بوتين في مؤتمره السنوي: الأحادية القطبية انتهت بالفعل

استحوذت الشؤون الداخلية على الجانب الأكبر من المؤتمر الصحافي الكبير للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنسخته الخامسة عشرة، لكنّ هذه الفعالية السنوية شكلت مناسبة لتوجيه العديد من الرسائل الخارجية، وإن ضمن هامش ضيّق فرضه الوسط الصحافي الروسي، الذي انصب اهتمامه على أجندة الداخل بمروحتها الواسعة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً... وتاريخياً.

لم يشذ المؤتمر الصحافي الكبير لفلاديمير بوتين عن القاعدة التقليدية لهذه الفعالية السنوية لجهة تقديم تحدّيات الداخل على شؤون الخارج. لكن الأجندة الداخلية فرضت نفسها، أكثر من أي وقت مضى، على مداخلات الصحافيين الذين تباروا، كعادتهم، في رفع اللافتات المتنوّعة، لإثارة انتباه دميتري بيسكوف، السكرتير الصحافي للكرملين، حتى يفسح لهم فرصة التوجه إلى الرئيس.

مع ذلك، لم تغب السياسة الخارجية عن الأسئلة التي تشغل الصحافة المحلية، ولا سيما تلك التي تحمل تأثيرات داخلية، وخصوصاً في الشقين الاقتصادي والأمني، أو تلك التي تمكّن الصحافيون الأجانب من طرحها، سواء في ما يتصل بالعلاقات مع الولايات المتحدة والصين، أو النزاعات التي تُعنى بها روسيا بشكل مباشر أو غير مباشر، ولا سيما الأكثر آنية منها، كالوضع في أوكرانيا وليبيا، والتي رد عليها الرئيس الروسي بمواقف أمكن من خلالها رصد التموضعات الاستراتيجية لروسيا على المسرح الدولي.

سباق التسلّح… وعزل ترامب

الجانب الأهم في المواقف الخارجية التي تطرّق إليها بوتين، خلال مؤمره الصحافي السنوي بنسخته الخامسة عشرة، والذي تجاوز، كالعادة، حاجز الأربع ساعات، تمحور حول العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، ولا سيما في ما يتصل بتمديد اتفاقية “ستارت 3″، التي تراها روسيا الإطار الأهم لكبح سابق التسلّح في العالم.

الرئيس الروسي شدد على أهمية هذه الاتفاقية، لكونها جزءاً من قضايا الامن العالمي التي تشكل، بحسب قوله، “أحد الأسس التي يجب أن نبني عليها علاقاتنا” مع الولايات المتحدة.

حتى الآن لا يبدو أن الأمور تسير على ما يرام بشأن مستقبل الاتفاقية المثيرة للجدل، وفق ما أكد بوتين، الذي أشار إلى أن الجانب الأميركي “لم يقدم إجابات على جميع مقترحاتنا”، محذراً من أنه “من دون (ستارت 3)، فلن يكون هناك أي شيء على الإطلاق يعوق سباق التسلح في العالم، وهذا الأمر، في رأيي، سيء للغاية”.

يضاف إلى ما سبق، مؤشر سلبي خطير ألقى عليه بوتين الضوء في سياق الحديث عن العلاقات مع الولايات المتحدة، وهو التهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي الروسي من جهة الشرق ، حيث شدد على أن بلاده لا يمكنها غض الطرف، في سياق قضية جزر الكوريل، عن تعاون واشنطن وطوكيو العسكري.

وقال بوتين، رداً على سؤال من صحافي ياباني بالقول “لسنا نحن من قال إن الولايات المتحدة تتفق مع اليابان على نشر صواريخ متوسطة المدى، بل  مصادركم اليابانية والأميركية”. وتساءل “كيف يمكننا غض الطرف عن ذلك، وخاصة في سياق الجزر؟ أين ضماناتنا أن غداً لن تظهر في هذه الجزر أنظمة هجومية أميركية جديدة؟”.

برغم ذلك، شدد بوتين على أن روسيا “مهتمة بالحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة”، مؤكداً “أننا سنفعل ذلك بغض النظر عمن هو في البيت الأبيض، أو من يسيطر على مجلسي الكونغرس الأميركي”.

في هذا الإطار، كان لا بد أن يتطرق بوتين إلى التطوّرات الجارية في الولايات المتحدة، لجهة إجراءات العزل التي يواجهها الرئيس الاميركي دونالد ترامب، حيث أشار إلى انه ليس متأكداً من نجاح مسعى الديموقراطيين، لافتاً إلى أن “الأمر يحتاج إلى الذهاب إلى مجلس الشيوخ، حيث يتمتع الجمهوريون، على حد علمي، بالغالبية، ومن غير المرجح أن يرغب هؤلاء في إزاحة ممثل حزبهم من السلطة”.

استبعد بوتين أن تنجح مساعي الديموقراطيين في عزل ترامب

ووضع بوتين ما يجري على حلبة المصارعة بين الديموقراطيين والجمهوريين في إطار “استمرار الصراع السياسي الداخلي، حيث يسعى حزب واحد خسر الانتخابات (الحزب الديموقراطي) لتحقيق نتائج بوسائل أخرى”، موضحاً “في البدء، اتهموا ترامب بالتآمر مع روسيا، ثم اتضح أنه لم تكن هناك مؤامرة…  الآن توصلوا إلى نوع آخر من الضغط عبر بوابة أوكرانيا”.

 

الصين-روسيا: نهاية الأحادية العالمية

في مقابل العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة، كرّست مواقف بوتين ملامح تموضعات روسية جديدة على المسرح الجيوسياسي الدولي، وخصوصاً لجهة التقارب مع والصين، إذ أشار إلى أن “أهم ما حققناه في السنوات الأخيرة بين روسيا وجمهورية الصين الشعبية لا يقاس بالأرقام، ولا بالصناعات المشتركة فحسب، بل بالمستوى غير المسبوق في الثقة التي تطورت بين بلدينا”.

وأشار بوتين إلى أن روسيا والصين “تخطوان خطوات كبيرة في المجال الاقتصادي، حيث لدينا بالفعل مبيعات تتجاوز مئة مليار دولار، وسنقوم بالتأكيد بإيصالها إلى مئتي مليار، فضلاً عن التعاون في مجالات التكنولوجيا الفائقة – سواء في الفضاء، أو في صناعة الطائرات وقطاع النقل بشكل عام، بجانب العديد من الاتجاهات الأخرى”.

وشدد بوتين على ان “التعاون الروسي الصيني عامل رئيسي في الاستقرار الدولي ، بما في ذلك تأثيره على إرساء القانون الدولي وإنشاء عالم متعدد الأقطاب، وهو قد تم إنشاؤه بالفعل، إذ لم يعد هناك عالم أحادي القطب”.

التعاون الروسي الصيني عامل رئيسي في الاستقرار الدولي

وتطرّق بوتين إلى أهمية العامل الصيني في المشهد الدولي المعاصر، إذ ذكّر بأنه “بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نشأ الوهم بأن هذا العالم الأحادي القطب، كان ممكنا، وأنه سيكون موجوداً لفترة طويلة، لكن كل ذلك كان مجرد وهم، والأحداث الأخيرة أظهرت لنا ذلك تماماً”، مشيراً إلى انه “بعد الحرب العالمية الثانية، كانت حصة الولايات المتحدة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي 50 في المئة، والآن حصة الصين أعلى من حصة الولايات المتحدة… وعند تعادل القوة الشرائية ، يصبح الاقتصاد الصيني أكبر من الاقتصاد الأميركي”.

إقرأ على موقع 180  «ثورة» الأميركيين أبعد من ثنائية «الأبيض والأسود»

أوكرانيا… لا بديل عن “اتفاقات مينسك”

 

في الملف الاوكراني، أسهب بوتين في شرح الموقف الروسي من عملية التسوية، في ضوء ما خرجت به قمة “مسار النورماندي” الأخيرة في باريس، والتي شهدت أول لقاء مباشر له مع الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلنسكي.

في هذا الإطار، أكد بوتين “لا بديل عن اتفاقات مينسك”، مؤكداً أنه “شعر بانزعاج شديد” تجاه بيان الرئيس الأوكراني الذي تحدث “إمكانية مراجعة” هذه الاتفاقات، ومبدياً “قلقه” من أن ذلك سيؤدي إلى توقف “مسار النورماندي” بكامله.

على هذا الأساس، أعاد بوتين التأكيد على ثوابت المقاربة الروسية لحل الأزمة الأوكرانية، وأولها أن”مفتاح اتفاقات مينسك هو القانون المتصل بالوضع الخاص للدونباس”، في جنوب شرق اوكرانيا، والذي “ينبغي تضمينه في الدستور”؛ وثانيها “الحاجة إلى حوار مباشر مع الدونباس”.

وأضاف “يقولون إنه سيتم إدخال بعض التغييرات المتعلقة باللامركزية. حسناً، هذا أمر جيد، ولكن هل هذا بديل لاتفاقيات مينسك؟ هل هو بديل لقانون الوضع الخاص للدونباس؟ هل يمكن تخيّل هذا؟ يمكننا طبعاً، ولكن القضايا المتصلة بالدونباس مكتوبة في اتفاقيات مينسك، وبالتالي يجب أن يتم التنسيق مع هذه المناطق بشأن هذه المسائل”.

ونصح بوتين بمواصلة العمل وفق “مسار النورماندي”، انطلاقاً من بعض الإيجابيات التي تحققت مؤخراً ومن بينها “انخفاض عدد الهجمات”، ولكنه شدد على أن نتائج الاجتماعات المستقبلية تبقى رهناً بتحقيق تغييرات إيجابية على طريق الحل السياسي.

 

حرب الغاز

الحديث عن الصراع الأوكراني فتح الباب، بطبيعة الحال أمام التطرق إلى التوجهات الروسية المتصلة بصادرات الغاز إلى أوروبا، وخصوصاً في ظل النزاع القضائي القائم مع أوكرانيا بشأن اتفاق العبور.

وفي هذا الإطار، قال بوتين: “سنسعى إلى حل مقبول للجميع ، بما في ذلك أوكرانيا”. وأضاف “كما قلت مرات عديدة، فإنه بالرغم من إنشاء مرافق بنية تحتية جديدة مثل نوردستريم-1، ونوردستريم-2، وتورك ستريم، إلا أننا سنحافظ على العبور عبر أوكرانيا، ولكن السؤال هو حجم هذا العبور، والشروط التي يمكن من خلالها إبرام العقد الخاص بذلك”.

سنحافظ على عبور الغاز عبر أوكرانيا لكنّ السؤال هو حجم هذا العبور

وأشار بوتين إلى أنه “بالرغم من أن الطريق الأوكراني إلى أوروبا أطول من الطريق عبر بحر البلطيق، وأكثر تكلفة بالنسبة إلينا، إلا أنه طريق راسخ، وهذا أمر جيد، ونحن على استعداد للحفاظ عليه، وسنكون على استعداد لتزويد أوكرانيا بالغاز بسعر مخفض من 20 إلى 25 في المئة”، مشدداً على أنه “ليست لدينا أية رغبة في تفاقم الوضع في قطاع الطاقة أو استخدامه بطريقة ما للتأثير على الوضع في أوكرانيا نفسها، بل نحن مهتمون بتأمين مورد طبيعي لأوكرانيا، بحيث يكون مستهلكونا في أوروبا هادئين”.

ليبيا

 

في سياق آخر، استحوذ الملف الليبي على ما عداه في ما يتصل بالمنطقة العربية خلال المؤتمر الصحافي لبوتين، بما في ذلك الملف السوري، الذي أتى الرئيس الروسي على ذكره بشكل عرضي، حين تطرّق إلى التهديدات التي يمثلها إرهابيو “داعش” في السجون والمخيمات في الشمال السوري، وتداعيات ذلك على الأمن القومي العالمي.

وفي ظل التطوّرات المتسارعة في ليبيا، والاندفاعة التركية – الروسية على خط الصراع بين حكومة الوفاق والمشير خليفة حفتر، قال بوتين إن روسيا على اتصال مع الطريف، وتشارك باستمرار في حوار مع الأطراف المعنية بالصراع الليبي، بما في ذلك تركيا وأوروبا وبلدان أخرى.

وأضاف “نحن ندرك أن هذه قضية حساسة للغاية، وانتم تدركون جيداً من الذي تسبب بالوصول إلى هذا الوضع”، مذكّراً بأن “قرار مجلس الأمن الذي تم تبنيه بشأن هذه المسألة حظر على الزعيم الليبي السابق القذافي استخدام طائرته ضد قوات المعارضة، وبدلاً من ذلك، بدأ التحالف الغربي في استخدام الطيران في ليبيا، ما أدى إلى تشويه القرار الدولي بوقاحة”.

واعتبر بوتين أن “الأصح هو إيجاد حل بين الأطراف المتصارعة من شأنه أن يسمح بإنهاء الأعمال العدائية والاتفاق على القضايا السياسية، وبالتأكيد سنتحدث عن هذا الأمر مع شركائنا في أوروبا – وقد قد ناقشت الأمر للتو عبر الهاتف مع المستشار الألماني والرئيس الفرنسي، وكذلك  مع الرئيس (رجب طيب) أردوغان”.

ولفت بوتين إلى أنه خلال الأيام المقبلة سيحصر وفد تركي إلى موسكو لمناقشة هذه المسألة، معرباً عن أمله في أن “تفضي القرارات التي ستتخذها ليبيا، مع ممثل الأمين العام للامم المتحدة ، السيد غسان سلامة، إلى حل نهائي”.

Print Friendly, PDF & Email
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  خطاب الأسد.. أية حظوظ لفرصة التعافي السورية؟