الجماعة الإسلامية في لبنان.. في زمن التحولات الإقليمية (4)

رأينا في تجربة جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش) نموذجًا للإسلام الوسطي المؤسسي، الموصوف في الأدبيات بأنه يعتمد على الدعوة الخدمية والتكيف مع الغطاء العربي. في المقابل، تبرز الجماعة الإسلامية في لبنان كواحدة من أبرز حركات الإسلام السياسي السُّنِّيَّ التقليدي في العقود الستة المنصرمة.

تأسست الجماعة الإسلامية في لبنان عام 1964 على يد شبّان سُنّة متأثرين بفكر جماعة الإخوان المسلمين، في بيئة لبنانية شديدة التعدّد الطائفي. وهي، في هذا المعنى، نتاج التمدّد الفكري للإخوان في المشرق العربي، لكنها لم تكن استنساخًا حرفيًا للتجربة الأم التي تأسست في مصر عام 1928 على يد حسن البنّا، بل خضعت منذ نشأتها لعملية تكيّف مع الخصوصية اللبنانية السياسية والطائفية، ما جعلها أقرب إلى نسخة محلية مُخفّفة من النموذج الإخواني الكلاسيكي.

انطلقت الجماعة بوصفها حركة دعوية واجتماعية، ملتزمة بالمذهب السُنّي، ومرجعية الشافعي في الفقه، وبفكرة “الشمولية الإسلامية” التي ترى في الإسلام مشروعًا متكاملًا ينظّم شؤون الفرد والمجتمع والدولة. وتمركز حضورها الأساسي في مدن صيدا وطرابلس وبيروت، قبل أن تتوسّع تدريجيًا في مناطق أخرى. ومع مرور الوقت، انتقلت من العمل الدعوي والاجتماعي إلى الانخراط السياسي، مستلهمة النموذج الإخواني القائم على تدرّج المراحل: الدعوة أولًا، فالعمل الاجتماعي، ثم الفعل السياسي، قبل أن تضيف لاحقًا بُعدًا عسكريًا إلى تجربتها.

يسعى هذا المقال إلى تتبّع مسار الجماعة الإسلامية، وتحليل تحوّلاتها، ومناقشة الإشكاليات التي تواجهها اليوم، ولا سيما ما يُوصَف بأزمة المشروعية الداخلية والإقليمية، وذلك في مقارنة ضمنية مع نموذج “النهج الوسطي” الذي تعتمده جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش)، القائمة على مرونة مؤسسية أوضح وقدرة أعلى على التكيّف مع موازين القوى.

التساهل السوري

تكوّنت الجماعة الإسلامية في سياق تاريخي أوسع، تميّز بتفكّك السلطنة العثمانية وصعود الدولة الوطنية العربية، حيث واجه الإسلاميون عمومًا سؤالًا مركزيًا: كيف يمكن توطين القيم الإسلامية ضمن نظام حديث يقوم على المواطنة والمؤسسات؟ وفي الحالة اللبنانية، حيث يشكّل السُّنّة أحد أعمدة النظام السياسي الطائفي، واجهت الجماعة لاحقًا تحدّي تراجع التمثيل السياسي السُنّي، ولا سيما بعد الحرب الأهلية، ما دفعها إلى محاولة إعادة تنظيم الحقل الديني–السياسي السُنّي في ظل انحسار دور الزعامات التقليدية.

خلال مرحلة الوجود السوري في لبنان، استطاعت الجماعة أن تعمل ضمن هامش متاح في بيئة سُنّية واقعة تحت النفوذ السوري. وقد أتاح هذا الواقع لها فرصة بناء شبكاتها الدعوية والاجتماعية والسياسية، مستفيدة مما وصفه بعض المراقبين بـ“التساهل السوري” تجاهها. غير أنّ التحوّل الأبرز في مسارها تمثّل في دخولها الميدان العسكري عبر تأسيس جناحها المسلّح “قوات الفجر”، وهو ما أضفى عليها بُعدًا “مقاومًا” داخل المشهد اللبناني، وحوّلها من حركة دعوية–سياسية إلى فاعل ميداني ذي طابع جهادي.

مع انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، دخلت الجماعة مرحلة إعادة تموضع حاسمة. فقدت الحاضنة السياسية التي وفّرت لها هامش حماية وتنظيم، ووجدت نفسها في ساحة سُنّية مفتوحة على إعادة تشكّل عميقة، في ظل تراجع الزعامات التقليدية وغياب مرجعية جامعة. في هذا السياق، بدأت الجماعة تميل تدريجيًا نحو توثيق تحالفاتها مع ما يُعرف بمحور المقاومة، ولا سيما حزب الله وحركة حماس، وهو توجّه تعزّز بشكل خاص بعد عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

منح هذا التموضع الجديد الجماعة، في نظر أنصارها، شرعية ميدانية وربطها بالقضية الفلسطينية، لكنه في المقابل قيّد قدرتها على الاستقلال السياسي الداخلي، وجعلها في علاقة تبادلية غير متكافئة مع تحالفات إقليمية أوسع. وبرغم تاريخها الطويل في العمل العام، لم تتمكّن الجماعة من ترجمة حضورها إلى تمثيل نيابي أو وزاري وازن، ما حدّ من نفوذها داخل النظام الطائفي اللبناني، وأبقاها في موقع هامشي نسبيًا على مستوى القرار السياسي.

الجماعة.. بمآزق متعددة

على الصعيد الداخلي، واجهت الجماعة الإسلامية إشكالية بنيوية ناجمة عن ازدواجية هويتها: حركة دعوية تربوية، وتنظيم سياسي، وفاعل مقاوم في آن واحد. وقد ولّدت هذه الازدواجية توتّرات داخلية بين من رأوا أولوية للدعوة والتعليم والعمل الاجتماعي، ومن اعتبروا أن الانخراط الميداني والتحالفات “المقاومة” هو السبيل الوحيد للحفاظ على الدور والفاعلية. في هذا الإطار، يذهب بعض الباحثين إلى توصيف الجماعة بوصفها نموذجًا لـ“إسلام سياسي تحت وصاية” حاول لاحقًا التحوّل إلى “إسلام سياسي يبحث عن استقلال”، إلا أنّ ارتباطه بمحاور إقليمية جديدة أعاده، بنظر منتقديه، إلى دائرة التبعية من بوابة مختلفة.

تزداد هذه الإشكالية تعقيدًا عند النظر إلى البيئة الإقليمية. فقد أعادت حرب “طوفان الأقصى” تسييس الوجدان الإسلامي في المنطقة، ورفعت منسوب الضغط على الجماعة بين خيار الاصطفاف العقائدي وخيار التكيّف البراغماتي. وفي المقابل، اتخذت دول عربية عدّة موقفًا معارضًا لأي مشروع سُنّي مرتبط مباشرة بالمحور الإيراني، ما جعل الجماعة عرضة لانتقادات حادّة، بوصفها امتدادًا للإسلام السياسي الإخواني الذي يواجه أصلًا تضييقًا واسعًا في أكثر من ساحة عربية.

تبعًا لذلك، وجدت الجماعة نفسها أمام مأزق مزدوج: ارتباطها بمحور تقوده إيران يجعلها مرفوضة إقليميًا، ويضعف قدرتها على أن تكون بديلًا داخليًا مقنعًا عن الزعامات السُنّية التقليدية. كما فقدت، وفق هذه القراءة، إمكانات الدعم العربي السياسي والمالي، وأصبح خطابها مراقَبًا بعناية من دول تعتبر التحالف مع حزب الله تهديدًا لاستقرار لبنان وامتدادًا مباشرًا للنفوذ الإيراني.

إقرأ على موقع 180  محمود عباس.. باقٍ باقٍ!

ومع الضربات التي تعرّض لها هذا المحور في فلسطين وسوريا ولبنان، برزت الحاجة إلى مراجعة داخلية تعيد من خلالها الجماعة تعريف ذاتها وتحالفاتها، وصولًا إلى إعادة بناء هويتها السياسية بعيدًا عن شبهة الارتباط العضوي بإيران. ولا يمكن في هذا السياق تجاهل أثر مرحلة “الثورة السورية” (2011)، التي تسبّبت بشرخ عميق بين الجماعة وحلفاء إيران، نتيجة رفضها انخراط طهران ومحورها في الدفاع عن النظام السوري.

يرى منتقدو خطاب الجماعة “المقاوم” أنّ هذا الخيار أفقدها جزءًا كبيرًا من شرعيتها المحلية ومصداقيتها، خصوصًا في ظل تبلور خطاب عربي رسمي يضع أولوية السيادة الوطنية فوق أي اعتبارات أيديولوجية. كما أنّ ارتباطها بحزب الله يجعلها، وفق تقدير عدد من المحللين، أضعف حظًا في بيئة إقليمية تتجه نحو ضبط النفوذ الإيراني، ما يعرّضها لمزيد من العزلة والضغوط الداخلية.

المراجعة.. شرط البقاء

في المحصّلة، تكشف تجربة الجماعة الإسلامية في لبنان عن تعقيدات الإسلام السياسي السُّنّي في سياق طائفي شديد الحساسية، حيث لا يكفي الاتكاء على الشرعية العقائدية أو الرمزية “المقاومة” لبناء حضور سياسي مستدام. فبين الدعوة والعمل الاجتماعي من جهة، والانخراط السياسي والتحالفات الإقليمية من جهة أخرى، تجد الجماعة نفسها أمام تحدّي إعادة تعريف دورها ووظيفتها داخل النظام اللبناني، لا خارجه.

إن مستقبل الجماعة لا يبدو مرهونًا بقدرتها على الصمود الأيديولوجي بقدر ما يرتبط بمدى استعدادها لإجراء مراجعات واقعية تُعيد ترتيب أولوياتها، وتُخفّف من أثقال الاصطفاف الإقليمي، وتفتح المجال أمام خطاب أكثر انفتاحًا على البيئة السُّنّية اللبنانية وتنوّعاتها. في هذا المعنى، تطرح تجربة الجماعة سؤالًا أوسع حول شروط اندماج الإسلام السياسي في النموذج التوافقي اللبناني، وحدود الممكن بين الثبات المبدئي والتكيّف البراغماتي.

من هنا، لا يمكن قراءة مسار الجماعة الإسلامية بوصفه حالة معزولة، بل باعتباره تعبيرًا عن مأزق بنيوي يطال الإسلام السياسي السُّنّي في لبنان والمنطقة، حيث تتقاطع الطموحات العقائدية مع قيود الجغرافيا السياسية، وتفرض البراغماتية نفسها شرطًا للبقاء والاستمرار، لا مجرّد خيار تكتيكي.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  محمود عباس.. باقٍ باقٍ!