هذا الجدل يجعل من التجربة السويدية نموذجاً يسعى البعض للترويج له، ولو بشكل غير مباشر، ضمن أهداف واسعة تصب في خانة الخروج من المأزق الذي بات يقض مضاجع كافة دول العالم، لا سيما في ظل التقديرات الضبابية الناجمة عن عجز العلماء على فك شيفرة الفيروس الجديد، وهو ما يلقي بظلال قاتمة على امكانية تطوير اللقاحات أو العلاجات الملائمة لمواجهته في المدى القريب، وفي ظل التوقعات الاكثر سواداً بشأن التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية للجائحة الوبائية، لا سيما في موجتها الثانية التي قد تكون وطأتها أشد من سابقتها التي لا تزال البشرية في عين عاصفتها.
على سبيل المثال، يقدّم مقال مشترك بين الباحثين نيلز كارلسون وتشارلوتا ستيرن ودانييل ب. كلين، نشرته في مجلة “فورين أفيرز”، التجربة السويدية باعتبارها نموذجاً مستقبلياً قد تعتمده غالبية دول العالم.
بداية لا يخفي كتّاب المقال المذكور نزعة ايديولوجية في التشكيك بالتجربة الصينية، القائمة على فكرة العزل التام، وهو ما يستدل عليه في المقدمة، حين يذكّرون بأنّ “الصين وضعت 50 مليون شخص تحت الحجر الصحي في مقاطعة ووهان في كانون الثاني/يناير”، لمواجهة انتشار فيروس كورونا، وانه “منذ ذلك الحين، اتخذت العديد من الديموقراطيات الليبرالية تدابير استبدادية عدوانية خاصة بها لمحاربة الفيروس التاجي الجديد”.
يشير المقال في هذا السياق إلى أنه “بحلول منتصف آذار/مارس، كانت كل دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تقريباً قد اعتمدت إجراءات العزل الصارم، كإغلاق المدارس والجامعات وأماكن العمل ووسائل النقل العام، بجانب فرض قيود على النشاطات العامة، واغلاق حدود السفر المحلي والدولي”.
ومع ذلك، برزت دولة واحدة كاستثناء في الغرب: بدلاً من الإعلان عن الإغلاق أو حالة الطوارئ ، طلبت السويد من مواطنيها ممارسة التباعد الاجتماعي على أساس طوعي في الغالب.
والواقع أن السلطات السويدية فرضت بعض القيود المصممة لتسوية المنحنى الوبائي، حيث حظرت التجمعات العامة لأكثر من 50 شخصاً، ومنعت الخدمة في الحانات، واعتمدت التعلم عن بُعد في المدارس الثانوية والجامعات، ولكنها تجنبت اتخاذ ضوابط صارمة أو فرض غرامات على منتهكي قواعد الحجر الذاتي، علاوة على أنها – وعلى النقيض من النرويج المجاورة (وبعض الدول الآسيوية) – لم تعتمد أية تقنيات أو تطبيقات للتتبع الاجتماعي، وفضّلت بالتالي عدم انتهاك الخصوصية والاستقلالية الشخصية.
صحيح أن السويديين غيّروا من سلوكياتهم العامة، ولكن ليس بشكل عميق، مثلما حدث مع مواطني البلدان الغربية الأخرى. على سبيل المثال لا تزال العديد من المطاعم مفتوحة في السويد (رغم أن عدد روادها يتضاءل)، ولا يزال الأطفال الصغار يذهبون إلى المدارس ودور الحضانة.
يشير مقال “فورين افيرز” إلى أن “السلطات السويدية لم تقل رسمياً إنّ هدفها الوصول إلى مناعة القطيع، التي يعتقد العلماء أنها قابلة للتحقق حين يصاب أكثر من 60 في المئة من السكان بالفيروس”، ولكنه يؤكد أن “زيادة المناعة هي بلا شك جزء من الإستراتيجية الأوسع للحكومة السويدية، أو على الأقل نتيجة محتملة لإبقاء المدارس والمطاعم ومعظم الشركات مفتوحة”.
ضمن هذا السياق، يتوقع أندرس تيغنيل ، كبير علماء الأوبئة في وكالة الصحة العامة السويدية، أن تصل مدينة استوكهولم إلى “مناعة القطيع” في وقت مبكر من شهر أيار/مايو الحالي، في وقت يرى عالم الرياضيات في جامعة استوكهولم طوم بريتون أنه استناداً إلى الافتراضات السلوكية المحدثة (تغيّر معايير التباعد الاجتماعي) فإنّ الوصول إلى 40 في المئة من المناعة في العاصمة السويدية قد يكون كافياً لوقف انتشار الفيروس هناك، مشيراً إلى أن هذا الأمر يمكن أن يحدث بحلول منتصف حزيران/يونيو.
صحيح أن السويد نالت بعض الثناء لحفاظها على بعض مظاهر الحياة الاقتصادية، وابقائها على معدل وفيات أقل من مثيلاته في بلجيكا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وإسبانيا وبريطانيا، إلا أنها تعرضت في الوقت ذاته لانتقادات في أوساط أخرى بسبب تجاوزها معدلات الوفيات في دول الشمال الأوروبي الأخرى، وعلى وجه الخصوص، بسبب فشلها في حماية سكانها المسنين والمهاجرين.
الجدير بالذكر أن الأشخاص الذين يتلقون خدمات التمريض ورعاية المسنين يمثلون ما يصل إلى 50 في المئة من وفيات كورونا في السويد، وفقاً لتيغنيل، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن العديد من المرافق كانت بطيئة بشكل كبير في تنفيذ تدابير الحماية الأساسية مثل وضع الكمامات.
كذلك، فقد عانى المهاجرون في هذا البلد من تداعيات فيروس كورونا أكثر من غيرهم، ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى أنهم أكثر فقراً، ويميلون إلى العمل في قطاع الخدمات، حيث عادة ما يكون العمل عن بعد مستحيلًا.
مع ذلك، تجادل السلطات السويدية بأن ارتفاع معدل الوفيات في البلاد سيبدو أقل نسبياً في وقت متأخر.
نائبة رئيس الوزراء السويدية إيزابيلا لوفين دافعت عن هذه الاستراتيجية، في مقابلة مع قناة “بي بي سي”، مشيرة إلى أن بلادها تتعامل مع جائحة كورونا باعتبارها “ماراثوناً وليس سباقاً للسرعة”.
نائبة رئيس الوزراء السويدية إيزابيلا لوفين اشارت إلى أن بلادها تتعامل مع جائحة كورونا باعتبارها “ماراثوناً وليس سباقاً للسرعة”.
تنطلق التنظيرات المروجة للتجربة السويدية، بما في ذلك المقال المنشور في “فورين أفيرز” من أن محاولات احتواء الفيروس محكوم عليها بالفشل في العديد من البلدان، وأن نسبة كبيرة من الناس ستُصاب فيه في النهاية، ولذلك ترى كتابه يجادلون بأنه “في الوقت الذي سيواجه قسم كبير من العالم موجة ثانية مميتة، ستكون السويد قد ألقت بالسيناريو الأسوأ خلف ظهرها”.
ومع أن كتّاب المقال يقرّون بأن “استجابة السويد لم تكن مثالية”، إلا أن نقطة قوتها بنظرهم تكمن في أنها “نجحت في تعزيز المناعة بين الشباب والأصحاء – أولئك المعرضين أقل لخطر الإصابة بمضاعفات خطيرة جراء فيروس كورونا – علاوة على أنها أفلحت في تسوية المنحنى الوبائي”.
وعلى هذا الأساس، يخلصون إلى أنه “سواء تبنّت دول العالم النهج السويدي بشكل علني أم لم تفعل، فإن العديد من البلدان تحاول الآن محاكاة جوانب منه”، في إشارة إلى الدنمارك وفنلندا اللتين أعادتا فتح المدارس للأطفال والطلبة الصغار، وألمانيا التي سمحت بإعادة فتح المحلات التجارية الصغيرة. وإيطاليا التي تستعد لإعادة فتح الحدائق قريباً، وفرنسا التي تعد خطة للسماح بإعادة فتح بعض الشركات والمرافق غير الأساسية، بما في ذلك أسواق المزارعين والمتاحف الصغيرة بالإضافة إلى المدارس ومراكز الرعاية النهارية.
ما سبق ينطبق على الولايات المتحدة، التي تعمل على تخفيف القيود بناء على توصية الرئيس دونالد ترامب، وهو برغم انتقاده الشديد للنموذج السويدي، يدفع ببلاده نحو شيء مشابه جداً.
ثمة أسباب وجيهة لكي تبدأ البلدان في تخفيف قيودها. سوف يستغرق الأمر عدة سنوات لإحصاء العدد الإجمالي للوفيات وحالات الإفلاس والتسريح من العمل والانتحار ومشاكل الصحة العقلية والخسائر في الناتج المحلي الإجمالي والاستثمارات والتكاليف الأخرى التي لا تعزى فقط إلى الفيروس ولكن إلى التدابير المستخدمة لمكافحته.
ومع ذلك، يجب أن يكون واضحاً بالفعل أن التكاليف الاقتصادية والاجتماعية لعمليات الإغلاق باهظة: تشير تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن كل شهر من القيود المتعلقة بالوباء سيقلص اقتصاديات الدول المتقدمة بنسبة اثنين في المئة.
ووفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ستشهد اقتصادياتها تقلصاً بأكثر من 25 في المئة في غضون عام، في وقت ترتفع البطالة إلى مستويات لم يسمع بها منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، ما أدى إلى تأجيج ردود الفعل السياسية وتعميق الانقسامات الاجتماعية.
عمليات الإغلاق ببساطة ليست مستدامة، وقد لا تتحملها الاقتصاديات طوال الوقت الذي سيستغرقه تطوير اللقاح ضد “كورونا”، وبالتالي فإنّ تخفيف اجراءات الإغلاق من شأنها أن تخفف من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. قد يسمح ذلك أيضاً للسكان بتطوير مناعة قد يُنظر إليها في نهاية المطاف على أنها الطريقة الأقل سوءاً لمحاربة كوفيد-19 على المدى الطويل.
عمليات الإغلاق ببساطة ليست مستدامة، وقد لا تتحملها الاقتصاديات طوال الوقت الذي سيستغرقه تطوير اللقاح ضد “كورونا”
مع ذلك، فإنّ التوقعات الاقتصادية في السويد نفسها لا تبعث على التفاؤل في نجاعة استراتيجيتها، فبحسب وزيرة المال ماجديلينا اندرسون فإنّ الناتج المحلي السويدي يمكن أن ينكمش بنسبة 10 في المئة خلال العام الحالي، وقد ترتفع البطالة إلى 13.5 في المئة.
ولكن هناك من يجادل بأن السويد هي اقتصاد يعتمد على التصدير، وبالتالي فإنّ المؤشرات السلبية المتوقعة تعود بالدرجة الأولى إلى أن الاقتصاد العالمي بات مغلقاً بالفعل، وهو ما يقود المدافعين عن استراتيجية “مناعة القطيع” إلى الدفاع عن النهج السودي باعتباره صالحاً لأن يكون نموذجاً عالمياً.
وبموازاة الجدل الاقتصادي، ثمة نقاط جدل حاد يفرضه طبيعة فيروس كورونا نفسه، لا سيما أن المعلومات حوله في المجتمع العلمي ما زالت غير مفهومة جيداً، وأن الدول التي اتبعت اجراءات العزل الصارمة تنتظر تفشياً جديداً وأكثر شدة في المستقبل القريب، وهو ما يقدّم حجة إضافية لصالح نظرية مفادها أنه في حال اتبعت هذه البلدان المسار السويدي، ووصلت بالتالي إلى “مناعة القطيع”، فسوف تنخفض التكلفة الإجمالية للوباء، ومن المرجح أن ينتهي في وقت أقرب.
في وقت لا يزال العلماء يبحثون عن مزيد من المعطيات بشأن فيروس كورونا، وفي وقت تحاول السلطات تطوير طرق جديدة وأفضل للتغلب على الوباء، فإنّ تبرير عمليات الإغلاق العامة بات صعباً، وهو يطرح معادلات جديدة تركّز على حقيقة أن كلفة حماية الأشخاص الأكثر عرضة للمضاعفات المترتبة على الفيروس أقل بكثير من كلفة إجبار المجتمع بأكمله على البقاء في المنزل.
هذا ما يجعل استراتيجية “مناعة القطيع” من بين الخيارات التي قد تفرض نفسها في المرحلة المقبلة، فمع تزايد الخسائر المترتبة على عمليات الإغلاق، قد تجد بعض الدول نفسها مضطرة إلى إدارة الوباء بدلاً من هزيمته، باعتباره الخيار الواقعي الوحيد.
ولكن “مناعة” السويد تبقى موضع تشكيك، أو على الأقل موضع جدل، في الوسط العلمي، ففي الرابع والعشرين من نيسان/ابريل الماضي، انتقدت مجموعة من 22 طبيباً وعالماً في شؤون الفيروسات وباحثاً في وكالة الصحة العامة السويدية، في مقال رأي نشرته “داغنز نيهيتر”، صحيفة الأعمال الرائدة في البلاد، استراتيجية “مناعة القطيع”، مشددين على ضرورة “تغيير النهج القائم بشكل جذري وسريع”.
وفي آذار/مارس الماضي، قالت سيسيليا سودربرغ نوكلير، باحثة علم المناعة الفيروسية في معهد كارولينسكا لصحيفة “الغارديان” أن النهج السويدي “يقودنا إلى كارثة”… وبعد شهر، لم تغير الباحثة رأيها، اذ قالت في مقابلة صحافية “لا أرى أي مؤشر على أننا لا نتجه إلى هناك (الكارثة) في استوكهولم”.
تذهب نوكلير ابعد من ذلك في انتقادها للاستراتيجية السويدية، إذ تشكك في معدلات الوفيات المعلنة من قبل الهيئة الصحية السويدية (0.1 في المئة)، مستندة إلى حقيقة أنه بين 27 آذار/مارس و3 نيسان/ابريل اختبرت الحكومة السويدية بشكل عشوائي 773 شخصاً، ووجدت أن معدل الإصابة 2.5 في المئة في استوكهولم. واستناداً إلى ذلك، كان من المفترض إصابة ما يقرب من 58000 شخص من جهة، وبالتالي 58 حالة وفاة تقريباً بعد ثلاثة أسابيع، لكن استوكهولم تجاوزت حاجز 1022 حالة وفاة، ما يشير إلى أن معدل الوفيات يقترب من 1.7 في المئة وليس 0.1 في المئة، على حد قولها.
لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن فكرة “مناعة القطيع” هي في الأساس فكرة مثيرة للجدل، فقد قال رولاند كاو ، عالم الأحياء الرياضي الذي يدرس ديناميكيات الأمراض المعدية في جامعة أدنبره: “لا أعرف كم من الوقت ستستمر هذه (المناعة)، والتي من شأنها أن تثير بعض الشكوك حول جدوى هذا النهج”، مذكراً بأن هولندا والمملكة المتحدة اتبعتا في البداية نهج “مناعة القطيع” وسرعان ما تراجعتا عنه بعدما أظهرت التوقعات أن الحالات سترتفع ويغرق معها النظام الصحي.
ربما هذا ما يدفع مسؤولين سويديين أمثال تغنيل على التذكير دوماً بأنّ “مناعة القطيع” ليست استراتيجية يمكن تعميمها بل “حالة يمكن تحقيقها”.
ووفقاً لتغنيل فإنّ سياسات السويد في هذا الوباء كانت مستنيرة بالعلم، ولكنها استندت إلى سلوكيات السويديين أنفسهم.
والواقع، ان نهج السويد تجاه فيروس كورونا يعكس الثقافة المميزة للبلد، وقد لا يكون من السهل تكرار جوانب منه في مكان آخر.
على وجه الخصوص ، ولا سيما حين يتعلق الأمر بعلاقة الثقة بين الشعب والمؤسسات الحكومية، فقد تم إعداد السويديين جيداً للالتزام بالتوصيات الطوعية، وأخذها على محمل الجد، وهو سلوك قد لا يكون متاحاً في دول أخرى.
علاوة على ما سبق، فإنّ السويديين عموماً أكثر صحة من مواطني العديد من البلدان الأخرى، لذلك قد تكون الاحتياطات الإضافية ضرورية لحماية العجزة في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك الدول الغربية.
هذا ما يجعل حتى المروّجين لنموذج “الاستثناء السويدي” حذرين في مقارباتهم، ولهذا تراهم يدعون إلى التعلم من أخطاء السويد عندما يتعلق الأمر بالمسنين والمهاجرين، والتركيز بشكل أكبر على حماية العاملين في قطاع الخدمات.
كل هذا الجدل يعكس أن فيروس كورونا قد فرض نفسه لاعباً أساسياً في سياسات الدول ومقارباتها للمستقبل المنظور، لا سيما أن أفق المعركة ضده ما زال بعيداً، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأننا قادمون على صراع نظريات عنوانها العريض كيف يمكن التعايش مع الوباء طالما أن شبحه العابر للقارات سيستمر في إلقاء ظلاله على العالم لفترة غير قصيرة!