مُنْذئذٍ اِنتقلَ مُصطلحا اليمين واليسار منَ المحليَّةِ (الفرنسية) إلى الأمميةِ والعالمية، وما زالا إلى اليومِ يُعبِّرانِ عن التمايزِ بينَ قوىً تسْعى إلى المحافظةِ وأخرى إلى التقدُّمِ والتغيير. لم يبقَ هذا التمايزُ سياسياًّ فَحَسْبُ،بلِ اِمتدَّ إلى الفكرِ والفلسفةِ والثقافةِ والاقتصادِ والدينِ، وأظْهَرتِ الصيرورةُ المادّيّة ُالتاريخيَّة ُللتطوُّرِ أنَّ الأبعادَ الطبقيَّةَ متجَذِّرةٌ فيه خلالَ كلِّ مرْحلةٍ من المراحلِ التي مرَّ بها. ولا نُغْغِلُ أبداً أنَّ هذا التمايزَ تأثَّرَ بخُصُوصِيَّةِ كلِّ بلدٍ وشعبٍ، وإنْ تكُنْ هناكَ خطوطٌ مشترَكةٌ في الفضاءِ الأمميِّ العالميِّ. ومن ثـَمَّ تبرُزُ أمامَنا جَدَليَّةُ الاختلافِ والتشابُهِ في كلِّ تيَّاراتِ اليمينِ واليسارِ التي نُعايِشُها راهناً.
عندَنا في لبنانَ خُصوصيَّة ٌيَمينيَّةٌ شديدةُ المَحليّةِ حتى التقوقـُعِ والانعزالِ والانسلاخِ عن الهويّةِ والتاريخِ والمجتمعِ اللبنانيِّ الواسعِ، وهْيَ مرتبطةٌ في الوقتِ نفسِهِ حتى الارتهانِ التَبعيِّ باليمينِ الغربي والعربي والعالمي. وللأسفِ فإنَّ مِنْ أخطائِنا نحنُ اليساريّينَ، أنَّ اليسارَ في لبنانَ، برغمِ حيويّتِهِ السابقةِ، لم ينجحْ في صوْغٍ متينٍ للبِِنى الفكريّةِ والثقافيّةِ والسياسيَّةِ والاقتصاديّةِ لمواجهةِ النزعاتِ اليمينيّةِ التي ما زالتْ تُعيقُ التغييرَ التطويريَّ في بلدِنا (ولنا عودةٌ لاحقاً إلى هذه النقطة).
اليمينُ عندَنا طائفيٌ بامتيازٍ يبلغُ حدودَ اليوتوبيا العنصريَّةَ، وينسِفُ بساطة الإيمانِ الشعبي ويُعطِي للدينِ معنىً طائفيّاً عُصبَويَّاً، ويتحالَفُ مع الرأسماليةِ المحليّةِ غيرِ الوطنيَّةِ، ومعَ الإقطاعيَّةِ الزعاميَّةِ المستحدَثةِ، ويُقدِّمُ خِطاباً سياسيَّاً يَضربُ كلَّ ما يُمْكِنُ أنْ يُكَوِّنَ وحدةَ عيشٍ ومصيرٍ. وإذا كانتْ عبارةُ “اليمين اللبناني” تنصرِفُ مباشرةً في حياتِنا السياسيَّةِ الراهنةِ إلى الأحزابِ المسيحيةِ المارونيَّةِ، فإنَّ الحقيقةَ هي أنَّ “يميناً” مُماثلاً يُوجَدُ لدى جميعِ الطوائفِ الأخرى، ولا سيَّما الطوائفُ الستُّ الرئيسيَّة الفاعلة. وإذا كانَ اليمينُ المسيحيُّ أكثرَ علانيّةً فإنَّ هذا لا يَعني أنَّ اليمينَ الآخرَ أقلُّ دوْراً وتأثيراً.(واضحٌ جدَّاً، نموذجُ تعاون البطريركية المارونيّة مع دار الإفتاء لإسقاط مشروع قانون الزواج المدني في عهد الرئيس الراحل إلياس الهراوي).
اِنطلاقاً ممَّا سبقَ كيفَ تتمظهرُ أفكارُ اليمينِ اللبنانيِّ وسياساتُه؟ وكيفَ يَنظُرُ إلى النظامِ السياسيّ؟ وكيفَ يتعاملُ مع التحدِّياتِ التي تواجِهُ لبنانَ راهناً في ظلِّ تهديداتِ العدوِّ الإسرائيلي – الأميركي وأدواتِهِ في المَنطِقةِ العربيَّةِ،وفي ظلِّ الأزْمةِ الاقتصاديّةِ – المعيشيّةِ التي تُعاني منها الغالبيَّةُ الساحقةُ من اللبنانيّينَ؟ وهنا نلاحظُ ما يأتي:
أوّلاً؛ تلاحُمٌ عُضويٌّ بينَ اليمينِ السياسيِّ والفِكريِّ والطائفيّة. لقد جعلَ هذا اليمينُ منِ “الطائفةِ”، أيِّ طائفةٍ، كِياناً مُطلَقاً مُغلَقاً، لا يتفاعَلُ معَ نِسبيّةِ التاريخ والواقع؛ فمَهما تتغيَّرِ الظروفُ تَبْقَى الطائفةُ في مقامِ القداسةِ. المُقدَّسُ الطائفيُّ هو لَعنةُ اليمينِ الكبرى التي حالتْ دونَ أنْ ينشأَ في لبنانَ مفهومُ المجتمعِ والوطن والدولةِ بدلاً من مفهومِ “الدكَّانِ المفتوحِ على البحر” والكيانِ المرتهَنِ للآخرينَ. بدأتِ المسألةُ تتمأسَسُ معَ تنطح قوى مَارونيَّة للتنظير إلى لبنانَ بوصفِهِ وطناً “قومياً” لها والباقونَ من اللبنانيّينَ ملحقونَ. معظمُ قِوى الطوائفِ الأخرى منَ المُسلِمينَ والمسيحيينَ ردَّتْ على هذا الموقفِ، لكنَّها سلكَتْ المسَلكَ نفسَه، فتوسَّعَ اليمينُ الطائفيُّ وطبعَ الحياةَ العامَّةَ، وأدَّى إلى تناقضاتٍ سبَّبتْ حروباً اِستقوتْ بالخارجِ، ثمَّ رفعُوا شعارَ الخديعةِ الفاضحةِ: “العيشِ المشترك”، ولم يفكِّروا بـِ“العيش الوطني”. وما زِلنا إلى اليوم نُعاني من هذه المسألةِ، فإذا جرى الحديثُ عن الوَحدةِ الوطنيةِ يلتبسِ الأمرُ فوراً بالنفاقِ السياسي لأنَّ المقصودَ من ذلك هو التعايشُ بين الطوائف لا الوحدةُ الإنسانيَّةُ بين المواطنين. وهكذا نشرَ اليمينُ الماروني ثقافاتٍ طائفيَّةً موازيةً منعتِ التطوُّرَ الاجتماعيَّ المدنيَّ، وباتَ الكلُّ قابِعاً في مستنقعِ الطائفيَّةِ؛ وكثيراً ما اِجتمعَ – برغمَ الخلافات- رموزُ اليمينِ من كلِّ الطوائفِ ضدَّ اليسارِ الذي رفضَ الطائفيَّةَ عند الجميع.
ثانياً؛ التفاعُلُ التكامليُّ الخطيرُ بين الطائفيَّةِ والرأسماليّةِ المحليَّةِ التابعةِ، والإقطاعِ التقليديّ المُتجَدِّدِ، والإقطاعِ الطفيلي المُستحدَثِ الذي أسَّسَ نفسَهُ بعد الحربِ عبرَ نهبِ المالِ العامِ والإثراءِ غيرِ المشروعِ والفسادِ الإداري، والمتاجرةِ غيرِ الشرعيَّةِ، وتهريبِ الأموالِ إلى الخارجِ، وضربِ الزراعةِ والصناعةِ، وتمكينِ السيطرةِ المَصرِفيَّة الريْعيَّةِ، حتى وصلـْنا إلى ما وصلـْنا إليه من انهيارٍ، فاندثرتْ الطبقةُ الوسطى، وتَرابَطَ اليمينُ بين كلِّ الطوائفِ لِيحْمِي مصالحَهُ الماليّةَ، ولِيُواصِلُ الترويجَ لقداسةِ الطائفةِ التي تَحولُ بينَ الفقراءِ ومتوسِّطي الدخلِ وبين الوعْيِ الطبقي والاجتماعي الذي يؤسسُ وحدَهُ لوعيٍ وطنيٍّ متحرِّرٍ من لعنةِ تقديسِ الطائفة.
ثالثاً؛ الارتهانُ للقُوى الخارجيَّةِ سِمةٌ من سِماتِ اليمينِ في معظمِ بلدانِ العالم ِ، لكنَّ خُطورتَهُ المُضاعفةَ في لبنانَ تَكْمُنُ في أنَّ هذا الارتهانَ أصبحَ مُلتحِماً كليَّاً بالطائفيّةِ. كلُّ طائفةٍ تقريباً تبحثُ عن ظهيرٍ خارجيٍّ لها كي تُعزِّزَ موقعَها في المحاصصةِ الداخليّةِ، ولو أدَّى الأمرُ إلى الاقتتال. وهكذا وصلَ لبنانُ إلى نوعٍ من التفكُّكِ الفِعلي، فالقوى الاستعمارية ُالرأسمالية ُلم تعدْ تبني تدخُلاتِها على مبدأ القوةِ وحدَهُ بلْ ترتكِزُ بصورةٍ أساسيَّةٍ على أدواتِ الداخلِ المرتهَنة. الولاياتُ المتحدةُ والاحتلالُ الإسرائيليُّ والغربُ الأوروبّي وعددٌ من الدولِ العربيّةِ تستفيدُ من ذلك. وها هو لبنانُ لهذا السببِ يدفعُ الأثمانَ الباهظةَ، ويُعاني منَ اِنقسامٍ عَمُوديٍّ وأفُقيٍّ تُجاهَ “إسرائيلَ” بينَ مَنْ يراها عدوَّاً يجِبُ أنْ يُقاوَمَ ، ومَنْ يراها “جاراً” يجِبُ الإسراعُ إلى التطبيعِ معَهُ مُصدِّقاً أسطورةَ السلام، متجاهلاً محطَّاتِ التاريخِ منذ الوكالةِ اليهوديَّةِ في عشرينيَّاتِ القرنِ الماضي حتى اللحظةِ الراهنة حيث أنّ الأطماعَ الصهيونيَّةَ واضحةٌ للعيانِ لا لَبْسَ فيها.
إنَّهُ مثلَّثُ اليمين الطائفي اللبناني. تزدادُ مخاطِرُهُ يوميَّاً، ويَحُولُ دونَ أيِّ فكرةٍ إصلاحيّةٍ، ويُنظِّمُ الفسادَ في أجهزةِ الإدارةِ لتبقى هذه الأخيرةُ أداةً بيروقراطيَّةً طبقيَّةً تحمي سلطته؛ حتى أنَّهُ حاربَ كلَّ احتمالٍ لصعودِ برجوازيةٍ وطنيَّةٍ، ومَنَعَ تطبيقَ النِقاطِ الإيجابيّةِ في اتفاقِ الطائفِ بالرَّغمِ من محدوديتها، ووقفَ سدَّاً منيعاً بوجهِ تأليفِ الهيئةِ الوطنيّةِ لإلغاءِ الطائقيةِ، ورَفَضَ اللامركزيَّةَ الإداريَّةَ ما لم تكُنْ ذاتَ مضمونٍ طائفي يستبطِنُ الكانتونات بدلاً منَ التحديثِ والعصْرنة. لذا لا بُدَّ من مواجهةِ هذا اليمينِ الثلاثيِّ ثقافيّاً وإعلاميّاً وسياسيَّاً قبلَ أنْ ينهارَ كلُّ ما تبقَّى من احتمالاتِ الوَحْدةِ في لبنان. أينَ اليسارُ والقوى المدنيّةُ الديموقراطيّة ُمن كلِّ ذلك؟ لهذهِ النقطةِ حديثٌ آخرُ لاحقاً بعنوان: “اليسار في لبنان: الأزمة والآفاق”.
