عن فدرالية الكورونا وشوبنهاور

كثر الكلام عن تأثيرات الفيروس التاجي على الانظمة وعلى مستقبل العلاقات بين الدول والشعوب، وعن بعض دعوات القوقعة خوفاً من الاختلاط، وزدْ على ذلك ما قد ينتج من افكار يتسم بعضها بالبدائي وآخر بالحالم وغير الواقعي. بين هذه وتلك، اعجبتني مقاربة الصديق والزميل حسين ايوب حول الكورونا ولبنان الذي ليس بخير، وهو اصلاً ليس بخير من دون الحاجة الى كورونا، وعن كيف ارتدّت "شعوبه" الى دواخلها، فكان ان رغبتُ [في محاكاة شخصية لواقع الحال] مشاركته بعض الافكار علّها تغني النقاش.

ليس جديداً على لبنان ان يدفع اثمان سياسات الاخرين الذين يلتقون معه، او مع بعض منه، في حساباتهم ومن ثم يتركونه حين تختلف الحسابات، فيدفع من حسابه، وحسابه الاول دماء شبابه وادمغتها.

التقت مصالح ايران الاسلامية مع بعض لبنان ضد اسرائيل، فكان دعماً استثنائياً للمقاومة الاسلامية حتى على حساب المقاومات المدنية الاخرى وبالتالي الامساك الكامل بالقرار على حدوده الجنوبية. والتقت مصالح الغرب والعرب مع بعض لبنان ضد النظام السوري، فكان ان أُخرج جيشه من لبنان، وضاع مخرجوه المحليين مع مخرجيه الخارجيين في اي مشروع للبنان يقدمون للعالم لتكون تصفيات الخروج على تصفيات جسدية لبنانية وبعضها سورية، وتتراكم الاثمان على اللبنانيين… ويرحل العالم ويبقى اللبنانيون وحدهم.

منذ زمن غير قريب والسؤال يتكرر، اي لبنان نريد؟ نعم يا صديقي حسين، وبالرغم من تسوية الطائف التي انتجت هدنة غير متوازنة على وقع مفروضات موازين القوى، يستعيد اللبنانيون في شوارعهم وخيامهم الثورية طرح السؤال من جديد: اي لبنان نريد؟ لبنان العلماني؟ التوافقي؟ الطائفي؟ الإسلامي؟ المدني؟ او سوى ذلك.

امام هذه الطروحات، اعود الى اساس “الخلطة” اللبنانية، والتي هي مجموعة فدراليات معتورة غير منظمة تتوزع فيها الطوائف والمذاهب الصلاحيات والمناصب، في الحكومات والمجالس الى الوظائف العامة منذ القائمقاميتين الى المتصرفية الى لبنان  الكبير. وما يحدث في لبنان من سوء، هو نتيجة مساوىء عدة ابرزها اثنان؛ اولهما، سوء تطبيق الفدرالية بين الطوائف، وثانيهما، سوء احترام الآخر المبني على متغير غير ثابت، وهو توازن القوى، وليس ابداً  دافع الاحترام الواجب والموجب والعميق لهذا البستان المتنوع الغني الذي اسمه لبنان، حيث نرى هذا الغنى شرّاً مستطيراً، وكل شجرة لا تشبه شجرتنا نقطعها ونحرق ثمارها ونرميها في النار.

ومنعاً للاطالة يا صديقي، اليك بمدخلٍ لنقاش علّه يكون مدخلاً لحلٍّ قد يستعيض عن حروب عديدة جديدة وبكل تأكيد غير مجدية.

فلتكن في لبنان الفدرالية الجغرافية كما هو نظام الامارات العربية المتحدة او قُلْ ألمانيا الاتحادية او الولايات المتحدة الاميركية، ولكن بما يسهل اسقاطه على لبنان، فدرالية لا تقسِّم المناطق بحسب الطوائف، بل توزّع القوى على الاقضية وتحوّلها الى محافظات ذات صلاحيات واسعة وصولاً الى بعض التشريعات الداخلية التي تخصها، كأن يصح الزواج المدني في قضاء (محافظة) المتن مثلاً لا حصراً، وان كان لا يصح في محافظة اخرى. وذلك مع الاحتفاظ بقوة مركزية فدرالية وشرطة فدرالية الى جانب البوليس المحلي الذي يحافظ على الامن الداخلي، ويكون جاهزاً كما الشعب السويسري حين يدق الخطر على اي باب من أبواب لبنان. أضف الى ذلك، تشريع فدرالي الى جانب التشريع المحلي ويعلو عليه، وقضاء متوازي ونظام ضرائبي وهكذا دواليك.

فلتكن في لبنان الفدرالية الجغرافية كما هو نظام الامارات العربية المتحدة او قُلْ ألمانيا الاتحادية او الولايات المتحدة الاميركية، ولكن بما يسهل اسقاطه على لبنان، فدرالية لا تقسِّم المناطق بحسب الطوائف، بل توزّع القوى على الاقضية وتحوّلها الى محافظات ذات صلاحيات واسعة وصولاً الى بعض التشريعات الداخلية التي تخصها

وهذا النظام الاتحادي، يعزز وحدة الكيان ويحمي حرية الاختيار وفقاً للمواطنة والقناعة والحرية الشخصية لا الانتماء الديني، بحيث يعيش المواطن حيث يتناسب مع قناعته الذاتية في العيش بعيداً عن حصره في الرابط الطائفي الذي نادراً ما يشكل رابطاً روحياً لدى العامة عندنا بل تكثر فيه الشعائر الدينية الاجتماعية او الإيمان الجماهيري وتقلّ الروح. وحيث تتكاثر الاساءات ضد الآخر المختلف باسم الله، ومن قال ان الله يريد ما يريدون!

انها بضعة اسطر لفتح النقاش، والبحث يطول في زمن الحاجة الى تطوير النظام لصالح المواطنة وتقليم اظافر الطائفية المسنونة فيه لصالح الانسان اي انسان في اي زمان واي مكان.

وأختم بما كتبه يوماً الفيلسوف الألماني شوبنهاور علّه يصلح توصيفاً للواقع يمنع تداخل الداخل مع الخارج، بل قد يُخرج الخارج الى غير رجعة. توصيف فلسفي بعيد عن الشعارات التي تتطاير وتنتظر من يلتقطها كمن يريد حبس الهواء في كفيه. قال شوبنهاور:”في ليلة شتاءٍ ثلجية، حاول قطيع من النيص (القنافذ) الاقتراب من بعضهم البعض لتحاشي البرد القارس، لكنهم عجزوا بسبب قساوة اشواكهم فابتعدوا، ثم لشدة البرد حاولوا من جديد وكلما اشتد البرد حاولوا بعد، وهكذا الى ان وجد النيص مسافةً مناسبة تقيهم البرد وتحميهم من اشواكهم”.

حسين يا صديقي، مشكلتنا اننا نشبه بعضنا في العمق، وكلنا لهُ ما لهُ من اشواك، لكنّ البيت صغير… والبرد قارس!

(*) راجع مقالة حسين أيوب “كورونا يعيدنا إلى كانتوناتنا.. لبنان ليس بخير”: https://180post.com/archives/9827

(*) راجع مقالة سليم الأسمر “اللامركزية vs الزبائنية.. سيرة وإنفتحت”:https://180post.com/archives/9858 

(*) راجع أيضاً مقالة سليم الأسمر “اللامركزية قناع الهويات الفرعية”:https://180post.com/archives/9901

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  مقتدى الصدر "صانع الملوك" في العراق.. بدعم أميركي؟
ملحم الرياشي

صحافي وكاتب؛ نائب في البرلمان اللبناني

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  إسرائيل تسأل.. هل عاد الفدائيون إلى مخيمات لبنان؟