صراع سعد وبهاء في ظلال الثورة: طرابلس نموذجاً

انفلات الوضع الأمني في طرابلس طرح فيضاً من أسئلة سياسية عديدة عن معنى استهداف الجيش والقوى الأمنية، ما جعل المدينة ساحة لحرب شوارع، فالعاصمة الثانية المُعقدة بتشابك عناصر عديدة تبدأ من فقر مُدقع وبنيوي ولا تنتهي عند حجم وقدرات قوى تزعم لنفسها هوية دينية ومعنى مذهبياً، فيها أيضاً فيضٌ من صراعٍ بين الزعامات السياسية السُنية التي وجدت نفسها على الهامش بعدما حل حسان دياب في المقعد الأمامي في لحظة سياسية هي الأكثر حراجة في تاريخ لبنان.

ما يحصل في مدينة طرابلس هو حراك شعبي ليس بعيداً عن انتفاضة 17 تشرين، لكن بمضمون مستجد يعكس وجهتين: واحدة تعبر عن وضع الطائفة السنية وما يسودها من “احباطات” زعمتها قيادات سُنية وعارضتها بذلك زعامات ثانية. وأخرى تُكشف تشابكاً وتعارضاً بين خيارات تبلغ حد التعارض، وراحت تغذيها مقالات وسجالات. وهذه عبرت عن ذاتها بمروحة مواقف تبدأ بالرئيس سعد الحريري وتأرجحه المعتاد في مواقفه من الحكومة الحالية وصولاً إلى التصريحات التي صدرت من دار الفتوى مؤخرا وعلى لسان الرئيسين تمام سلام وفؤاد السنيورة، وكذلك من النائب نهاد المشنوق، ناهيك عما سبقها، لا سيما من تعليق لزيارة حسان دياب الى صيدا بغطاء من السنيورة قبل أن تنقلب الأمور رأساً على عقب.

وما يثير الانتباه في هذا السياق، أن حساسية المرحلة سياسياً وأمنياً تزداد حراجة جراء انكفاء الزعامات السنية عن التفاعل الوطني العام واكتفائها بـ”حردٍ سياسي” ضد بعضها البعض، وضد الآخرين. فاجتماع رؤساء الحكومات الأربعة لا ينتج غير بيانات سياسية تصيبهم شظاياها كرؤساء محتملين للحكومات مستقبلاً، بينما على الأرض، تحول الاحتقان الشعبي إلى “إنفجار أمني” قابل للاستثمار في شتى الإتجاهات. والاحتقان هذا ليس وليد لحظته، فهو ما فتىء يتراكم مبتدئاً مسيرته بخيبات متتالية من أداء قياداته، وخصوصا سعد الحريري الذي استجلب إلى سوء الأداء صراعاً مع شقيقه بهاء، فبدا أن الشقيقين يتنازعان على أرث لا على تراث سياسي يتعلق بدور الطائفة ووزنها في التركيبة اللبنانية.

وقد وجد “صراع الأهل” مداه الأوسع في مدينة الفيحاء عند مفصلين: الأول كان في الحافلات التي أقلت من المدينة إلى ضريح الرئيس الحريري ببيروت في 14 شباط/فبراير “ثواراً” ناقمين على نهج سعد. والآخر، كان في الأحداث الأمنية الخطيرة التي حولت المدينة إلى حرائق متنقلة في الشوارع، مستهدفة الجيش والقوى الأمنية على وجه التحديد. وهو أمر لم يحصل حتى في زمن جولات العنف بين التبانة وجبل محسن. وهذا أكثر ما يستدعي التوقف عنده، خصوصاً مع ظهور البعض ممن كانوا يعرفون بـ”قادة المحاور”، ناهيك عن أسماء معروفة بارتباطها الوثيق الصلة بممثلي السيد بهاء الحريري.

صراع الأهل

وما يعطي “صراع الأهل” مضموناً أعمق هو حصوله على حلبات “البيئة السنية” بالمعنى العريض، وعلى أرض يُفترض أنها محسوبة على تيار المستقبل. وما رفع وتيرة الصراع “كان وجع وجوع الناس المحاصرين بجائحة كورونا وبالارتفاع الجنوني للاسعار وانهيار الليرة، إذ تم استغلال هذه العناصر كبوابة لعودة الحراك الى الشارع، الذي حمل عن قصد أو غيره “تسللاً” لقوى تريد الاستثمار في مواجهة الحكومة الحالية وداعميها السياسيين”، على ما تقول مصادر رفيعة. وتبيّن ان التحشيد الاعلى هو في مناطق نفوذ “التيار الأزرق” من طرابلس الى البقاع مروراً ببعض الأحياء البيروتية وصولاً إلى إقليم الخروب ثم صيدا. فكان ان تم استعادة مشاهد قطع الطرقات وتقطيع أوصال المحافظات.

ويجري هذا الصراع مُستغلاً التشابك في المشهد السياسي الداخلي المرتبط بالحكومة وما رفعته من شعارات وأقرته من مشاريع خطط لمواجهة الانهيار النقدي الذي جاء جراء السياسات الاقتصادية والمالية القائمة منذ العام 1992. فمنذ تشكيل حكومة دياب اتخذت المواجهة ضده منحىً تصاعدياً. في البدء، كان مقرراً اعطائه فترة سماح ما لبث أن علقها نادي الرؤساء الاربعة معاً، ثم الحريري منفرداً. والتصعيد كان يحصل على ايقاع قرار الحكومة محاربة الفساد واتخاذ اجراءات عملانية في المجالين الاقتصادي والنقدي. وما لبثت ان وجدت هذه الحملة “حلفاء ظل” و”حلفاء مستترين” يجمع في ما بينهم أمر معلن ومضمونه اسقاط الحكومة الحالية، وآخر مُضمر، وهو ليس بجديد وجوهره صراع الزعامات.

مشهد 1992 مكرراً

لكن الجديد ـ القديم في ما حصل ويحصل هو استعارة “أدوات وعدة” دخول الرئيس رفيق الحريري إلى الحياة السياسية اللبنانية في أيار/مايو 1992، إذا صح التعبير. ومن مفارقات المصادفة أن الراهن من أحداث يقع متماثلاً مع تاريخ الماضي ومشهدياته. فآنذاك، انهارت العملة الوطنية أيضاً وسقطت حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي على حرارة الدواليب التي اشتعلت في أرجاء لبنان وغطت سمائه.

وما كان مطلوباً من التظاهرات آنذاك مختلف تماماً عما يراد حالياً. اليوم يتداخل في الوقائع صراع الشقيقين. فالمجموعات التي وفدت في 14 شباط/فبراير الماضي من طرابلس الى بيروت واشتبكت مع القوى الأمنية في محيط ضريح الرئيس الراحل ومسجد محمد الأمين، هي نفسها برموزها وعناصرها على ما تؤكد مصادر أمنية رفيعة، باغتت الجيش منتصف ليل أمس الأول بأعمال العنف لينسحب الأمر أيضاً فيطال قوى الأمن الداخلي ما أدى إلى سقوط عشرات الجرحى من القوى العسكرية والأمنية ناهيك عن إحراق آلية للجيش ومركبتين لقوى الأمن الداخلي. وبحسب المصادر نفسها، فان المجموعات المعروفة بولائها لبهاء الحريري تسللت وفعلت فعلها في عمليات الشغب. وهناك تقارير تورد بالاسماء قادة هذه المجموعات، الذين تحالفوا مع شخصيات فقدت الامل من “الحضن التركي”.

“الهدف من الوتيرة غير المسبوقة لأعمال العنف هذه يتركز على تصفية زعامة سعد الحريري لتيار المستقبل والانتقال إلى مرحلة جديدة عنوانها شقيقه بهاء”. وما يدور في الكواليس، يصب في هذا الاتجاه، اذ لمرة جديدة يخرج نهاد المشنوق بكلام من دار الفتوى يعلن فيه “هناك مؤامرة على السنية السياسية وسنواجهها، ونحن قدها وقدود”، وهذا الكلام ينطبق عليه المثل الشعبي “احكي الكنة لتسمع الجارة”، تقول مصادر سياسية رفيعة.

تضاد مغناطيسي

اذا، هو صراع الشقيقين سعد وبهاء. وان لم يكن جديداً هذه المرة، إلا أنه يحصل تحت ظلال “الثورة”. هناك محطات متتالية من هذا الصراع منذ العام 2005 عندما تمت تولية سعد بدلاً من بهاء الذي كانت الهتافات الشعبية في بيروت ترطن باسمه في لحظة “يا قوم”، إلى أن جاء القرار بتولية الإبن الثاني باتفاق رعته السعودية وباركته الولايات المتحدة الأميركية وأُعلن من باريس برعاية الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك.

لم يستكن يوماً الصراع بين الشقيقين. فقد شهد محطات عدة مستعرة وحامية، حيناً في السياسة، وأحياناً في مجال الأعمال. لكن ظهورها إلى العلن ومن خارج السياق كان مع الانتخابات البلدية في بيروت. يومها رشح سعد الحريري جمال عيتاني “معاندةً” لشقيقه بهاء الذي يتهم رئيس بلدية بيروت الحالي بما يسميه هو “ارتكابات” في المال والإدارة والاعمال (في الأردن تحديداً). ثم ما لبث أن خفت هذا الصراع ليعود بفجاجة أكبر في شباط/فبراير 2020 خلال احياء ذكرى اغتيال والدهما.

إقرأ على موقع 180  دكتاتوريو الطوائف.. إن جنّوا قريباً

بين سعد وبهاء نوع من التضاد المغناطيسي. كلما اقتربا ازدادا تباعدا. اشتباكهما ليس محصور الذيول بهما، فصراعهما ـ مُستتراً ومُعلناً ـ تنسحب أكلافه على المكون السني. وبيان بهاء الأخير في 14 شباط/فبراير الماضي، كان الشعرة التي قصمت ظهر البعير. وما كان مُستتراً صار فاضحاً في علانيته. وفي الشكل، فان الاشتباك بين الشقيقين يميل في عناصره التشغيلية والتعبوية لصالح “الأخ الأكبر”. فاخطاء سعد ـ إلى تلك التي سجلها منذ حكومة العام 2009 ـ وضبابية مواقفه راحت تتوالى منذ ما عُرف بـ”أزمة الاستقالة” من الرياض عام 2017 مع وعد “ببق البحصة” لم يف به. ورصيده المالي والشعبي يتآكل جراء قرار السعودية وقف تمويله، ناهيك عن خياراته المترددة وتأخره في تعلم قواعد السياسة اللبنانية مع ضعف في استغلال الوقت والفرص. فما كان من بهاء الا ان اعتمد الرسائل التذكيرية بأنه هو صاحب الحق في الوراثة السياسية والتي يجب ان يؤول موقعها الدستوري اليه، والأهم أنه مستعد للصرف من ماله الشخصي في السياسة، بعكس شقيقه.

رفض المبايعة وغضب ولي الأمر

المحطة الاكثر سطوعا والتي بيّنت مشهد الصراع على حقيقته، كانت يوم 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، حين اختفى رئيس وزراء لبنان فور وصوله في زيارة عاجلة الى الرياض، ليتبيّن بعد استنفار رسمي وشعبي داخلي وخارجي ان الرجل محتجز بعدما اطل عبر شاشة “العربية” قارئا بيانا مكتوبا وبمصطلحات سعودية معلنا استقالته من رئاسة الحكومة. ولم يمر الوقت حتى وصل امر ولي الامر ومفاده “سعد خارج المعادلة وبهاء هو الزعيم وعليكم بالمبايعة”. هذا الامر اثار الفريق اللصيق بـ”الرئيس المُحتجز” وكان لا بد من استعادته بالسياسة منعاً لأي انفجار داخلي وللحيلولة دون تسجيل سابقة “المبايعة”، فإنبرى للأمر وزير الداخلية آنذاك نهاد المشنوق، الذي انتقى دار الفتوى كون مفتيها “قلبه مع سعد وسيفه مع السعودية”، فخرج ليعلن من باب الدار قائلا “ان اللبنانيين ليسوا قطيع غنم ولا قطعة ارض تنتقل ملكيتها من شخص الى آخر، ولبنان تحكمه انتخابات لا مبايعات، وان الكلام عن تعيين بهاء الحريري رئيسا للحكومة دليل على جهل بطبيعة السياسة فيه”، هذا الموقف الذي دفع ثمنه لاحقا المشنوق خروجا من جنة الوزارة وحملة شعواء عليه من داخل البيت المستقبلي دفعته الى الخروج من كتلة المستقبل النيابية، ناهيك عن الثمن الأكبر الذي دفعه نادر الحريري، وأقله منعه من دخول الأراضي السعودية.

تم تعطيل ارادة ولي الامر السعودي، واطلق سراح سعد الحريري بجهد وطني جامع ودولي استثنائي كان الدور البارز فيه لفرنسا ايمانويل ماكرون الذي مارس ضغطا هائلا على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وحدد موعدا في الاليزيه للحريري وعائلته قبل الافراج عنه. ومن يومها اصبح لبنان هدفا مباشرا  للحرب السعودية الاقتصادية والمالية والنقدية، وتم تجفيف كل مصادر الدعم والمساعدة، ولم تكتف بذلك بل الزمت دول مجلس التعاون الخليجي بوقف أي وسيلة دعم للبنان.

وعلى الرغم من الحصار الخليجي، نجح سعد الحريري بعد عودته عن استقالته من كسر الحصار بالتوجه دوليا، وتحديدا الى منقذه صديقه الرئيس الفرنسي ماكرون، فكان مؤتمر سيدر الذي انتهى الى وعود باستثمارات ومشاريع اساسية تقارب 12 مليار دولار، وبالتزامات لبنانية بتنفيذ اصلاحات جذرية، وهذا المسار من التفلت ازعج مجددا ولي الامر السعودي والإمارات الغاضبة لأسبابها السعودية والشخصية (الشيك بلا رصيد الذي أعطاه سعد لمحمد بن زايد).

إلى أين؟

في موازاة ذلك، إنبثق ما يشبه “مجلس وصاية” على سعد الحريري سُمي نادي رؤساء الحكومات السابقين. جلس النادي على كتفي الحريري حتى اثقلهما بالدعم عندما يحتاج وبالرقابة اللصيقة والتدخل المباشر والبيانات النارية. وعندما إندلعت انتفاضة 17 تشرين الاول/أكتوبر 2019، تنفس الثنائي السعودي ـ الاماراتي الصعداء، فكانت الفرصة التي لا تعوّض، وجاء الامر من “ولي الأمر” مجددا للحريري بالاستقالة ومغادرة مركب التسوية الرئاسية. حاول سعد التهرب، الا انه لم يستطع الصمود سوى 24 ساعة ليصعد الى القصر الجمهوري حاملا كتاب استقالته الى الرئيس ميشال عون، ناقضا ما سبق واعلنه قبل يومين من انه لن يستقيل وسيدعو الحكومة لتكثيف جلساتها للاسراع باقرار مشروع قانون الموازنة العامة!

سارع “الثنائي” الشيعي الى التمسك بالحريري مرشحا اوحدا لتكليفه مجددا رئاسة الحكومة، بينما وضع “التيار الحر” معادلة واضحة “دخلنا سوية إلى الحكومة ونخرج منها سوية”، وهذه المعادلة تسري على كل عهد ميشال عون. الا ان الحريري أُعتقل هذه المرة في بيت الوسط، ولم يستطع اتخاذ قرار العودة، ولم يتجرأ على قول الحقيقة انه ممنوع من العودة، فكانت الشروط التعجيزية وابرزها ان يترأس حكومة تكنوقراط بلا احزاب، بحيث يختار الوزراء وحده بلا شريك، متناسيا انه هو رئيس حزب سياسي وما ينطبق على غيره ينطبق عليه. يومها دخل الجميع في عملية فك الاحجية بعدما لم يمانع الحريري بتسمية غيره.

عندها تقرر الذهاب الى خيار تسمية شخصية غير استفزازية لتشكيل الحكومة، وبدأت مرحلة طرح الاسماء، فراح الواحد يسقط تلو الاخر وبشكل مهين، ما وسّع من دائرة الاعتراض داخل المكون السني على الحريري، خصوصا بعدما تم طرح اسم الوزير السابق بهيج طبارة لرئاسة الحكومة، وهو احد ابرز المقربين من رفيق الحريري وزوجته السيدة نازك، ليتبين لاحقا ان الامر لا يتصل بتسمية شخصية اخرى، انما بمحاولة الانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية وفرض وقائع سياسية مغايرة على غرار قرارات حكومة فؤاد السنيورة في 5 ايار/مايو 2008 والتي ادت الى  “7 ايار”. عندها أدرك الجميع حجم الخطر الداهم فكان أن وقع الخيار على تسمية حسان دياب الذي شكل حكومة تكنوقراط بالشكل، لكنها ضمت عملياً ممثلين لقوى الائتلاف الاكثري النيابي.

أمام هذه الوقائع المضطربة أمنياً وسياسياً والمتشابكة عائلياً مع عوامل خارجية، ممتدة على مساحة المكون السني، يقع لبنان مجدداً على خط التوتر والانفجار، ويعيد إلى الأذهان السؤال “الجنبلاطي” الشهير: إلى أين؟

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لا توافق عربياً على عودة دمشق.. و"التسعة" يجتمعون في عمّان خلال أسبوع