هل أخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغرب على حين غرة؟ قطعاً لا؛ فأجهزة الإستخبارات الأميركية والبريطانية كانت تتوقع حصول الحرب منذ أشهر وتتوقع التوغل العسكري الروسي “في أي وقت” على ما دأب يكرر وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن.. كما أن وسائل إعلام غربية ذهبت إلى تحديد ساعة الصفر.
ومع ذلك، كان ثمة رهان على أن التهديد بتدمير الإقتصاد الروسي وخصوصاً حرمانه من خط أنابيب الغاز “نورد ستريم-2” إلى ألمانيا (أصلاً لم يعمل الخط برغم إنجازه في كانون الأول/ ديسمبر الماضي)، وتعزيز القوات الأطلسية في الجمهوريات السوفياتية السابقة وإقامة الجسور الجوية مع كييف لنقل السلاح “الفتاك” إلى الجيش الأوكراني وإعادة تذكير بوتين بشبح أفغانستان، وبأن الأوكرانيين يستعدون لحرب عصابات تستنزف الجيش الروسي، كلها عوامل من شأنها أن تقنع الكرملين بالتراجع عن شن حرب بدت في الدعاية الغربية وكأنها ستجعل روسيا تواجه مصيراً كذاك الذي واجهه الإتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود.
لقد مضى المسؤولون الأميركيون والأوروبيون في تصوير بوتين على أنه متعطش بأي شكل إلى إحياء الإمبراطورية السوفياتية، ومد الهيمنة الروسية إلى الدول المجاورة، أكثر منه كباحث عن ضمانات لوقف زحف حلف شمال الأطلسي نحو حدود روسيا، أو كساعٍ لإستعادة إحترام روسيا بين الأمم.
بعد أوكرانيا، سيجد الغرب نفسه أمام معادلة مؤلمة ألا وهي إنهيار النظام الأمني الذي قام قبل 30 عاماً، وأن لا مناص من العودة إلى الحوار مع الكرملين بحثاً عن نظام جديد تكون روسيا في صلبه
ما أخفق بوتين في الحصول عليه بالديبلوماسية في الأشهر الماضية، وبينهما قمتان مع الرئيس الأميركي جو بايدن وقمم مع مختلف الزعماء الأوروبيين، يعمد الآن إلى تكريسه بالوسائل العسكرية، في تجسيد عملي لمقولة أن الحرب إستمرار للديبلوماسية بوسائل أخرى. وبذلك، دفع الجدل السياسي من مسألة البحث في إنضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، إلى مسألة الدفاع عن الدول الأعضاء في الحلف، فإذا بالجهد الغربي ينصب الآن على حماية أستونيا ولاتفيا وليتوانيا.. فهذه جمهوريات تضم أقليات روسية معتبرة، فماذا لو قرر بوتين التدخل لحمايتها على غرار الأقلية الروسية في دونيتسك ولوغانسك بحوض الدونباس في شرق أوكرانيا؟
في مقالة له في صحيفة “الإندبندنت” البريطانية، يُحذّر قائد القوات البريطانية في جنوب العراق عام 2007 الميجور جنرال المتقاعد جوناثان شو، من أن بوتين هو لاعب جودو ويدرك تماماً أنه يتعين عليه توجيه الضربة القاضية للخصم عندما يكون الأخير في حال من عدم التوازن، في تلميح إلى حال الغرب الآن بعد أوكرانيا.
رئيس تحرير مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية جاكوب هيلبرون، يتساءل هل سيُقيم بوتين جسراً برياً إلى كاليننغراد عبر ليتوانيا، مخاطراً بمواجهة مباشرة مع حلف شمال الأطلسي؟ ثم يقيم مقارنة بين خطاب بوتين في 21 شباط/ فبراير الجاري وتهديد نيكيتا خروتشيف بالحرب النووية عندما حذر في خضم أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 من أن “كل من تسوّل له نفسه التدخل في شؤوننا، أو خلق تهديدات لبلدنا أو لشعبنا، يجب أن يعرف أن روسيا سترد عليه فوراً بما يؤدي به إلى عواقب لم يشهدها في تاريخه”.
فهل كان الرئيس الأميركي جو بايدن وزعماء أوروبا فعلاً على إقتناع بأن العقوبات الواسعة وتعزيز الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، ستشكل رادعاً أمام روسيا وتجعل بوتين ينكفىء إلى داخل حدوده، في إنتظار أن يُحدّد له حلف شمال الأطلسي أي خط عرض يجب أن تتمركز فيه قواته، وأن يقرأ كل ليلة في كتاب الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما عن “نهاية التاريخ”، وأن يقر بأن بوريس يلتسين كان على صواب.
بعد أوكرانيا، سيجد الغرب نفسه أمام معادلة مؤلمة ألا وهي إنهيار النظام الأمني الذي قام قبل 30 عاماً، وأن لا مناص من العودة إلى الحوار مع الكرملين بحثاً عن نظام جديد تكون روسيا في صلبه، وإلا كيف يمكن لأي صيغة أن تحقق الإستقرار والسلام في أوروبا وروسيا بعيدة عنها. وهذا ما جرى تجربته منذ 1991 وثبت فشله مع دخول الدبابة الروسية الأولى إلى أوكرانيا.
تخوض روسيا في أوكرانيا معركة تغيير النظام الدولي الذي أعلنه جورج بوش الأب بعد سقوط جدار برلين وحرب الخليج الأولى، إمتداداً إلى حرب بيل كلينتون على صربيا عام 1999، والحربين اللتين شنهما بوش الأبن في أفغانستان والعراق في أعقاب الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. في تلك المغامرات، تمكنت أميركا من إعادة تشكيل العالم وفق رؤيتها.
تخوض روسيا في أوكرانيا معركة تغيير النظام الدولي الذي أعلنه جورج بوش الأب بعد سقوط جدار برلين وحرب الخليج الأولى، إمتداداً إلى حرب بيل كلينتون على صربيا عام 1999
مع الدخول الروسي إلى أوكرانيا، تجد أوروبا نفسها أمام أكبر تغيير جيوسياسي منذ إنتهاء الحرب الباردة، لا بل إن الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل وصف الأمر بأنه “أحلك وقت” تواجهه القارة منذ الحرب العالمية الثانية. ولم تخفِ رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، أن هناك من يحاول “إعادة كتابة التاريخ”. والأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ يُحذّر أنه من غير المسموح إعادة إحياء الحرب الباردة. أما رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون (خلف ونستون تشرشل مطلق كلمة الستار الحديدي على روسيا عام 1946) فقد تعلق بحبل أوكرانيا للنجاة من السقوط بسبب فضيحة “ليلة الشمبانيا” في مقر “10 داونينغ ستريت” بينما بريطانيا كانت تحت القيود المفروضة لمكافحة وباء كورونا.
ولا شك أن الغرب سيسعى إلى إحتواء الهجوم الروسي وجعله يرتد على روسيا نفسها من طريق ضربها إقتصادياً وتكبيلها بالعقوبات المشلة وعزلها سياسياً.
ربما ثمة في الولايات المتحدة وبعض الدول الأطلسية من يعتقد أنه في الإمكان تكرار تجربة صربيا أيام سلوبودان ميلوسيفيتش، من طريق العزل وتحويلها إلى دولة منبوذة في العالم ودعم الجماعات المعارضة لبوتين في الداخل، لا سيما بعد تدمير الإقتصاد الروسي بواسطة العقوبات والعزلة الدولية.
لكن هل مثل هذا السيناريو قابل للتطبيق في وقت تتوافر بدائل أمام روسيا. فالغاز الروسي الذي يتدفق الآن نحو أوروبا، يمكن أن يتدفق نحو الجار الصيني، الذي ليس من مصلحته أن ينتصر الغرب على روسيا، لأنه يعلم أن الصين ستكون الهدف التالي للغرب. ولا ينقص أميركا الذرائع للتدخل في المحيط الهادىء.
الرسالة التي يبعث بها بوتين بعد أوكرانيا أن الأيام التي كانت تهادن فيها روسيا عملية توسيع الأطلسي نحو حدودها قد باتت من الماضي. ويرى جيفري أرنسون الزميل المساعد في مؤسسة الشرق الأوسط في واشنطن والمستشار الأمني السابق للإتحاد الأوروبي في مقالة بمجلة “ذا ناشيونال إنترست”، أن “صعود بوتين نفسه كان نتيجة العيوب التي إعترت الإفتراضات الأمنية التي سيّرت السياسة الأميركية والأطلسية بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي”.