد»، لكنه وظّفها لمقتضى رؤية استراتيجية لمستقبل المنطقة كلها، ومصر فى قلبها.
بعد أربع سنوات من إعلان «وعد بلفور» تلقى رئيس الوزراء البريطانى «لويد جورج» مذكرة من مدير العمليات فى الشرق الأوسط الكولونيل «ريتشارد مينرتزهاجن» يقترح فيها «ضم سيناء إلى فلسطين حتى يكون ممكنًا وضع حد فاصل».
توصل الجنرال الفرنسى «نابليون بونابرت» إلى هذه الفكرة الاستراتيجية–الحد الفاصل–أثناء حملته على مصر التى امتدت إلى بعض حواضر الشام، معتقدًا أنها تحول دون بناء قوة عظمى مستقبلًا فى هذه المنطقة من العالم. «الفرنسيون يفكرون، والبريطانيون ينفذون». هذا قول شهير ينطبق هنا أكثر من أى مكان آخر.
بعد أكثر من قرن على «وعد بلفور» ما زال جوهره الاستراتيجى ماثلًا فى المشاهد الدموية بأحاديث الشرق الأوسط الجديد.
فى التفكير الاستراتيجى الغربى اقترن – وما يزال – المصير الفلسطينى بالمصير العربى، وإبعاد الفلسطينيين عن أراضيهم بالتهجير القسرى بمشروع سلخ سيناء عن مصر.
مصر فى عين الاستهداف
قد تتراجع مستويات الخطر بدرجة أو أخرى، لكن يظل الاستهداف نفسه حاضرًا دوما.
أى كلام آخر تجهيلٌ بالتاريخ وتدليسٌ على الحقائق.
الكلام المتواتر عن شرق أوسط جديد يجد أصوله فى الرؤية الاستراتيجية التى أسست لـ«وعد بلفور».
مشكلة خلفاء «بلفور» أنهم يفتقدون – بفداحة – الكفاءة التى كانت تملكها الإمبراطورية البريطانية فى إحكام الرؤية والتنفيذ والالتفاف والخداع.
لم يعد ممكنًا إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط بالقلم والمسطرة على النحو الذى حصل فى اتفاقية «سايكس – بيكو».
وبرغم مضى أكثر من قرن على «وعد بلفور»، الذى وصفه «جمال عبدالناصر» بأنه «من لا يملك أعطى وعدًا لمن لا يستحق»، فإن جوهره الاستراتيجى ما يزال حاضرًا فى غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا واليمن وليبيا والسودان، بتحدياته ومخاطره فوق الخرائط العربية المتصدعة.
قد يُقال – بظاهر نص «وعد بلفور» – إن مفعوله انقضى، فقد أُنشئت الدولة العبرية منذ نحو (77) عامًا، لكنها لم تعيّن لنفسها حدودًا.
إنها مشروع دائم للتوسع والضم على حساب دول عربية مجاورة.
وقد يُقال إن «وعد بلفور» تضمن «أنه لا يمثل تحيزًا ضد الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة فى فلسطين – قاصدًا سكانها العرب».
غير أن تلك كانت محض مراوغة دبلوماسية بريطانية معتادة، فقد كان التحيز ضد كل حق عربى وفلسطينى مطلقًا، حتى وصل فى الحرب الحالية على غزة إلى التواطؤ شبه المطلق مع أبشع حروب الإبادة فى التاريخ الإنسانى الحديث.
يستلفت الانتباه هنا ما بدر عن رئيس الوزراء البريطانى «كير ستارمر» أثناء إعلان اعتراف بلاده بالدولة الفلسطينية، من تحميلها المسئولية التاريخية عمّا حاق بالفلسطينيين، لكنه لم يُفصح عن مراجعة كاملة، ولا اعتذر بصورة واضحة.
جرت تلك الإشارات تحت ضغط التظاهرات والاحتجاجات المتواصلة فى شوارع وميادين العاصمة لندن تضامنًا مع الضحية الفلسطينية وتنديدًا بحربى الإبادة والتجويع.
المعضلة الحقيقية الآن أن صوت «سلام القوة» يعلو فوق أى صوت آخر فى الشرق الأوسط.
لا يوجد أفق سياسى فى خطة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» يفضى إلى دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضى المحتلة منذ عام (1967)، ولا أدنى استعداد أمريكى أو إسرائيلى للقبول بها، برغم الاعترافات الدولية التى وصلت إلى زخم غير مسبوق أثناء الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة.
خسرت إسرائيل الحرب الأخلاقية كما حرب الصورة، وتدهورت مكانتها داخل الرأى العام الغربى الذى دأب على تأييدها ودعمها منذ تأسيسها بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية.
كان ذلك بداعى التطهر الغربى من المآسى البشعة التى لحقت باليهود فى المحارق النازية فى سنوات تلك الحرب.
لم يكن اليهود وحدهم من تضرروا من المحارق النازية، فقد دفعت الإنسانية كلها أثمانًا باهظة لأوهام التفوق العرقى.
استقطبت إسرائيل، بالدعاية الممنهجة، مشاعر قطاعات واسعة من الرأى العام الأوروبى، فهى دولة ديمقراطية وسط عالم عربى متخلف واستبدادى، تبنى وتزرع وتأخذ ببعض الأساليب الاشتراكية فى مستعمراتها الجماعية، من دون التفات إلى الطابع العنصرى للدولة الوليدة وحمامات الدم التى ترتكبها بحق السكان الفلسطينيين.
فى لحظة مكاشفة إنسانية بالحقائق، دمغت الأمم المتحدة الصهيونية بالعنصرية مثل الـ«أبارتهايد» فى جنوب إفريقيا والنازية الألمانية والفاشية الإيطالية، لكنها ألغته فى وقت لاحق بتخاذل عربى أنكر حقوقه قبل أن ينكرها عليه أحد.
الصورة اختلفت تمامًا الآن، بقوة الرأى العام الإنسانى فى العواصم الغربية والأوروبية بالذات، الذى روعته مشاهد الحرب على غزة.
كانت التظاهرات والاحتجاجات التى عمّت الشوارع الأوروبية، وداخل الولايات المتحدة نفسها، داعيةً لمبادرة «ترامب» لوقف الحرب، أو لـ«هدنة مؤقتة وهشة» بمعنى أدق، إنقاذًا لإسرائيل من نفسها.
الحرب ما زالت مفتوحة على أخطر سيناريوهات خلفاء «بلفور».
أين العرب من ذلك كله؟
هذا هو السؤال الذى لا مهرب منه.
(*) بالتزامن مع “الشروق“
